قوله تعالى : { قُلْ يا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ألاّ نَعْبُدَ إلاّ الله } الآية . قوله تعالى : { كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } يعني والله أعلم : كلمة عَدْلٍ بيننا وبينكم نتساوى جميعاً فيها إذ كنّا جميعاً عباد الله ، ثم فسرها بقوله تعالى : { ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللهَ ولاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ } وهذه هي الكلمة التي تشهد العقول بصحتها ، إذْ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحقّ بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلاّ فيما كان طاعة لله تعالى . وقد شَرَطَ الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان منها معروفاً ، وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلاّ بالمعروف ؛ لئلاَّ يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى ، كما قال الله تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في قصة المبايعات : { ولا يعصينك في معروف فبايعهن } [ الممتحنة : 12 ] فشَرَطَ عليهنَّ تَرْكَ عصيان النبي صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي يأمرهن به تأكيداً ، لئلا يلزم أحداً طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى .
وقوله تعالى : { ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ } أي لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلاّ فيما حلّله الله أو حرَّمه ، وهو نظير قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } [ التوبة : 31 ] . وقد رَوَى عبد السلام بن حرب عن غُطَيْف بن أعْيَن عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فقال : " أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ " ثم قرأ :
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [ التوبة : 31 ] ، قلت : يا رسول الله ما كنّا نعبدهم ! قال : " أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ ما أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ ؟ " . قال : " فتلك عبادتهم " ؛ وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أرباباً لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلّله ، ولا يستحق أحدٌ أن يُطاع بمثله إلاّ الله تعالى الذي هو خالقهم ، والمكَلَّفُون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتّباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره .