قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمَانِ } . روى معمر عن عبدالكريم عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر : { إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمَانِ } ، قال : أخذ المشركون عماراً وجماعة معه فعذبوهم حتى قاربوهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كَيْفَ كَانَ قَلْبُكَ ؟ " قال : مطمئن بالإيمان ، قال : " فإِنْ عَادُوا فَعُدْ " . قال أبو بكر : هذا أصلٌ في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ، والإكراهُ المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلفَ إن لم يفعل ما أمره به ، فأُبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر ويعارض بها غيره إذا خطر ذلك بباله ، فإن لم يفعل ذلك مع خطوره بباله كان كافراً . قال محمد بن الحسن : " إذا أكرهه الكفار على أن يشتم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فخطر بباله أن يشتم محمداً آخر غيره فلم يفعل ، وقد شتم النبي صلى الله عليه وسلم كان كافراً ، وكذلك لو قيل له : لتسجدنّ لهذا الصليب ، فخطر بباله أن يجعل السجود لله ، فلم يفعل ، وسجد للصليب كان كافراً ، فإن أعجلوه عن الرويَّة ولم يخطر بباله شيء ، وقال : ما أُكره عليه أو فعل لم يكن كافراً إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان " . قال أبو بكر : وذلك لأنه إذا خطر بباله ما ذكرنا فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ لم يكن مكرهاً على الضمير ، وإنما كان مُكْرهاً على القول ، وقد أمكنه صَرْفُ الضمير إلى غيره ، فمتى لم يفعله فقد اختار إظهار الكفر من غير إكراه فلزمه حكم الكفر . وقوله صلى الله عليه وسلم لعمار : " إنْ عَادُوا فَعُدْ " ، إنما هو على وجه الإباحة لا على جهة الإيجاب ولا على الندب ، وقال أصحابنا : الأفضل أن لا يعطي التقية ولا يظهر الكفر حتى يقتل ، وإن كان غير ذلك مباحاً له ؛ وذلك لأن خبيب بن عديّ لما أراد أهل مكة أن يقتلوه لم يُعْطِهِمُ التقيةَ حتى قُتل ، فكان عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين أفضل من عمار في إعطائه التقية ، ولأن في ترك إعطاء التقية إعزازاً للدين وغيظاً للمشركين ، فهو بمنزلة من قاتل العدو حتى قتل ، فحظّ الإكراه في هذا الموضع إسقاط المأثم عن قائل هذا القول حتى يكون بمنزلة من لم يقل . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ، فجعل المكره كالناسي والمخطىء في إسقاط المأثم عنه ، فلو أن رجلاً نسي أو أخطأ فسبق لسانه بكلمة الكفر لم يكن عليه فيها مأثم ولا تعلق بها حكم .
وقد اختلف الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه وأيمانه ، فقال أصحابنا : " ذلك كله لازم " . وقال مالك والشافعي : " لا يلزمه شيء من ذلك " . والذي يدل على لزوم حكم هذه الأشياء ظاهر قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] ، ولم يفرق بين طلاق المُكْرَهِ والطائع ؛ وقال تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } [ النحل : 91 ] ، ولم يفرق بين عهد المكره وغيره ، وقال : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } [ المائدة : 89 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ طَلاقٍ جَائِزٌ إِلاّ طَلاقَ المَعْتُوهِ " ؛ ويدل عليه أيضاً ما رَوَى يونس بن بكير عن الوليد بن جميع الزهري عن أبي الطفيل عن حذيفة قال : أقبلتُ أنا وأبي ونحن نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توجه إلى بدر ، فأخذنا كفار قريش ، فقالوا : إنكم لتريدون محمداً ؟ فقلنا : لا نريده ، إنما نريد المدينة ، قال : فأعطونا عهد الله وميثاقه لتنصرفُنَّ إلى المدينة ولا تقاتلون معه ؛ فأعطيناهم عهد الله ، فمررنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد بدراً ، فأخبرناه بما كان منا وقلنا : ما تأمر يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَفي لَهُمْ بعَهْدِهِمْ وتَسْتَعِينُ الله عَلَيْهِمْ " ، فانصرفنا إلى المدينة فذلك منعنا من الحضور معهم . فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم إحلاف المشركين إياهم على وجه الإكراه ، وجعلها كيمين الطوع ، فإذا ثبت ذلك في اليمين فالطلاق والعتاق والنكاح مثلها ؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما . ويدل عليه حديث عبدالرّحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ . النِّكَاحُ والطَّلاقُ والرَّجْعَةُ " ، فلمّا سوَّى النبي صلى الله عليه وسلم فيهن بين الجادّ والهازل ؛ ولأن الفرق بين الجد والهزل أن الجادَّ قاصدٌ إلى اللفظ وإلى إيقاع حكمه ، والهازلُ قاصد إلى اللفظ غير مريد لإيقاع حكمه ، علمنا أنه لا حظَّ للإرادة في نفي الطلاق ، وأنهما جميعاً من حيث كانا قاصدين للقول أن يثبت حكمه عليهما ، وكذلك المكره قاصد للقول غير مريد لإيقاع حكمه ، فهو كالهازل سواء .
فإن قيل : لما كان المُكْرَهُ على الكفر لا تَبِينُ منه امرأته ، واخْتَلف حكمُ الطَّوْعِ والإكراه فيه ، وكان الكفرُ يوجب الفرقة كالطلاق ، وجب أن يختلف حكم طلاق المكره والطائع . قيل له : ليس لفظ الكفر من ألفاظ الفرقة لا كنايةً ولا تصريحاً ، وإنما تقع به الفُرْقَةُ إذا حصل كافراً ، والمكره على الكفر لا يكون كافراً ، فلما لم يَصِرْ كافراً بإظهاره كلمة الكفر على وجه الإكراه لم تقع الفرقة ، وأما الطلاق فهو من ألفاظ الفرقة والبينونة ، وقد وجد إيقاعه في لفظ مكلف ، فوجب أن لا يختلف حكمه في حال الإكراه والطوع .
فإن قال قائل : تَسَاوي حال الجِدّ والهَزْلِ في الطلاق لا يوجب تساوي حال الإكراه والطوع فيه ؛ لأن الكفر يستوي حكم جِدِّهِ وهزله ، ولم يَسْتَوِ حالُ الإكراه والطوع فيه . قيل له : نحن لم نقل إن كل ما يستوي جده وهزله يستوي حال الإكراه والطوع فيه ، وإنما قلنا : إنه لما سَوَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الجادِّ والهازل في الطلاق ، علمنا أنه لا اعتبار فيه بالقصد للإيقاع بعد وجود القصد منه إلى القول ؛ فاستدللنا بذلك على أنه لا اعتبار فيه للقصد للإيقاع بعد وجود لفظ الإيقاع من مكلف ، وأما الكفر فإنما يتعلق حكمه بالقصد لا بالقول ، ألا ترى أن من قصد إلى الجد بالكفر أو الهزل أنه يكفر بذلك قبل أن يلفظ به ، وأن القاصد إلى إيقاع الطلاق لا يقع طلاقه إلا باللفظ ؟ ويبيّن لك الفرق بينهما أن الناسي إذا تلفظ بالطلاق وقع طلاقه ، ولا يصير كافراً بلفظ الكفر على وجه النسيان ، وكذلك من غلط بسبق لسانه بالكفر لم يكفر ، ولو سبق لسانه بالطلاق طلقت امرأته ، فهذا يبين الفرق بين الأمرين . وقد رُوي عن عليّ وعمر وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم والنخعي والزهري وقتادة قالوا : " طلاق المكره جائز " . ورُوي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وطاوس وجابر بن زيد قالوا : " طلاق المكره لا يجوز " . وروى سفيان عن حصين عن الشعبي قال : " إذا أكرهه السلطان على الطلاق فهو جائز ، وإن أكرهه غيره لم يجز " . وقال أصحابنا فيمن أُكره بالقتل وتَلَفِ بعض الأعضاء على شرب الخمر أو أكل الميتة ، لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب ، وإن لم يفعل حتى قُتل كان آثماً ؛ لأن الله تعالى قد أباح ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس فقال : { إلا ما اضطررتم إليه } [ الأنعام : 119 ] ، ومن لم يأكل الميتة عند الضرورة حتى مات جوعاً كان آثماً بمنزلة تارك أكل الخبز حتى يموت ، وليس ذلك بمنزلة الإكراه على الكفر ، في أن ترك إعطاء التقيّة فيه أفضل ؛ لأن أكل الميتة وشرب الخمر تحريمه من طريق السمع ، فمتى أباحه السمع فقد زال الحظر وعاد إلى حكم سائر المباحات ، وإظهارُ الكفر محظور من طريق العقل لا يجوز استباحته للضرورات ، وإنما يجوز له إظهار اللفظ على معنى المعاريض والتورية باللفظ إلى غير معنى الكفر من غير اعتقاد لمعنى ما أُكره عليه ، فيصير اللفظ بمنزلة لفظ الناسي والذي يسبقه لسانه بالكفر ، فكان تَرْكُ إظهاره أوْلى وأفضل ، وإن كان موسعاً عليه إظهاره عند الخوف . وقالوا فيمن أُكره على قتل رجل أو على الزنا بامرأة : لا يسعه الإقدام عليه ؛ لأن ذلك من حقوق الناس ، وهما متساويان في الحقوق ، فلا يجوز إحياء نفسه بقتل غيره بغير استحقاق ، وكذلك الزنا بالمرأة فيه انتهاك حرمتها ، بمعنى لا تبيحه الضرورة وإلحاقها بالشين والعار . وليس كذلك عندهم الإكراه على القذف ، فيجوز له أن يفعل من قِبَلِ أن القذف الواقع على وجه الإكراه لا يؤثر في المقذوف ولا يلحقه به شيء . فأحكام الإكراه مختلفةٌ على الوجوه التي ذكرنا ، منها ما هو واجب فيه إعطاء التقية ، وهو الإكراه على شرب الخمر وأكل الميتة ونحو ذلك مما طريقُ حَظْرِهِ السمعُ ، ومنها ما لا يجوز فيه إعطاء التقية ، وهو الإكراه على قتل من لا يستحق القتل ، ونحو الزنا ونحو ذلك مما فيه مظلمةٌ لآدميّ ولا يمكن استدراكه ، ومنها ما هو جائز له فعل ما أُكره عليه ، والأفضل تركه ، كالإكراه على الكفر وشبهه .