باب الوضوء بغير نية
قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارَنَتْهُ النية أو لم تقارنه ؛ وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة ، وهو إمرارُ الماء على الموضع ، وليس هوعبارة عن النية . فمن شَرَطَ فيه النية فهو زائد في النّص ، وهذا فاسد من وجهين ، أحدهما : أنه يوجب نسخ الآية ، لأن الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية ، فمن حَظَرَ الصلاة ومَنَعَهَا إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها ، وذلك لا يجوز إلا بنصّ مثله . والوجه الآخر : أن النصّ له حكمه ولا يجوز أن يُلْحق به ما ليس منه ، كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه . فإن قيل : فقد شَرَطْتَ في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ ! قيل له : إنما جاز ذلك فيها من وجهين ، أحدهما : أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يَرِدُ فيه ، وقد ورد فيه البيان بإيجاب النية فلذلك أوجبناها ؛ وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بَيِّنُ المراد ، فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النصّ ولا يجوز ذلك إلا بنصّ مثله . والوجه الآخر : اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها ، فلو كان اسم الصلاة عموماً ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق ، فهي إذاً كانت مُجْمَلاً أُجْري بإثبات النية فيها من جهة الإجماع .
ذكر اختلاف الفقهاء في فرض النية
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية " ، وهو قول الثوري . وقال الأوزاعي : " يجزي الوضوء بغير نية " ولم تحفظ عنه في التيمم . وقال مالك والليث والشافعي : " لا يجزي الوضوء ولا الغسل إلاّ بالنية ، وكذلك التيمم " . وقال الحسن بن صالح : " يجزي الوضوء والتيمم جميعاً بغير نية " ، قال أبو جعفر الطحاوي : ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره .
قال أبو بكر : قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية ، وقوله تعالى : { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] دالٌّ على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية ، كذلك قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } على النحو الذي بيّنا . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } [ الفرقان : 48 ] ومعناه : مطهراً ؛ فحيثما وجد فواجب أن يكون مطهراً . ولو شرطنا فيه النية كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله بها من كونه طهوراً ؛ لأنه حينئذ لا يكون طهوراً إلا بغيره ، والله تعالى جعله طهوراً من غير شرط معنى آخر فيه .
فإن قيل : إيجابُ شَرْطِ النية فيه لا يخرجه من أن يكون طهوراً كما وصفه الله تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطهوراً " ، وقال : " التُّرَابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ما لَمْ يَجِدِ المَاءَ " ولم يمنع ذلك إيجاب النية شرطاً فيه . قيل له : إنما سماه طهوراً على وجه المجاز تشبيهاً له بالماء في باب إباحة الصلاة ، والدليل عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس ، فعلمنا أنه سماه طهوراً استعارةً ومجازاً . ومن جهة أخرى أن إثبات النية شرطاً في التيمم جائز مع قوله : " التراب طهور المسلم " ولا يجوز مثله في الوضوء ؛ وذلك لأن قوله : { فَتَيَمَّمُوا } يقتضي إيجاب النية ، إذ كان التيمم هو القصد في اللغة ؛ وقوله : " التراب طهور المسلم " وارد من طريق الآحاد ، فواجب أن يكون الخبر مرتباً على الآية ، إذ غير جائز ترك حكم الآية بالخبر وتجوز الزيادة في حكم الخبر بالآية ، وليس ذلك كقوله : { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } [ الفرقان : 48 ] لأنه غير جائز أن يُزاد في نصّ القرآن إلا بمثل ما يجوز به نسخه . ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } [ الأنفال : 11 ] فأبان الله تعالى عن وقوع التطهير بالماء من غير شرط النية فيه .
فإن قيل : لما كان قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، مقتضياً لفرض الطهارة ، فمن حيث كان فرضاً وجب أن تكون النية شرطاً في صحته لاستحالة وقوع الفعل مَوْقِعَ الفرض إلا بالنية ، وذلك لأن الفرض يحتاج في صحة وقوعه إلى نيتين إحداهما نية التقرب به إلى الله تعالى والأخرى نية الفرض ، فإذا لم يَنْوِهِ لم توجد صحة الفرض ، فلم يُجْزِ عن الفرض إذ هو غير فاعل للمأمور به . قيل له : إنما يجب ما ذكرتَ في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سبباً لغيرها ، فأما ما كان شرطاً لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلاّ بدلالة تقارنه ، فلما جعل الله الطهارة شرطاً لصحة الصلاة ولم تكن مفروضة لنفسها ، لأن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة كالمريض المغمى عليه أياماً وكالحائض والنفساء ، وقال تعالى : { إذا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وقال : { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] فجعله شرطاً في غيره ولم يجعله مأموراً به لنفسه ، فاحتاج مُوجِب النية شرطاً فيه إلى دلالة من غيره ، ألا ترى أن كثيراً مما هو شرطٌ في الفرض وليس بمفروض بعينه فجائز أن يكون من فعل غيره نحو الوقت الذي هو شرط في صحة أداء الصلاة ولا صنع للمصلي فيه ، ونحو البلوغ والعقل اللذين هما شرط في صحة التكليف وليسا بفعل المكلف ؟ فبان بما وصفنا أن ورود لفظ الأمر بما جُعِلَ شرطاً في غيره لا يقتضي وقوعه طاعةً منه ولا إيجاب النية فيه ، ألا ترى أن قوله تعالى : { وثيابك فطهر } [ المدثر : 4 ] وإن كان أمراً بتطهير الثوب من النجاسة فإنه لم يوجب كَوْنَ النية شرطاً في تطهيره ؟ إذْ لم تكن إزالة النجاسة مفروضة لنفسها وإنما هي شرط في غيرها ، وإنما تقديره : لا تصلِّ إلا في ثوب طاهر ولا تصلِّ إلا مستور العورة . ويدل على ذلك أيضاً أن الشافعي قد وافَقَنَا على أن رجلاً لو قعد في المطر ينوي الطهارة فأصاب جميع أعضائه أنه يجزيه من غير فعل له فيه ، ولو كان ذلك مفروضاً لنفسه لما أجزاه دون أن يفعله هو أو يأمر به غيره ؛ لأن هذا حكم المفروض .
فإن قيل : فالتيمم غير مفروض لنفسه ولا يصح مع ذلك إلا بالنية ، فليس إيجاب النية مقصوراً على ما كان مفروضاً لنفسه . قيل له : هذا غير لازم لأنا لم نخرج هذا القول مخرج الاعتلال فتلزمنا عليه المناقضة ، وإنما بينا أن لفظ الأمر إذا ورد فيما كان وصفه ما ذكرنا فإنه لا يقتضي إيجاب النية شرطاً فيه إلاّ بدلالة أخرى من غيره ، فإنما أسقطنا بذلك احتجاج من احتجّ بظاهر ورود الأمر في إيجاب النية ، وفي مضمون لفظ التيمم إيجاب النية إذ كان التيمم في اللغة اسماً للقصد ، قال الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [ البقرة : 267 ] يعني لا تقصدوا ؛ وقال الشاعر :
* ولَنْ يَلْبِثَ العَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ * إذا طُلِبَا أن يُدْرَكَا ما تَيَمَّمَا *
وقال آخر :
* فإنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا * فَعَمْداً على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا *
وقال الأعشى :
* تَيَمَّمْتُ قَيْساً وكَمْ دُونَهُ * مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَن *
يعني قصدته . فلما كان في لفظ الآية إيجابُ القصدِ والقَصْدُ هو النية لفعل ما أُمِر به ، جعلنا النية شرطاً ولم يكن في إيجاب النية فيه إلحاقُ زيادةٍ بالآية غير مذكورة فيها . وأما الغسل فلا تنطوي تحتة النية ، وفي إيجابها فيه إثبات زيادة فيها ليست منها ، وذلك غير جائز . ووجه آخر في الفصل بين التيمم والوضوء : وهو أن التيمم قد يقع تارةً عن الغسل وتارةً عن الوضوء ، وهو على صفة واحدة في الحالين ، فاحْتِيجَ إلى النية للفصل بين حكميهما ؛ لأن النية إنما شُرطت لتمييز أحكام الأفعال ، فلما كان حكم التيمم قد يختلف فيقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء احتيج إلى النية فيه لتمييز ما يقع منه عن الغسل عما يقع منه عن الوضوء ؛ وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز ، إذ كان المقصد منه إيقاعَ الفعل كما قيل : لا تصلِّ حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك ، ولا تصلِّ إلا مستورَ العَوْرَةِ ، وليس يقتضي شيءٌ من ذلك إيجابَ النية فيه .
ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديثُ رفاعة بن رافع وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه الأعرابيّ الصلاة وقوله : " لا تَتِمُّ صَلاةُ امْرِىءٍ حَتّى يَضَعَ الطّهُورَ مَوَاضِعَهُ ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ وَيَمْسَحَ برَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " ، فقوله : " حتى يضع الطهور مواضعه " يقتضي جوازه بغير نية ، لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن ، فصار كقوله : حتى يغسل هذه الأعضاء ، وقوله : " فيغسل وجهه ويديه " يوجب ذلك أيضاً ، إذْ لم يشرط فيه النية ، فظاهره يقتضي جوازه على أيّ وجه غسله . ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابيّ كان جاهلاً بأحكام الصلاة والطهارة ، فلو كانت النية شرطاً فيها لما أخْلاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التوقيف عليها ، وفي ذلك أوْضَحُ دليل على أنها ليست من فروضها . ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة لأمّ سلمة : " إنّما يَكْفِيكِ أنْ تَحْثي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثْيَاتٍ وعلى سَائِرِ جَسَدِكِ فإذا أنْتِ قَدْ طَهُرْتِ " ، ولم يشرط فيه النية . وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة ثم قال : " هذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاَةَ إِلاّ بِهِ " ، فأشار إلى الفعل المُشَاهَدِ دون النيّة التي هي ضمير لا تصحّ الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به ، وقال : " إذا وَجَدْتَ المَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ " ، وقال : " إنّ تَحْتَ كُلّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً ، فبلُّوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا البَشَرَةَ " . ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة بالماء كغسل النجاسة ، وأيضاً هو سبب يُتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره ، فأشْبَهَ غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر ، ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره .
فإن احتجّوا بقوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] وذلك يقتضي إيجابَ النية له ، لأن ذلك أقلّ أحوال الإخلاص . قيل له : ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادةٌ أو أنه من الدين ، إذْ جائز أن يقال إن العبادات هي ما كان مقصوداً لعينه في التعبد ، فأما ما أُمر به لأجل غيره أو جُعل شرطاً فيه أو سبباً له فليس يتناوله هذا الاسم ، ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة ، فلما لم يَجُزْ أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأموراً به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة .
مطلب : الإخلاص ضد الإشراك
وأيضاً فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلصٌ لله تعالى فيما يفعله من العبادات ، إذْ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره ؛ لأن ضدّ الإخلاص هو الإشراك ، فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يُشْرِكْ غيره فيه .
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وهذا لا يصح الاحتجاج به في موضع الخلاف ، مِنْ قِبَلِ أن حقيقة اللفظ تقتضي كون العمل موقوفاً على النية والعَمَلُ موجودٌ مع فَقْدِ النية ، فعلمنا أنه لم يُرِدْ به حقيقة اللفظ وإنما أراد معنًى مُضْمَراً فيه غير مذكور ؛ فالمحتجُّ بعموم الخبر في ذلك مغفل . فإن قيل : مراده حكم العمل . قيل له : الحكم غير مذكور ، فالاحتجاج بعمومه ساقط . فإن ترك الاحتجاج بظاهر اللفظ وقال : لما لم يجز أن يخلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم من فائدة ، وقد علمنا أنه لم يُرِدْ نفس العمل ، وجب أن يكون مراده حكم العمل . قيل له : يحتمل أن يريد به فضيلة العمل لا حكمه ، وإذا احتمل الأمرين احتيج إلى دلالة من غيره في إثبات المراد وسقط الاحتجاج به . فإن قيل : هو على الأمرين . قيل له : هذا خطأ ؛ لأن الضمير المحتمل للمعنيين غير ملفوظ به فيقال هو عليهما ، وإنما يقال ذلك فيما هو ملفوظ به وفيه احتمال للمعاني فيقال عمومه شامل للجميع ، فأما ما ليس بمذكور وهو ضمير ليس اللفظ عبارة عنه فقول القائل أحمله على العموم خطأٌ . وأيضاً فغير جائز إرادة الأمرين ؛ لأنه إن أُريد به فضيلة العمل صار بمنزلة قوله لا فضيلة للعمل إلا بالنية ، وذلك يقتضي إثبات حكم العمل حتى يصحّ نفي فضيلته لأجل عدم النية ، ومتى أراد به حكم العمل لم يَجُزْ أن يريد به الفضيلة والأصل مُنْتَفٍ ، فغير جائز أن يرادا جميعاً بلفظ واحد إذْ غير جائز أن يكون لفظ واحد لنفي الأصل ونفي الكمال ؛ وأيضاً غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الآحاد على ما بيّنا ، وهذا من أخبار الآحاد .
فصل
قوله عز وجل : { وُجُوهَكُمْ } قال أبو بكر : قد قيل فيه إن حَدَّ الوجه من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن ، حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبي سعيد البردعي ؛ ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى . وكذلك يقتضي ظاهر الاسم ، إذ كان إنما سُمّي وجهاً لظهوره ولأنه يواجه الشيء ويقابل به ؛ وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه الإنسان ويقابله من غيره . فإن قيل : فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى . قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن الأذنين تُسْتَران بالعمامة والقلنسوة ونحوهما كما يستر صدره ، وإن كان متى ظهر كان مواجهاً لمن يقابله . وهذا الذي ذكرنا من معنى الوجه يدلّ على أن المضمضة والاستنشاق غير واجِبَيْنِ بالآية ، إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه ، إذْ هما غير مواجهين لمن قابلهما . وإذا لم تَقْتَضِ الآيةُ إيجابَ غسلهما وإنما اقتضت غَسْلَ ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه ، وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه .
فإن قيل : قول النبي صلى الله عليه وسلم : " بَالِغْ في المَضْمَضَةِ والاسْتِنْشَاقِ إلاّ أنْ تكُونَ صَائِماً " وقوله صلى الله عليه وسلم حين توضأ مرة مرة : " هَذا وُضوءٌ لا يقبلُ اللَّهُ الصلاةَ إلاّ به " يوجب فرض المضمضة والاستنشاق . قيل له : أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به " ، فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق ، وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب ، والوضوءُ هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى ، وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزي غيره ؛ فإذاً لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ، ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يَجُزْ أن يُزاد في حكم الآية . وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً " لا يجوز الاعتراضُ به على الآية في إثبات الزيادة ، لأنه غير جائز أن يُزاد في حكم القرآن بخبر الواحد . وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال : حدثنا عبدالأعلى قال : حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال : حدثنا ابن جريج عن عطاء قال : سئلتْ عائشة عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء فتوضأ وكَفَأَ على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة ، وقال : " هَذَا الوُضُوءُ الذي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا " ، ثم أعاد ذلك فقال : " مَنْ ضَاعَفَ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ " ، ثم أعاد الثالثة فقال : " هَذَا وُضُوؤنا مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ ، فَمَنْ زَادَ فَقَدْ أَسَاءَ " . فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق ، لأنه قصد بيان المفروض منه ، ولو كان فرضاً فيه لفعله .
باب غسل اللحية وتخليلها
قال الله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان ، فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه ؛ وقد يقال أيضاً : خرج وجهه ، إذا خرجت لحيته ؛ فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضي ظاهر ذلك وجوب غسلها ؛ ويحتمل أن يقال : ليست من الوجه وإنما الوجه ما وَاجَهَكَ من بَشَرَتِهِ دون الشعر النابت عليه بعدما كانت البشرة ظاهرة دونه . ولمن قال بالقول الأول أن يقول : نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه ، كما أن شعر الرأس من الرأس ، وقد قال الله تعالى : { وَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحاً على الرأس وفاعلاً لمقتضى الآية عند جميع المسلمين ، فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه . ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه ، وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها ؛ فلذلك لم يكن من الوجه .
وقد ذُكر عن السلف اختلافٌ في غسل اللحية وتخليلها ومَسْحِها ، فَرَوَى إسرائيل عن جابر قال : " رأيت القاسم ومجاهداً وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم " وكذلك رُوي عن طاوس . ورَوَى حريز عن زيد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : رأيته توضأ ولم أره خلّل لحيته وقال هكذا رأيت عليّاً رضي الله عنه توضأ " . وقال يونس : " رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته " . فلم يَرَ أحدٌ من هؤلاء غسل اللحية واجباً . وروى ابن جريج عن نافع : " أن ابن عمر كان يبلّ أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها " ، وكذلك رُوي عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير . فهؤلاء كلهم رُوي عنهم غسل اللحية ، ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجباً كغسل الوجه . وقد كان ابن عمر متقصّياً في أمر الطهارة ، كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة ، وكان ذلك منه استحباباً لا إيجاباً . ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه خلل لحيته " ، ورُوي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته وقال : " بهذا أَمَرَنِي رَبِّي " . ورَوَى عثمان وعمار عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه خَلَّل لحيته في الوضوء " . ورَوَى الحسن عن جابر قال : " وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرّة ولا مرّتين ولا ثلاثاً ، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنه أسنان مشط " . قال أبو بكر : ورُوي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية ؛ منها حديث عبد خير عن علي ، وحديث عبدالله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم ، كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثلاثاً ولم يذكروا تخليل اللحية فيه . غير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية ؛ وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجْهِ ، والوَجْهُ ما واجهك منه ، وباطنُ اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لمَّا لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب ؛ فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحباباً لا إيجاباً كالمضمضة والاستنشاق ؛ وذلك لأنه لمّا لم تكن في الآية دلالة على وجوب غسلها أو تخليلها لم يَجُزْ لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد ، وجميعُ ما رُوي من أخبار التخليل إنما هي أخبار آحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نصّ القرآن . وأيضاً فإن التخليل ليس بغُسْلٍ فلا يجوز أن يكون موجباً بالآية ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجباً لما تركه إلى التخليل .
وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومَسْحِهَا ، فرَوَى المعلَّى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال : " لا يخللها ويُجْزيه أن يمر بيده على ظاهرها " قال : فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء ؛ وبه قال ابن أبي ليلى . قال أبو يوسف : " وأنا أخلّل " . وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف في نوادره : " يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة ، فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلّى " . وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ : " أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يُمِرَّ الماء على لحيته ، فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك ، وإن كان أقل من ذلك لم يُجْزِهِ " ، وهو قول أبي حنيفة ، وبه أخذ الحسن . وقال أبو يوسف : " يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يُمِسَّ لحيته بشيء من الماء " . وقال ابن شجاع : " لما لم يلزمْهُ غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الرأس ، إذ لم يجب غسله ، فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزي منه الربع كما قالوا في مسح الرأس " .
قال أبو بكر : لا تخلو اللحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر ، وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية ؛ فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دلّ ذلك على أنها ليست من الوجه ، لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ، ولما سقط غسلها لم يَجُزْ إيجاب مسحها ؛ لأن فيه إثبات زيادة في الآية ، كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نصّ الكتاب . وأيضاً لو وجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة ، وذلك خلاف الأصول . فإن قيل : قد يجتمع فَرْضُ المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقي العضو . قيل له : إنما يجب ذلك للضرورة والعذر ، وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل ، والوجْهُ بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها ، فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ، ويقتضي ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعاً وإن كان المستحب إمرار الماء عليها .
قوله تعالى : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ } قال أبو بكر : اليد اسمٌ يقع على هذا العضو إلى المَنْكِبِ ، والدليل على ذلك أن عماراً تيمم إلى المنكب وقال : " تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب " وكان ذلك لعموم قوله : { فَامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } ، ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة ، فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب ؛ فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب . وإذا كان الإطلاقُ يقتضي ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية ، كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين : أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها ، إذْ لم تقم الدلالة على سقوطها . والثاني : أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى ، والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] ووجودُ الطهر شرطٌ في الإباحة ، وقال : { حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] ووجوده شرط فيه ، و " إلى و " حتى " جميعاً للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] والليلُ خارج منه ؛ فلما كان هذا هكذا وكان الحدثُ فيه يقيناً لم يرتفع إلاّ بيقينٍ مثله وهو وجوب غسل المرفقين ، إذ كانت الغاية مشكوكاً فيها . وأيضاً روى جابر بن عبدالله : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما " وفِعْلُهُ ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان ، لأن قوله تعالى : { إلى المرافق } لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملاً مفتقراً إلى البيان ، وفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب . والذي ذَكَرْنَا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعاً ، إلاّ زفر فإنه يقول : إن المرافق غير داخلة في الوضوء ؛ وكذلك الكعبان على هذا الخلاف .
وقوله تعالى : { وَامْسَحُوا برؤُوسِكُمْ } ، قال أبو بكر : اختلف الفقهاء في المفروض من مَسْحِ الرأس ، فرُوي عن أصحابنا فيه روايتان ، إحداهما : ربع الرأس ، والأخرى : مقدار ثلاثة أصابع ، ويبدأ بمقدم الرأس . وقال الحسن بن صالح : " يبدأ بمؤخر الرأس " . وقال الأوزاعي والليث : " يمسح مقدم الرأس " . وقال مالك : " الفَرْضُ مَسْحُ جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز " . وقال الشافعي : " الفرض مسح بعض رأسه " . ولم يحدّ شيئاً . وقوله تعالى : { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } يقتضي مَسْحَ بعضه ؛ وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني ، فمتى أمكننا استعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك ، وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلةً للكلام وتكون ملغاةً ، نحو " مِنْ " هي مستعملة على معان منها التبعيض ، ثم قد تدخل في الكلام وتكون ملغاة وجودها وعدمها سواء . ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يَجُزْ لنا إلغاؤها ، فقلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام على أنها ملغاة . ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت : " مسحت يدي بالحائط " كان معقولاً مَسْحُها ببعضه دون جميعه ، ولو قلت : " مسحت الحائط " كان المعقولَ مَسْحُهُ جميعه دون بعضه ، فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة ؛ فوجب إذ كان ذلك كذلك أن نحمل قوله : { وَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها . والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقولك : " كتبت بالقلم " و " مررت بزيد " فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فيكون مستعملاً للإلصاق في البعض المفروض طهارته . ويدلّ على أنها للتبعيض ما رَوَى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى : { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } قال : إذا مسح ببعض الرأس أجزأه ، قال : ولو كانت " امسحوا رؤوسكم " كان مسح الرأس كله . فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها . ويدلّ على أنه قد أُريد بها التبعيض في الآية اتفاقُ الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض ، وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض ، وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملاً للفظ على التبعيض ، إلاّ أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه ، وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حدّه .
