( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) إنكار آخر لأخذ شيء من مال المرأة مع إيحاشها بالطلاق والرغبة عنها أكد به الإنكار الأول مبالغة في التنفير أو الاستفهام للتعجب من حال من تمتع بامرأته وعاملها معاملة الأزواج وهي أشد صلة حيوية بين البشر ثم رغب عنها وأراد فراقها من غير أن تتوسل إلى ذلك أو تلجئه إليه بارتكاب الفاحشة المبينة أو عدم إقامة حدود الله ، ولم يتأثم مع ذلك من أكل شيء من مالها الذي كان آتاها حال الإقبال عليها والرغبة فيها .يقول كيف تأخذون ذلك الشيء من مالهن والحال أنكم قد أفضيتم إليهن أي خلصتم ووصلتم إليهن ذلك الخلوص الخاص بالزوجين الذي يتحقق به معنى الزوجية تمام التحقق فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما حقيقة واحدة ، ولأجله يعبر بها عن كل منهما باللفظ المفرد الدال على التثنية"زوج "وبه يتكون منهما الولد الذي هو واحد نسبته إلى كل منهما واحدة ؟ أبعد هذا الإفضاء والملابسة يصح أن يكون الواصل الباذل هو القاطع للصلة العظيمة طامعا في مال الآخر المظلوم ولسان الحق يقول:
وبتنا وما بيني وبينك ثالث *** كزوج حمام أو كغصنين هكذا
فمن بعد هذا الوصل والود كله *** أكان جميلا منك تهجر هكذا
وقال بعض الفقهاء إن المراد بالإفضاء هنا الخلوة الصحيحة ؛ وإن لم تحصل فيها الملامسة المقصودة ، وهم إنما يفسرون بما يوافق قواعدهم وإن لم يتفق مع الأسلوب العربي البليغ فالجملة من باب الكناية وإنما تكون فيما لا يحسن التصريح به .ويؤيده تعدية الإفضاء بإلى الدال على منتهى الاتصال .وهذا من حسن نزاهة القرآن في التعبير وأدبه العالي في الخطاب ومن الدقة فيه ما ذكره الأستاذ الإمام من نكتة التعبير بقوله"بعضكم إلى بعض "أي مع كون الظاهر ان يقول وقد أفضيتم إليهن أو أفضى أحدكم إلى الآخر وهي إشارة إلى كون كل واحد من الزوجين بمنزلة جزء الآخر وبعضه المتمم لوجوده فكأن بعض الحقيقة كان منفصلا عن بعضها الآخر فوصل إليه بهذا الإفضاء واتحد به .
ثم قال:( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) أي عهدا شديدا موثقا يربطكم بهن أقوى الربط وأحكمه .وقد روي عن قتادة وغيره أن هذا الميثاق هو ما أخذه الله للنساء على الرجال بقوله:( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) [ البقرة:229] قال وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال:الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان .وعن مجاهد أنه كلمة النكاح أي صيغة العقد التي حلت به المرأة للرجل وقال بعضهم:هو ما أمر الله تعالى به الرجال من معاشرتهن بالمعروف كما في الآية التي قبل هذه .
وقال الأستاذ الإمام:إن هذا الميثاق الذي أخذه النساء من الرجال لا بد أن يكون مناسبا لمعنى الإفضاء في كون كل منهما من شؤون الفطرة السليمة وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة:( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم:21] فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليه المرأة في ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والرضا بالاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء ، فمن آيات الله تعالى في هذا الإنسان أن تقبل المرأة بالانفصال من أهلها ذوي الغيرة عليها لأجل الاتصال بالغريب تكون زوجا له ويكون زوجا لها تسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة والرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى ، فكأنه يقول:إن المرأة لا تقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها إلا وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة ، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها وإحكاما .وإنما يفقه هذا المعنى الإنسان الذي يحس إحساس الإنسانية ، فليتأمل تلك الحالة التي ينشئها الله تعالى بين الرجل وامرأته يجد أن المرأة أضعف من الرجل وأنها تقبل عليه وتسلم نفسها إليه مع علمها بأنه قادر على هضم حقوقها فعلى أي شيء تعتمد في هذا الإقبال والتسليم ؟ وما هو الضمان الذي تأخذه عليه والميثاق الذي تواثقه به ؟ ماذا يقع في نفس المرأة إذا قيل لها إنك ستكونين زوجا لفلان ؟ إن أول شيء يخطر في بالها عند سماع مثل هذا القول أو التفكر فيه وإن لم تسأل عنه هو أنها ستكون عنده على حال أفضل من حالها عند أبيها وأمها وما ذلك إلا لشيء استقر في فطرتها وراء الشهوة ، ذلك الشيء هو عقل إلهي وشعور فطري أودع فيها ميلا إلى صلة مخصوصة لم تعهدها من قبل ، وثقة مخصوصة لا تجدها في أحد من الأهل ، وحنوا مخصوصا لا تجد له موضعا إلا البعل ، فمجموع ذلك هو الميثاق الغليظ الذي أخذته من الرجل بمقتضى نظام الفطرة الذي يوثق به ما لا يوثق بالكلام الموثق بالعهود والإيمان ، وبه تعتقد المرأة أنها بالزواج قد أقبلت على سعادة ليس وراءها سعادة في هذه الحياة وإن لم تر من رضيت به زوجا ، ولم تسمع له من قبل كلاما ، فهذا ما علمنا الله تعالى إياه وذكرنا به- وهو مركوز في أعماق نفوسنا بقوله إن النساء قد أخذن من الرجال بالزواج ميثاقا غليظا ، فما هي قيمة من لا يفي بهذا الميثاق وما هي مكانته من الإنسانية ؟ اه بتصرف ما .
/خ21