قوله تعالى : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } . رُوي عن يحيى بن يمان عن يزيد بن زريع عن عطاء الخراساني : { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } قال : " كفيل " . قال أبو بكر : ظنَّ بعض الناس أن ذلك كفالة عن إنسان وليس كذلك ؛ لأن قائل ذلك جعل حمل بعير أجرةً لمن جاء بالصاع وأكّده بقوله أنا به زعيم يعني ضامن ، قال الشاعر :
* وإنّي زَعِيمٌ إِنْ رَجِعْتُ مُمَلَّكًا * بسَيْرٍ يُرَى مِنْهُ الفَرَانِقُ أَزْوَرَا *
أي ضامن لذلك . فهذا القائل لم يضمن عن إنسان شيئاً ، وإنما ألزم نفسه ضمان الأجرة لردِّ الصَّاع . وهذا أصلٌ في جواز قول القائل : " مَنْ حمل هذا المتاع إلى موضع كذا فله درهم " وأنّ هذه إجارة جائزة وإن لم يكن يشارط على ذلك رجلاً بعينه ؛ وكذلك قال محمد بن الحسن في السير الكبير إذا قال أمير الجيش : " من ساق هذه الدواب إلى موضع كذا " أو قال : " من حمل هذا المتاع إلى موضع كذا فله كذا " أن هذا جائز ومن حمله استحقَّ الأجر ؛ وهذا معنى ما ذُكر في هذه الآية . وقد ذكر هشام عن محمد أيضاً فيمن كانت في يده دار لرجل يسكنها فقال : " إن أقمت فيها بعد يومك هذا فأجرة كل يوم عشرة دراهم عليك " أن هذا جائز ، وإن أقام فيها بعد هذا القول لزمه لكل يوم ما سمَّى ، فجعل سكناه بعد ذلك رِضاً ، وكان ذلك إجارة وإن لم يقاوله باللسان . وفي الآية دلالة على ذلك ؛ لأنه قد أخبر أن من رَدَّ الصاعَ استحق الأجر وإن لم يكن بينهما عقد إجارة ، بل فِعْلُهُ لذلك بمنزلة قبول الإجارة . وعلى هذا قالوا فيمن قال لآخر : " قد استأجرتك على حمل هذا المتاع إلى موضع كذا بدرهم " أنه إن حمله استحقّ الدرهم وإن لم يتكلم بقبولها .
فإن قيل : إن هذا لم يكن إجارة لأن الإجارة لا تصح على حمل بعير ، وإن كانت إجارة فهي منسوخة لأن الإجارة لا تجوز في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بأجر معلوم . قيل له : هو أجر معلوم ؛ لأن حمل بعير اسم لمقدارٍ ما من الكيل والوزن ، كقولهم كارة ووِقْرٌ ووَسْقٌ ونحو ذلك ، ولما لم ينكر يوسف عليه السلام ذلك دل على صحته ، وشرائع من قبلنا من الأنبياء حكمها ثابت عندنا ما لم تنسخ .