فإن قيل : لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول : " مسحت برأسي كله " كما لا تقول : " مسحت ببعض رأسي كله " . قيل له : قد بيّنا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أُطلقت التبعيضُ مع احتمال كونها ملغاة ، فإذا قال : " مسحت برأسي كله " علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاةً ، وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها ، كما أن " مِنْ " حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة للكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى : { ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ] و { يغفر لكم من ذنوبكم } [ الأحقاف : 31 ] ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاةً في كل موضع إلاّ بدلالة .
وقد رُوي نحوُ قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف ، منهم ابن عمر ، رَوَى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه ؛ وعن عائشة مثل ذلك . وقال الشعبي : " أي جانب رأسك مسحت أجزأك " وكذلك قال إبراهيم . ويدلّ على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيدالله بن الحسين الكرخي قال : حدثنا إبراهيم الحربي قال : حدثنا محمد بن الصباح قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا يونس عن ابن سيرين قال : أخبرني عمرو بن وهب قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : خصلتان لا أسأل عنهما أحداً بعدما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّا كنّا معه في سفر ، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانِبَيْ عمامته " . ورَوَى سليمان التيمي عن بكر بن عبدالله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه : " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفّين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة " . وحدثنا عبيدالله بن الحسين قال : حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال : حدثنا كردوس بن أبي عبدالله قال : حدثنا المعلّى بن عبدالرحمن قال : حدثنا عبدالحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال : " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح مسحة واحدة بين ناصيته وقَرْنه " فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنّة أن المفروض مَسْحُ بعض الرأس .
فإن قيل : يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة ، أو كان وضوء من لم يُحْدِثْ . قيل له : إنه لو كان هناك ضرورة لنُقِلَتْ كما نُقل غيره ، وأما كونه وضوء من لم يُحْدِث فإنه تأويل ساقط ؛ لأن في حديث المغيرة بن شعبة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته " ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث .
واحتجّ من قال بمسح الجميع بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره " قال : فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبي صلى الله عليه وسلم جميعه ، ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعدياً ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال : " مَنْ زَادَ فَقَدِ اعْتَدَىَ وَظَلَمَ " . فيقال له : لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع ، كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاثاً ، فلا يكون الزائد على المفروض متعدياً إذْ أصاب السنّة ، وكما أن المفروض من المسح على الخفَّيْنِ هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن متعدياً ، وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب ، والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها ، والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق ، والمفروض مسح الرأس والمسنون مسح الأذنين معه ؛ وكما يقول مخالفنا إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن تَرْكَ القليل جائز ولو مَسَحَ الجميعَ لم يكن متعدياً بل كان مصيباً ، كذلك نقول إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع . وإنما قال أصحابنا إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل ، وفي رواية الحسن بن زياد : الربع ؛ فإن وجه تقدير ثلاث أصابع أنه لما ثبت أن المفروض البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته كان فِعْلُهُ ذلك وارداً مورد البيان ، وفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها ، فقدَّروا الناصية بثلاث أصابع ؛ وقد رُوي عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه .
فإن قيل : فقد رُوي أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر ، فينبغي أن يكون ذلك واجباً . قيل له : معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك المفروض ، وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنونٌ ، فلما رُوي عنه الاقتصارُ على مقدار الناصية في حال ورُوي عنه استيعابُ الرأس في أخرى استعملنا الخَبَرَيْنِ وجعلنا المفروض مقدار الناصية ، إذْ لم يُرْوَ عنه أنه مسح أقلّ منها وما زاد عليها فهو مسنون . وأيضاً لو كان المفروض أقلّ من مقدار الناصية لاقْتَصَرَ النبي صلى الله عليه وسلم في حال بياناً للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال ، فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دلّ على أنه هو المفروض .
فإن قيل : لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بياناً للمقدار ولم تُجِزْ أقلّ منها ، فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دلّ ذلك على أن فِعْلَهُ ذلك غير موجب للاقتصار على مقداره . قيل له : قد كان ظاهر فعله يقتضي ذلك لولا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية ، فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله .
