قوله تعالى : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } . قال قتادة : " تامة الخلق وغير تامة الخلق " . وقال مجاهد : " مصورة وغير مصورة " . وقال ابن مسعود : " إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها مَلَكٌ بكفه فقال : يارب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن كانت مخلقة قذفتها الأرحام دماً وإن كانت مخلقة كتب رزقه وأجله ذكر أو أنثى شقيّ أو سعيد " . وقال أبو العالية : " غير مخلقة السقط " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { مِنْ مُضْغَةٍ مُخلَّقَة } ظاهره يقتضي أن لا تكون المضغة إنساناً كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب ، وإنما نبهنا بذلك على تمام قدرته ونفاذ مشيئته حين خلق إنساناً سويّاً معدلاً بأحسن التعديل من غير إنسان ، وهي المضغة والعلقة والنطفة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب ولا تعديل الأعضاء ، فاقتضى أن لا تكون المضغة إنساناً كما أن النطفة والعلقة ليستا بإنسان ، وإذا لم تكن إنساناً لم تكن حملاً فلا تنقضي بها العدة إذْ لم تظهر فيها الصورة الإنسانية وتكون حينئذ بمنزلة النطفة والعلقة إذ هما ليستا بحمل ولا تنقضي بهما العدة بخروجهما من الرحم . وقول ابن مسعود الذي قدمنا يدلّ على ذلك ؛ لأنه قال : " إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها مَلَكٌ بكفه فقال : يا رب مخلقة أو غير مخلفة ؟ فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً " ، فأخبر أن الدم الذي تقذفه الرحم ليس بحمل ، ولم يفرق منه بين ما كان مجتمعاً علقة أو سائلاً ؛ وفي ذلك دليل على أن ما لم يظهر فيه شيء من خلق الإنسان فليس بحمل وأن العدة لا تنقضي به إذ ليس هو بولد ، كما أن العلقة والنطفة لما لم تكونا ولداً لم تَنْقَضِ بهما العدة . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان عن الأعمش قال : حدثنا زيد بن وهب قال : حدثنا عبدالله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : " إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ رِزْقُهُ وأَجَلُهُ وعَمَلُهُ ثمَّ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ " . فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون أربعين يوماً نطفة وأربعين يوماً علقة وأربعين يوماً مضغة ، ومعلوم أنها لو ألقته علقة لم يعتدّ به ولم تنقض به العدة وإن كانت العلقة مستحيلة من النطفة ، إذ لم تكن له صورة الإنسانية ، وكذلك المضغة إذا لم تكن لها صورة الإنسانية فلا اعتبار بها وهي بمنزلة العلقة والنطفة . ويدل على ذلك أيضاً أن المعنى الذي به يتبين الإنسان من الحمار وسائر الحيوان وجوده على هذا الضرب من البُنْيَة والشكل والتصوير ، فمتى لم يكن للسقط شيء من صورة الإنسان فليس ذلك بولد وهو بمنزلة العلقة والنطفة سواء فلا تنقضي به العدة لعدم كونه ولداً . وأيضاً فجائز أن يكون ما أسقطته مما لا تتبين له صورة الإنسان دماً مجتمعاً أو داء أو مدة ، فغير جائز أن نجعله ولداً تنقضي به العدة ، وأكثر أحواله احتماله لأن يكون مما كان يجوز أن يكون ولداً ويجوز أن لا يكون ولداً فلا نجعلها منقضية العدة به بالشكّ ؛ وعلى أن اعتبار ما يجوز أن يكون منه ولداً أو لا يكون منه ولداً ساقطٌ لا معنى له ، إذْ لم يكن ولداً بنفسه في الحال ؛ لأن العلقة قد يجوز أن يكون منها ولد وكذلك النطفة وقد تشتمل الرحم عليهما وتضمّهما ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّ النُّطْفَةَ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً ثم أَرْبَعِينَ يَوْماً عَلَقَةً " ، ومع ذلك لم يعتبر أحدٌ العلقة في انقضاء العدة .
وزعم إسماعيل بن إسحاق أن قوماً ذهبوا إلى أن السّقْطَ لا تنقضي به العدة ولا تُعتق به أم الولد حتى يتبين شيء من خلقه يداً أو رِجْلاً أو غير ذلك ، وزعم أن هذا غلط لأن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلَّقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المخلّقة ، فدل ذلك على أن كل شيء يكون من ذلك إلى أن يخرج الولد من بطن أمه فهو حمل ، وقال تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] .
والذي ذكره إسماعيل إغفالٌ منه لمقتضى الآية ، وذلك لأن الله لم يخبر أن العلقة والمضغة ولدٌ ولا حملٌ وإنما ذكر أنه خلقنا من المضغة والعلقة كما أخبر أنه خلقنا من النطفة ومن التراب ، ومعلوم أنه حين أخبرنا أنه خلقنا من المضغة والعلقة فقد اقتضى ذلك أن لا يكون الولد نطفة ولا علقة ولا مضغة ؛ لأنه لو كانت العلقة والمضغة والنطفة ولداً لما كان الولد مخلوقاً منها ، إذْ ما قد حصل ولداً لا يجوز أن يقال قد خُلق منه ولد وهو نفسه ذلك الولد ، فثبت بذلك أن المضغة التي لم يَسْتَبِنْ فيها خلق الإنسان ليس بولد .
وقوله : " إن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلَّقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الإنسان كما ذكر المخلَّقة " فإنه إن كان هذا استدلالاً صحيحاً فإنه يلزمه أن يقول مثله في النطفة ؛ لأن الله قد ذكرها فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المضغة ، فينبغي أن تكون النطفة حملاً وولداً لذكر الله لها فيما خلق الناس منه .
فإن قيل : قد ذكر الله أنه خلقنا من مضغة مخلَّقَةٍ وغير مخلَّقةٍ والمخلَّقَةُ هي المصورةُ وغيرُ المخلقة غير المصورة ، فإذا جاز أن يقول خلقكم من مضغة مصورة مع كون المصورة ولداً لم يمتنع أن يكون غير المصورة ولداً مع قوله : " خلقكم من مضغة غير مخلقة " . قيل له : جائز أن يكون معنى المخلقة ما ظهر فيه بعض صورة الإنسان فأراد بقوله : " خلقكم منها " تمام الخلق وتكميله ، فأما ما ليس بمخلَّقة فلا فرق بينه وبين النطفة لعدم الصورة فيها ، فيكون معنى قوله : " خلقكم منها " أنه أنشأ الولد منها وإن لم يكن ولداً قبل ذلك ، هذا هو حقيقة اللفظ وظاهره . وأما قوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] فإنه معلوم أن مراده وَضْعَ الولد فيما ليس بولد فليس بمراد ، وهذا لا يشكل على أحد له أدنى تأمل .
وقال إسماعيل أيضاً : لا تخلو هذه المضغة وما قبلها من العلقة من أن تكون ولداً أو غير ولد ، فإن كانت ولداً قبل أن يخلق فحكمها قبل أن يخلق وبعدها واحد وإن كانت ليست بولد إلى أن يخلق فلا ينبغي أن يرث الولد أباه إذا مات حين تحمل به أمه قبل أن يخلق .
قال أبو بكر : وهذا إغفال ثانٍ وكلام منتقض بإجماع الفقهاء ؛ وذلك لأنه معلوم أنه إذا مات عن امرأته وجاءت بولد لسنتين على قول من يجعل أكثر مدة الحمل سنتين أو لأربع سنين على قول من يجعل أكثر الحمل أربع سنين أنّ الولد يرثه ، ومعلوم أنه إنما كان نطفة وقت وفاة الأب وقد ورثه ، ومع ذلك فلا خلاف أن النطفة ليست بحمل ولا ولد وأنه لا تنقضي بها العدة ولا تُعتق بها أم الولد ، فبان بذلك فساد اعْتِلاَلِهِ وانتقاض قوله ؛ وليست علة الميراث كونه ولداً لأن الولد الميت هو ولد تنقضي به العدة ويثبت به الاستيلاد في الأم ، وقد لا يكون من مائة فيرثه إذا كان منسوباً إليه بالفراش ، ألا ترى أنها لو جاءت بولد من الزنا لم يلحق نسبه بالزاني وكان ابناً لصاحب الفراش ؟ فالميراث إنما يتعلق حكمه بثبوت النسب منه لا بأنه من مائه ، ألا ترى أن ولد الزنا لا يرث الزاني لعدم ثبوت النسب وإن كان من مائة ؟ فعلمنا بذلك أن ثبوت الميراث ليس بمتعلق بكونه ولداً من مائه دون حصول النسبة إليه من الوجه الذي ذكرنا .
