مطلب : فيمن نذر أن ينشئ ابنه الصغير في عبادة الله وأن يعلمه القرآن وعلوم الدين
قوله عز وجل : { إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً } رُوي عن الشعبي أنه قال : " مُخْلَصاً للعبادة " ، وقال مجاهد :
" خادماً للبيعة " . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : " عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى " . والتحرير ينصرف على وجهين ، أحدهما : العِتْقُ من الحرية . والآخر : تحرير الكتاب ، وهو إخلاصه من الفساد والاضطراب . وقولها : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحَرَّراً } إذا أرادت مُخْلَصاً للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها ، وإذا أرادت به أنها تجعله خادماً للبيعة أو عتيقاً لطاعة الله تعالى ، فإن معاني جميع ذلك متقاربة ، كان نذراً مِنْ قِبَلِها نذرته لله تعالى بقولها : " نَذَرْتُ " ، ثم قالت : { فَتَقَبَّلْ مِنّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } . والنَّذْرُ في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضاً بأن ينذر الإنسان أن ينشىء ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين ، وجميع ذلك نذور صحيحة ؛ لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى . وقولها : { نَذَرْتُ لَكَ } يدلّ على أنه يقتضي الإيجابَ ، وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها . ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة ؛ لأنه معلوم أن قولها : { نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً } أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يُخْلَصَ لعبادة الله تعالى . ويدل أيضاً على جواز النذر بالمجهول ؛ لأنها نذرته وهي لا تدري ذكر هو أم أنثى .
ويدل على أن للأم ضَرْباً من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته ، لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها . ويدل أيضاً على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإِنْ لم يُسَمِّهِ الأب ، لأنها قالت : { وإنّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ } وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم .