قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : " مهيمناً يعني أميناً " وقيل : شاهداً ، وقيل : حفيظاً ، وقيل : مؤتمناً . والمعنى فيه أنه أمين عليه ، ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان ؛ لأن الأمين على الشيء مصدَّقٌ عليه ، وكذلك الشاهد . وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمناً على شيء فهو مقبولُ القول فيه ، من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها ؛ لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سمّاه ، أميناً عليها ، وقد بيّن الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبولُ القول فيما ائتمن فيه ، وهو قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه } [ البقرة : 283 ] وقال : { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً } [ البقرة : 282 ] فلما جعله أميناً فيه وَعَظَهُ بتَرْكِ البَخْسِ .
وقد اختُلف في المراد بقوله : { وَمُهَيْمِناً } . فقال ابن عباس : " هو الكتاب ، وفيه إخبارٌ بأن القرآن مهيمنٌ على الكتب المتقدمة شاهدٌ عليها " . وقال مجاهد : " أراد به النبيَّ صلى الله عليه وسلم " .
قوله تعالى : { فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بمَا أَنْزَلَ الله } يدلّ على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه .
قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ } يدلّ على بطلان قول من يردّهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف ، لما فيه من تعظيم الموضع ، وهو يهوون ذلك ؛ وقد نهى الله تعالى عن اتّباع أهوائهم . ويدلّ على بُطْلان قول من يردّهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم ، ولأن رَدَّهُمْ إلى أهل دينهم إنما هو رَدٌّ لهم ليحكموا فيهم بما هو كفرٌ بالله عز وجل ، إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفراً بالله وإن كان موافقاً لما أنزل في التوراة والإنجيل ، لأنهم مأمورون بتركه واتّباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً } الشرعة والشريعة واحدٌ ، ومعناها الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة ، فسمّى الأمور التي تعبّد الله بها من جهة السمع شريعةً وشرعةً لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي .
قوله تعالى : { ومِنْهَاجاً } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : " سنةً وسبيلاً " . ويقال طَرِيقٌ نَهْجٌ إذا كان واضحاً . قال مجاهد : " وأراد بقوله : { شِرْعَةً } القرآن ، لأنه لجميع الناس " ، وقال قتادة وغيره : " شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن " . وهذا يحتجُّ به مَنْ نَفَى لزوم شرائع من قبلنا إيانا لم يثبتْ نسخُها ، لإخباره بأنه جعل لكل نبيّ من الأنبياء شرعة ومنهاجاً . وليس فيه دليلٌ على ما قالوا ؛ لأن ما كان شريعةً لموسى عليه السلام فلم يُنسخ إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد صارت شريعةً للنبيّ عليه السلام ، وكان فيما سلف شريعة لغيره ؛ فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع . وأيضاً فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبّد اللهُ رَسُولَهُ بشريعة موافقةٍ لشرائع من كان قبله من الأنبياء ، فلم يَنْفِ قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أن تكون شريعة النبي عليه السلام موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين . وإذا كان كذلك ، فالمراد فيما نُسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبّد النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها ، فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر .
قوله عز وجل : { وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال الحسن : " لجعلكم على الحق " ، وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحقّ ، ولكنه لو فعل لم يستحقّوا ثواباً ، وهو كقوله : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [ السجدة : 13 ] ، وقال قائلون : " معناه : ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء " .
قوله تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } معناه الأمرُ بالمبادرة بالخيرات التي تعبَّدَنا بها قبل الفوات بالموت ، وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضلُ من تأخيرها ، نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات ، لأنها من الخيرات .
مطلب : الصوم في السفر أفضل من الإفطار
فإن قيل : فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها ، لأنها من الواجبات في أول الوقت . قيل له : ليست من الواجبات في أول الوقت ، والآية مقتضية للوجوب ، فهي فيما قد وجب وألزم ؛ وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات ، وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات .