قال الله تعالى : { فإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } . قال أبو بكر : قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان ، وهو نظير قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ الأنفال : 67 ] .
حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ الأنفال : 67 ] قال : " ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى : { فإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار ، إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم " شكّ أبو عبيد في " وإن شاؤوا استعبدوهم " .
وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو مهدي وحجّاج كلاهما عن سفيان قال : سمعت السّديّ يقول في قوله : { فإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } قال : هي منسوخة نسخها قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] .
قال أبو بكر : أما قوله : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } وقوله : { ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ الأنفال : 67 ] وقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم } [ الأنفال : 57 ] ، فإنه جائز أن يكون حكماً ثابتاً غير منسوخ ؛ وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإثخان بالقتل وحظر عليه الأسر إلا بعد إذلال المشركين وقَمْعِهِمْ ، وكان ذلك في وقت قلّة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوّهم من المشركين ، فمتى أُثخن المشركون وأُذِلّوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء ، فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام .
وأما قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ظاهره يقتضي أحد شيئين مِنْ مَنٍّ أو فداء ، وذلك ينفي جواز القتل .
وقد اختلف السلف في ذلك ، حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قَتْلَ الأسير وقال : " مُنَّ عليه أو فاده " .
وحدثنا جعفر قال : حدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : أخبرنا هشيم قال : أخبرنا أشعث قال : سألت عطاء عن قتل الأسير ، فقال : " مُنَّ عليه أو فَادِهِ " ؛ قال : وسألت الحسن ، قال : " يُصنع به ما صَنَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى بدر ، يُمَنُّ عليه أو يُفَادَى به " .
ورُوي عن ابن عمر أنه دُفع إليه عظيم من عظماء إصْطَخَرْ ليقتله ، فأبى أن يقتله وتلا قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
ورُوي أيضاً عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهةُ قَتْلِ الأسير . وقد روينا عن السدي أن قوله : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } منسوخ بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، ورُوي مثله عن ابن جريج ، حدثنا جعفر قال : حدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : " هي منسوخة " وقال : " قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي مُعَيْطٍ يوم بدر صبراً " .
قال أبو بكر : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قَتْلِهِ الأسير ، منها قَتْلُهُ عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر ، وقَتَلَ يوم أُحُدٍ أبا عزّة الشاعرة بعدما أُسر ، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بالقتل وسَبْي الذرية ومَنَّ على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحاً وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق أن لا يكتم شيئاً فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله ، وفَتَح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح وآخرين وقال : " اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ " ومَنَّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم .
ورُوي عن صالح بن كيسان عن محمد بن عبدالرحمن عن أبيه عبدالرحمن بن عوف أنه سمع أبا بكر الصديق يقول : " وَدِدْتُ أني يوم أُتِيتُ بالفُجَاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته صريحاً أو أطلقته نجيحاً " .
وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يُدْخِلْها في الأمان فقتله .
فهذه آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه .
واتّفق فقهاء الأمصار على ذلك ، وإنما اختلفوا في فدائه ، فقال أصحابنا جميعاً : " يُفَادَى الأسيرُ بالمال ولا يُباع السَّبْيُ من أهل الحرب فيُرَدُّوا حرباً " .
وقال أبو حنيفة : " لا يُفَادون بأسرى المسلمين أيضاً ولا يُردُّون حرباً أبداً " .
وقال أبو يوسف ومحمد : " لا بأس أن يُفادَى أسرى المسلمين بأسرى المشركين " ، وهو قول الثوري والأوزاعي . وقال الأوزاعي : " لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ولا يُباع الرجال إلا أن يفادي بهم المسلمون " .
وقال المزني عن الشافعي : " للإمام أن يمنَّ على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم " .
فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ، وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين ، وبأنّ النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسارى بدر بالمال ؛ ويحتجّون للفداء بالمسلمين بما رَوَى ابن المبارك عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال : أسَرَتْ ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عامر بن صعصعة ، فمُرَّ به على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُوثَقٌ ، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : علامَ أُحبس ؟ قال : " بجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ " فقال الأسير : إني مسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو قُلْتَها وأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ لأَفْلَحْتَ كُلَّ الفَلاحِ " .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه أيضاً ، فأقبل فقال : إني جائع فأطعمني ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذه حَاجَتُكَ " ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما .
ورَوَى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حُصَيْن : " أن النبي صلى الله عليه وسلم فَدَى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل " ولم يذكر إسلام الأسير وذكره في الحديث الأول .
ولا خلاف أنه لا يُفَادَى الآن على هذا الوجه ؛ لأن المسلم لا يُرَدُّ إلى أهل الحرب ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط في صلح الحديبية لقريش أن من جاء منهم مسلماً ردّه عليهم ، ثم نُسخ ذلك ونُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال : " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ " وقال : " مَنْ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ " .
وأما ما في الآية من ذِكْرِ المنّ أو الفداء وما رُوي في أسارى بدر ، فإن ذلك منسوخ بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 29 ] ، وقد رَوَيْنا ذلك عن السدي وابن جريج ؛ وقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] . فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يُسْلِموا أو يؤدّوا الجزية ، والفِدَاءُ بالمال أو بغيره ينافي ذلك ؛ ولم يختلف أهل التفسير ونَقَلَةُ الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخاً للفداء المذكور في غيرها .
قوله تعالى : { حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا } ؛ قال الحسن : " حتى يُعبد الله ولا يشرك به غيره " .
وقال سعيد بن جبير : " خروج عيسى ابن مريم عليه السلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويَلْقَى الذئب الشاة فلا يعرضْ لها ولا تكون عداوة بين اثنين " .
وقال الفراء : " آثامها وشِرْكُها حتى لا يكون إلا مسلم أو مسالم " . قال أبو بكر : فكان معنى الآية على هذا التأويل إيجابُ القتال إلى أن لا يبقى من يقاتل .