القول في تأويل قوله تعالى:إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
يقول تعالى ذكره:ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه, حين يتلقى الملَكان, وهما المتلقيان ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) وقيل:عنى بالقعيد:الرصد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال:ثنا أبو عاصم, قال:ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال:ثنا الحسن, قال:ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( قَعِيدٌ ) قال:رَصَد.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد قعيد, وقد ذُكر من قبل متلقيان, فقال بعض نحويي البصرة:قيل:( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) ولم يقل:عن اليمين قعيد, وعن الشمال قعيد, أي أحدهما, ثم استغنى, كما قال:نُخْرِجُكُمْ طِفْلاثم استغنى بالواحد عن الجمع, كما قال:فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا. وقال بعض نحويي الكوفة ( قَعِيدٌ ) يريد:قعودا عن اليمين وعن الشمال, فجعل فعيل جمعا, كما يجعل الرسول للقوم وللاثنين, قال اللهعزّ وجل:إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَلموسى وأخيه, وقال الشاعر:
أَلِكْــنِي إلَيْهــا وَخَــيْرُ الرَّســو
ل أعْلَمُهُـــمْ بِنَوَاحـــي الخَــبَرْ (1)
فجعل الرسول للجمع, فهذا وجه وإن شئت جعلت القعيد واحدا اكتفاء به من صاحبه, كما قال الشاعر:
نَحْــنُ بِمَــا عِنْدَنَــا وأنْـتَ بِمَـا
عِنْــدَك رَاضٍ والــرَّأيُ مُخْــتَلِفُ (2)
ومنه قول الفَرَزدق:
إنّـي ضَمِنْـتُ لِمَـنْ أتـانِي مـا جَنى
وأَبـي فَكـانَ وكُـنْتُ غَـيرَ غَـدُورِ (3)
ولم يقل:غَدُورَيْن.
----------------------
الهوامش:
(1) البيت لأبي ذؤيب ( اللسان:رسل ) وروايته فيه كرواية المؤلف هنا ، وقد نقلها المؤلف عن معاني القرآن للفراء ( الورقة 309 ) وفي ( اللسان:ألك ):بخبر الرسول . وأعلمهم بهمزة المتكلم في المضارع . وقال في رسل:وفي التنزيل العزيز "إنا رسول رب العالمين "ولم يقل رسل لأن فعولا وفعيلا يستوي فيهما المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع مثل عدو وصديق . وقول أبي ذؤيب "ألكني إليها .... البيت "أراد بالرسول:الرسل ، فوضع الواحد موضع الجمع ، وقولهم:كثر الدينار والدرهم لا يريدون به الدينار بعينه ، إنما يريدون كثرة الدنانير والدراهم . وفي ( اللسان:ألك ):ألكني:أي أبلغ رسالتي ، من الألوك والمألكة ، وهي الرسالة . وقال الفراء في معاني القرآن عند قوله تعالى "عن اليمين وعن الشمال قعيد ":لم يقل قعيدان:وروي عن ابن عباس قال:قعيدان ، عن اليمين عن الشمال ، يريد قعود ( بضم القاف ) وجعل القعيد جمعا ، كما تجعل الرسول للقوم وللاثنين ، كما قال الله:"إنا رسولا رب العالمين "لموسى وأخيه ، وقال الشاعر:"ألكني إليها .... البيت ". أ هـ .
(2) البيت لقيس ابن الخطيم ، وقد تقدم الاستشهاد به ( 10:122 ) من هذه الطبعة شرحناه هناك شرحًا مفسرًا فارجع إليه ثمة . ( وانظر الكتاب لسيبويه 1:38 ) .
(3) البيت للفرزدق ( الكتاب لسيبويه طبعة مصر 1:38 ) وهو من شواهد النحويين في باب التنازع ، فإن قوله كان وكنت يطلب الخبر وهو قوله "غير غدور ". والأصل:وكنت غير غدور . والعرب تحذف في مثل هذا خبر أحد العاملين ، اكتفاء بدلالة خبره على المحذوف . وعند البصريين أن الخبر الموجود هو خبر الثاني لا الأول فقد حذف خبره ، وهو ظاهر في الشاهد الذي قبل هذا ، "نحن بما عندنا ... "إلخ ( وقال الفراء في معاني القرآن الورقة 309 ومثله ) أي مثل الشاهد الذي قبله ، قول الفرزدق:"إني ضمنت ... البيت "، ولم يقل غدورين . وقد نقل المؤلف كلامه .