قوله تعالى : { إِنِّي أَرى في المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } إلى قوله : { وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ } . قال أبو بكر : ظاهره يدل على أنه كان مأموراً بذبحه ، فجائز أن يكون الأمر إنما تضمن معالجة الذبح لا ذبحاً يوجب الموت ، وجائز أن يكون الأمر حصل على شريطة التخلية والتمكين منه وعلى أن لا يفديه بشيء وأنه إن فدى منه بشيء كان قائماً مقامه .
والدليل على أن ظاهره قد اقتضى الأمر قوله : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } وقوله : { وَفَدَيْنَاهُ بِذبْحٍ عَظِيمٍ } ، فلو لم يكن ظاهره قد اقتضى الأمر بالذبح لما قال : { افعل ما تؤمر } ولم يكن الذبح فداء عن ذبح متوقَّع .
ورُوي أن إبراهيم عليه السلام كان نذر إن رزقه الله ولداً ذكراً أن يجعله ذبيحاً لله ، فأُمر بالوفاء به ؛ ورُوي أن الله تعالى ابتدأ بالأمر بالذبح على نحو ما قدمنا . وجائز أن يكون الأمر ورد بذَبْحِ ابنه وذَبَحَهُ فوصَلَ الله أوداجه قبل خروج الروح وكانت الفدية لبقاء حياته .
قال أبو بكر : وعلى أي وجه تصرف تأويل الآية قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة ، فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في المتعقب في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد أمر الله باتباعه بقوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] ، وقال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، وجب على من نذر ذبح ولده شاةٌ .
وقد اختلف السلفُ وفقهاءُ الأمصار بعدهم في ذلك ، فَرَوى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يقول هو نحر ابنه قال : " كَبش كما فَدَى إبراهيمُ إسحاقَ " .
وروى سفيان عن منصور عن الحكم عن عليّ في رجل نذر أن ينحر ابنه قال : " يُهدي بَدَنَةً أو دِيَتَه " شك الراوي . وعن مسروق مثل قول ابن عباس .
ورَوَى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال : " يَحجّ ويُهدي بدنة " . وروى داود بن أبي هند عن عامر في رجل حلف أن ينحر ابنه قال : " قال بعضهم مائة من الإبل ، وقال بعضهم كبش كما فُدي إسحاق " .
قال أبو بكر : قال أبو حنيفة ومحمد : " عليه ذبح شاة " ، وقال أبو يوسف : " لا شيء عليه " ، وقال أبو حنيفة : " لو نذر ذبح عبده لم يكن عليه شيء " ، وقال محمد : " عليه ذبح شاة " .
وظاهر الآية يدل على قول أبي حنيفة في ذبح الولد ، لأن هذا اللفظ قد صار عبارة عن إيجاب شاة في شريعة إبراهيم عليه السلام ، فوجب بقاء حكمه ما لم يثبت نسخه . وذهب أبو يوسف إلى حديث أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا وَفَاءَ لنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ الله ولا فيِمَا لا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ " .
ورَوَى الحسن عن عمران بن حُصَيْن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ وكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ " .
قال أبو بكر : لا يلزم القائلين بالقول الأول ؛ وذلك لأن قوله : " عليَّ ذبح ولدي " لما صار عبارة عن إيجاب ذبح شاة صار بمنزلة ما لو قال : " عليَّ ذبح شاة " ولم يكن ذلك معصية ، وإنما لم يوجب أبو حنيفة على الناذر ذبح عبده شيئاً لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة فكان نذر معصية .
وقد قالوا جميعاً فيمن قال لله عليَّ أن أقتل ولدي : إنه لا شيء عليه ؛ لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ، ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة . وقد رَوَى يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت : إني نذرت أن أنحر ابني ! قال : " لا تنحري ابنك وكَفِّري عن يمينك " فقال رجل عند ابن عباس : إنه لا وفاء لنذر في معصية ، فقال ابن عباس : " مَهْ ! قال الله تعالى في الظهار ما سَمِعْتَ وأوجب فيه ما ذكره " .
قال أبو بكر : وليس ذلك بمخالف لما قدّمنا من قول ابن عباس في إيجابه كبشاً ؛ لأنه جائز أن يكون من مذهبه إيجابهما جميعاً إذا أراد بالنذر اليمين ، كما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال : " لله عليَّ أن أصوم غداً " فلم يفعل وأراد اليمين أن عليه كفارة اليمين والقضاء جميعاً .
وقد اخْتُلف في الذبيح من ولدي إبراهيم عليهم السلام ، فرُوي عن علي وابن مسعود وكعب والحسن وقتادة أنه إسحاق ، وعن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي أنه إسماعيل ، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم القولان جميعاً .
ومن قال هو إسماعيل يحتجُّ بقوله عقيب ذكر الذبح : { وَبَشَّرْنَاهُ بإِسْحَاقَ نَبِيّاً } ، فلما كانت البشارة بعد الذبح دلَّ على أنه إسماعيل . واحتجَّ الآخرون بأنه ليس ببشارة بولادته وإنما هي بشارة بنبوته ، لأنه قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بإِسْحَاقَ نَبِيّاً } .