قوله تعالى:{إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ 17 -18] .
قوله إذ: منصوب بقوله: أقرب ،أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه ،والمراد أن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ،في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال ،لأنه عالم بها لا يخفى عليه منها شيء ،وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة ،كما أوضحه بقوله:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [ الإسراء: 13 -14] ،ومفعول التلقي في الفعل الذي هو يتلقى ،والوصف الذي هو المتلقيان محذوف تقديره ،إذ يتلقى المتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان فيكتبانه عليه .
قال الزمخشري: والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ا ه منه ،والمعنى واضح لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه ،والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان ،وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله .
والقعيد: قال بعضهم: معناه القاعد ،والأظهر أن معناه المقاعد ،وقد يكثر في العربية إطلاق الفعل وإرادة المفاعل ،كالجليس بمعنى المجالس ،والأكيل بمعنى المآكل ،والنديم بمعنى المنادم ،وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم ،وكل ملازم دائماً أو غالباً يقال له قعيد ،ومنه قول متمم بن نويرة التميمي:
قعيدك ألا تسمعيني ملامة *** ولا تنكئي قرح الفؤاد فيجعا
والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ،فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ،وهو أسلوب عربي معروف ،وأنشد له سيبويه في كتابه قولعمرو بن أحمر الباهلي:
رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطوى رمان
وقول قيس بن الخطيم الأنصاري:
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف
وقول ضبائي بن الحارث البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب
فقول ابن أحمر: كنت منه ووالدي بريئاً أي كنت بريئاً منه وكان والدي بريئاً منه .
وقول ابن الخطيم: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض: أي نحن راضون وأنت راض .
وقول ضابىء بن الحارث: فإني وقيار بها لغريب: يعني إني لغريب وقيار غريب ،وهذا أسلوب عربي معروف ،ودعوى أن قوله في الآية:{قَعِيدٌ} هي الأولى أخرت وحذفت الثانية لدلالتها عليها لا دليل عليه ،ولا حاجة إليه كما ترى ،لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول ،ولا دليل عليه .