/م67
وقوله : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } قد دلّ على جواز ورود الأمر بذبح البقرة : بقرة مجهولة غير معروفة ولا موصوفة ، ويكون المأمور مخيراً في ذبح أدنى ما يقع الاسم عليه .
وقد تنازع معناه الفريقان من نفاة العموم ومن مثبتيه ، واحتج به كل واحد من الفريقين لمذهبه ، فأما القائلون بالعموم فاحتجوا به من جهة وروده مطلقاً فكان ذلك أمراً لازماً في كل واحد من آحاد ما تناوله العموم ، وأنهم لما تعنَّتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراجعة مرة بعد أخرى شدّد الله عليهم التكليف وذمّهم على مراجعته بقوله : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } . وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسُ محمدٍ بيَدِهِ لو اعْتَرَضُوا أدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوها لأَجْزَتْ عَنْهُمْ ولكنّهم شدَّدوا فَشَدّد الله عليهم " . وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعبيدة وأبي العالية والحسن ومجاهد .
واحتج من أبى القول بالعموم بأن الله تعالى لم يعنفهم على المراجعة بدءاً ؛ ولو كان قد لزمهم تنفيذ ذلك على ما ادعيتموه من اقتضاء عموم اللفظ ، لورد النكير في بدء المراجعة ؛ وهذا ليس بشيء ، لأن النكير ظاهر عليهم في اللفظ من وجهين ، أحدهما : تغليظ المحنة عليهم ، وهذا ضرب من النكير كما قال الله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 16 ] . والثاني : قوله { وما كادوا يفعلون } . وهذا يدل على أنهم كانوا تاركين للأمر بدءاً وأنه قد كان عليهم المسارعة إلى فعله .
فقد حصلت الآية على معان :
أحدها : وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله .
والثاني : أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير .
والثالث : جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما يقع الاسم عليه منه .
والرابع : وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة ، إذ لم يلحقهم الذم إلا بترك الأمر المطلق من غير ذكر وعيد .
والخامس : جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه ؛ وذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها ، لأن قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } اقتضى ذبح بقرة أيها كانت ، وعلى أي وجه شاؤوا وقد كانوا متمكنين من ذلك . فلما قالوا : { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } فقال : { إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون } نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها ، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقيل لهم افعلوا ما تؤمرون ، فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أي لون كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو غيرها ، فلما قالوا : { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاؤوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها ، فلما راجعوا نُسِخ ذلك أيضاً وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف .
وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دل أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه يوجب نسخه ، لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه . ومن الناس من يحتج بهذه القصة في جواز نسخ الفرض قبل مجيء وقته ، لأنه قد كان معلوماً أن الفرض عليهم بَدْءاً قد كان بقرة معينة فنسخ ذلك عنهم قبل مجيء وقت الفعل ، وهذا غلط ؛ لأن كل فرض من ذلك قد كان وقت فعله عقيب ورود الأمر في أول أحوال الإمكان واستقر الفرض عليهم وثبت ثم نسخ قبل الفعل ، فلا دلالة فيه إذاً على جواز النسخ قبل مجيء وقت الفعل ؛ وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه .
والتاسع : دلالة قوله : { أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } على أن المستهزىء يستحق سِمَةَ الجهل ، لانتفاء موسى عليه السلام أن يكون من أهل الجهل بنفيه الاستهزاء عن نفسه ، ويدل أيضاً على أن الاستهزاء بأمر الدين من كبائر الذنوب وعظائمها ، لولا ذلك لم يبلغ مأْثَمُهُ النسبة إلى الجهل .
وذكر محمد بن مسعر أنه تقدم إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي قال -وعليَّ جبة صوف وكان عبيد الله كثير المزح- قال : فقال له : أصوف نعجة جُبَّتك أم صوف كبش ؟ فقلت له : لا تجهل أبقاك الله ! قال : وأنى وجدت المزاح جهلاً ؟ فتلوت عليه { أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } قال : فأعرض واشتغل بكلام آخر .
وفيه دلالة على أن موسى عليه السلام لم يكن متعبداً بقتل من ظهر منه الكفر ، وإنما كان مأموراً بالنظر بالقول ، لأن قولهم لنبي الله { أتتخذنا هزواً } كفر وهو كقولهم لموسى { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] . ويدل أيضاً على أن كفرهم هذا لم يوجب فرقة بين نسائهم وبينهم ، لأنه لم يأمرهم بفراقهن ولا تقرير نكاح بينهم وبينهن .