القول في تأويل قوله:وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
قال أبو جعفر:يعني جل ثناؤه بقوله:"وكيف تأخذونه "، وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن، إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجًا ="وقد أفضى بعضكم إلى بعض "، فتباشرتم وتلامستم.
* * *
وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام، فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر:"كيف تفعل كذا وكذا، وأنا غير راضٍ به؟"، على معنى التهديد والوعيد. (5)
* * *
وأما "الإفضاء "إلى الشيء، فإنه الوصول إليه بالمباشرة له، كما قال الشاعر:(6)
[بَلِينَ] بِـلًى أَفْضَـى إلَـى [كُلِّ] كُتْبَـةٍ
بَـدَا سَـيْرُهَا مِـنْ بَـاطِنٍ بَعْدَ ظَاهِرِ (7)
يعني بذلك أن الفساد والبلى وصل إلى الخُرَز. والذي عُني به "الإفضاء "في هذا الموضع، الجماعُ في الفرج.
* * *
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه:وكيف تأخذون ما آتيتموهن، وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8914 - حدثني عبد الحميد بن بيان القَنّاد قال، حدثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال:الإفضاء المباشرة، ولكنّ الله كريم يَكْني عما يشاء.
8915 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس قال:الإفضاء الجماع، ولكن الله يَكني.
8916 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال:الإفضاء هو الجماع.
8917 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقد أفضى بعضكم إلى بعض "، قال:مجامعة النساء.
8918 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
8919 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض "، يعني المجامعة.
* * *
القول في تأويل قوله:وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قال أبو جعفر:أيْ:ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم، (8) من عهد وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم، من إمساكهن بمعروف، أو تسريحهنّ بإحسان.
* * *
وكان في عقد المسلمين النكاحَ قديمًا فيما بلغنا - أن يقال لناكح:"آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرِّحن بإحسان "!
8920 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ". والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم:"آلله عليك لتمسكنَّ بمعروف أو لتسرحن بإحسان ". (9)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الميثاق "الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ".
فقال بعضهم:هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
*ذكر من قال ذلك:
8921 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
8922 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك مثله.
8923 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على الرجال،فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. قال:وقد كان ذلك يؤخذ عند عَقد النكاح.
8924 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:أما "وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، فهو أن ينكح المرأة فيقول وليها:أنكحناكَها بأمانة الله، على أن تمسكها بالمعروف أو تسرِّحها بإحسان.
8925 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:"الميثاق الغليظ "الذي أخذه الله للنساء:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وكان في عُقْدة المسلمين عند نكاحهن:"أيْمُ الله عليك، لتمسكن بمعروف ولتسرحَنّ بإحسان ".
8926 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الحسن ومحمد بن سيرين في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
* * *
وقال آخرون:هو كلمة النكاح التي استحلَّ بها الفرجَ.
*ذكر من قال ذلك:
8927 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:كلمة النكاح التي استحلَّ بها فروجهن.
8928 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد مثله.
8929 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا &; 8-129 &; سفيان، عن أبي هاشم المكي، عن مجاهد في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:قوله:"نكحتُ". (10)
8930 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن كعب القرظي:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:هو قولهم:"قد ملكتَ النكاح ".
8931 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:كلمة النكاح.
8932 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:الميثاق النكاح.
8933 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني سالم الأفطس، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:كلمة النكاح، قوله:"نكحتُ".
* * *
وقال آخرون:بل عنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ". (11)
*ذكر من قال ذلك:
8934 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر وعكرمة:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قالا أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
8935 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، &; 8-130 &; عن أبيه، عن الربيع:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، والميثاق الغليظ:أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
* * *
قال أبو جعفر:وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك، قولُ من قال:الميثاق الذي عُني به في هذه الآية:هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عُقْدة النكاح من عهدٍ على إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان، فأقرَّ به الرجل. لأن الله جل ثناؤه بذلك أوصى الرجالَ في نسائهم.
* * *
وقد بينا معنى "الميثاق "فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (12)
* * *
واختلف في حكم هذه الآية، أمحكمٌ أم منسوخ؟
فقال بعضهم:محكم، وغير جائز للرجل أخذُ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدةَ الطلاقَ.
* * *
وقال آخرون:هي محكمة، غير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدةَ للطلاق أو هو. وممن حُكي عنه هذا القول، بكر بن عبد الله بن المزني.
8936 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال:سألت بكرًا عن المختلعة، أيأخذ منها شيئًا؟ قال:لا "وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ". (13)
* * *
قال آخرون:بل هي منسوخة، نسخها قوله:وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ[سورة البقرة:229].
*ذكر من قال ذلك:
8937 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍإلى قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا "، قال:ثم رخص بعدُ فقال:وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ[سورة البقرة:229]. قال:فنسخت هذه تلك.
* * *
قال أبو جعفر:وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال:"إنها محكمة غير منسوخة "، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها.
وذلك أن الناسخ من الأحكام، ما نَفَى خلافه من الأحكام، على ما قد بيَّنا في سائر كتبنا. (14) وليس في قوله:وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، نَفْي حكمِ قوله:فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ[سورة البقرة:229]. لأن الذي حرَّم الله على الرجل بقوله:وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا، أخذُ ما آتاها منها إذا كان هو المريدَ طلاقَها. وأما الذي أباح له أخذَه منها بقوله:فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، فهو إذا كانت هي المريدةَ طلاقَه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع. (15) &; 8-132 &; وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يجز أن يُحكم لإحداهما بأنها ناسخة، وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجبُ التسليم لها.
وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني (16) =:من أنه ليس لزوج المختلعة أخذُ ما أعطته على فراقه إياها، إذا كانت هي الطالبةَ الفرقةَ، وهو الكاره = فليس بصواب، لصحة الخبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمرَ ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقِها إذ طلبت فراقه، (17) وكان النشوز من قِبَلها. (18)
----------------
الهوامش:
(5) في المطبوعة:"التهديد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(6) لم أعرف قائله.
(7) كان في المخطوطة والمطبوعة:
بِـــلًى أَفْضَـــى إِلَــى كتْبَــةٍ
بَـدَا سَـيرُها مِـنْ بَـاطِنٍ بَعد ظاهِر
بياض في الأصل بين الكلمات ، وقد زدت ما بين الأقواس اجتهادًا واستظهارًا ، حتى يستقيم الشعر. و"الكتبة"(بضم فسكون) ، هي الخرزة المضمومة التي ضم السير كلا وجهيها ، من المزادة والسقاء والقربة. يقال:"كتب القربة":خرزها بسيرين. وهذا بيت يصف مزادًا أو قربًا ، قد بليت خرزها بلى شديدًا فقطر الماء منها ، فلم تعد صالحة لحمل الماء.
(8) في المخطوطة والمطبوعة:"ما وثقت به لهن على أنفسكم"، واختلاف الضمائر هنا خطأ ، وصوابه ما أثبت:"وثقتم". وانظر تفسير"الميثاق"فيما سلف 1:414 / 2:156 ، 228 ، 356 / 6:550.
(9) في المطبوعة:"وقد كان في عهد المسلمين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(10) الأثر:8929 -"أبو هاشم المكي"، هو:إسماعيل بن كثير ، صاحب مجاهد. قال ابن سعد:"ثقة كثير الحديث". روى عنه سفيان الثوري ، وابن جريج ، ومسعر بن كدام ، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
(11) انظر الأثرين السالفين رقم:8905 ، 8906.
(12) انظر ما سلف 1:414 / 2:156 ، 157 ، 288 / 6:550.
(13) الأثر:8936 - مضى هذا الأثر برقم:4877 ، وكان فيه هنا ، كما كان هناك"عقبة بن أبي المهنا"، فانظر التعليق عليه هناك ، والمراجع مذكورة فيه ، وقد زاد أبو جعفر هناك ، إسنادًا آخر ، عن عقبة بن أبي الصهباء ، عن بكر بن عبد الله المزني ، لهذا الأثر ، وهذا أحد الدلائل على اختصار أبي جعفر لتفسيره هذا.
(14) انظر ما سلف ، ما قاله في كتابه هذا في"النسخ"فيما سلف 3:385 ، 635 / 4:582 / 6:54 ، 118.
(15) انظر ما سلف 4:549 - 585 ، وانظر كلامه في الناسخ والمنسوخ من الآيتين في ص:579 -583 ، من الجزء نفسه.
(16) انظر رد أبي جعفر مقاله بكر بن عبد الله المزني فيما سلف 4:581 ، 582 ، وقال هناك:إنه"قول لا معنى له ، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه".
(17) في المخطوطة والمطبوعة:"إن طلبت فراقه"، والصواب"إذ"كما أثبته.
(18) انظر الأحاديث والآثار فيما سلف رقم:4807 -4811 ، والتعليق عليها ، وهو خبر ثابت بن قيس بن شماس.