قال إسماعيل : فإن قيل إنما ورث أباه لأنه من ذلك الأصل حين صار حيّاً يرث ويورث . قيل له : فلا ينبغي أن تنقضي به العدة وإن تم خلقه حتى يخرج حيّاً .
قال أبو بكر : وهذا تخليطٌ وكلام في المسألة من غير وجهه ؛ وذلك لأن خصمه لم يجعل وجوب الميراث علّة لانقضاء العدة وكون الأم به أم ولد ، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن الولد الميت عندهم جميعاً تنقضي به العدة ولا يرثُ ، وقد يَرِثُ الولدُ ولا تنقضي به العدة إذا كان في بطنها ولدان فوضعت أحدهما ورث هذا الولد من أبيه ولا تنقضي به العدة حتى تضع الولد الآخر ، فإن وضعته ميتاً لم يرثه وانقضت العدة به ؛ فلما كان الميراث قد يثبت للولد ولا تنقضي العدة بوضعه وقد تنقضي به العدة ولا يرث علمنا أن أحدهما ليس بأصل للآخر ولا يصح اعتباره به .
ثم قال إسماعيل : فإن قيل إنه حمل ولكنا لا نعلم ذلك ؛ قيل له : لا يجوز أن يتعبد الله بحكم لا سبيل إلى علمه ، والنساء يعرفن ذلك ويفرقن بين لحم أو دم سقط من بدنها أو رحمها وبين العلقة التي يكون منها الولد ، ولا يلتبس على جميع النساء لحم المرأة ودمها من العلقة بل لا بد من أن يكون فيهن من يعرف ، فإذا شهدت امرأتان أنها علقة قبلت شهادتهما ، وقد قال الشافعي أيضاً إنها إذا أسقطت علقة أو مضغة لم يَسْتَبِنْ شيء من خلقه فإنه يرى النساء فإن قلن كان يجيء منها الولد لو بقيت انقضت به العدة ويثبت بها الاستيلاد ، وإن قلن لا يجيء من مثلها ولد لم تنقض به العدة ولم يثبت به الاستيلاد .
وعسى أن يكون إسماعيل إنما أخذ ما قال من ذلك عن الشافعي ، وهو من أظهر الكلام استحالةً وفساداً ؛ وذلك لأنه لا يعلم أحد الفرق بين العَلَقَة التي يكون منها الولد وبين ما لا يكون منها الولد إلا أن يكون قد شاهد عَلَقاً كان منه الولد وعَلَقاً لم يكن منه الولد فيعرف بالعادة الفرق بين ما كان منه ولد وما لم يكن منه ولد بعلامة توجد في أحدهما دون الآخر في مجرى العادة وأكثر الظن ، كما يعرف كثير من الأعراب السحابة التي يكون منها المطر والسحابة التي لا يكون منها المطر وذلك بما قد عرفوه من العلامات التي لا تكاد تخلف في الأعم الأكثر ، فأما العلقة التي كان منها الولد فمستحيل أن يشاهدها إنسان قبل كون الولد منها متميزة من العلقة التي لم يكن منها ولد ، وذلك شيء قد استأثر الله بعلمه إلا من أطلع عليه من ملائكته حين يأمره بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد ، قال الله تعالى : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد } [ الرعد : 8 ] ، وقال : { ويعلم ما في الأرحام } [ لقمان : 34 ] ، وهو عالم بكل شيء جلَّ وتعالى ؛ ولكنه خصَّ نفسه بالعلم بالأرحام في هذا الموضع إعلاماً لنا أن أحداً غيره لا يعلم ذلك وأنه مِنْ عِلْمِ الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن ارتضى من رسول ، قال الله تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ] والله أعلم .