مطلب : في أن فعله عليه السلام يبين المجمل من أحكام القرآن
فإن قيل : لما كان قوله تعالى : { وَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } مقتضياً مَسْحَ بعضه ، فأيّ بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر . قيل له : إذا كان ذلك البعض مجهولاً صار مجملاً ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ، ألا ترى أن قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقوله : { وآتُوا الزكاة } [ البقرة : 43 ] وقوله : { يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } [ التوبة : 34 ] كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها ، وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عيه الاسم منها ؟ فكذلك قوله تعالى : { برُؤُوسِكُمْ } وإن اقتضى البَعْضَ فإن ذلك البعض لما كان مجهولاً عندنا وجب أن يكون مجملاً موقوف الحكم على البيان ، فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل فيه فهو بيان مراد الله به . ودليل آخر : وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدراً وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس ، لأنه من أعضاء الوضوء ؛ وهذا يحتج به على مالك والشافعي جميعاً ؛ لأن مالكاً يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار ، والشافعي يقول : " كل ما وقع عليه اسم المسح جاز " وذلك مجهول القدر ، وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم ؛ وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر ، وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ؛ ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية ، وذلك بأن نقول : لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدراً اعتباراً بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس ، وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار .
فإن قيل : ما أنكرتَ أن يكون مقدراً بثلاث شعرات ؟ قيل له : هذا محالٌ ؛ لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره ، وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه ؛ وأيضاً فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدراً بالأصابع ، وبه وردت السنة وهو مسح بالماء ، وجب أن يكون مسح الرأس مثله . وأما وجه رواية من روى الربع ، فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزي وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجْري على الشخص وهو الربع ، لأنك تقول : " رأيت فلاناً " والذي يليك منه الربع ، فيطلق عليه الاسم ؛ فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضاً في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحلّ به المحرم إذا حلقه ، ولا يحل عند أصحابنا بأقلّ منه ؛ فلذلك يوجبون به دماً إذا حلقه في الإحرام .
واختلف الفقهاء في مسح الرأس بأصبع واحدة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " لا يجوز مسحه بأقلّ من ثلاث أصابع ، وإن مسحه بأصبع أو أصبعين ومدّها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يُجْزِ " . وقال الثوري وزفر والشافعي : " يجزيه " إلاّ أن زفر يعتبر الربع ، والأصل في ذلك أنه لا يجزي في مفروض المسح نَقْلُ الماء من موضع إلى موضع ؛ وذلك لأن المقصد فيه إمساسُ الماء الموضع لا إجراؤه عليه ، فإذا وضع أصبعاً فقد حصل ذلك الماء ممسوحاً به ، فغير جائز مَسْحُ موضع غيره به ، وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يُجْرِهِ عليها لم يُجْرِهِ ، فلا يحصل معنى الغسل إلاّ بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع ، فلذلك لم يكن مستعملاً بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو . وأما المسح فلو اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جَرْي لجاز ، فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يَجُزْ نقله إلى غيره .
فإن قيل : فلو صبّ على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجْزَى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره ، فهلاّ أجَزْتَهُ أيضاً إذا مسح بأصبع واحدة ونقله إلى غيره ! قيل له : مِنْ قِبَلِ أن صبَّ الماء غسلٌ وليس بمسح ، والغسلُ يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره ؛ وأما إذا وضع أصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعاً غيره . وأيضاً فإن الماء الذي يُجْرَى عليه بالصبّ والغسل يتسع للمقدار المفروض كله ، وما على أصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض ، وإنما يكفي لمقدار الأصبع ، فإذا جرّه إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملاً في غيره ، فلا يجوز له ذلك .
باب غسل الرجلين
قال الله تعالى : { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ } قال أبو بكر : قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير : " وأرْجُلِكُمْ " بالخفض ، وتأولوها على المسح . وقرأ عليّ وعبدالله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب ، وكانوا يرون غسلها واجباً . والمحفوظ عن الحسن البصري استيعابُ الرِّجْلِ كلها بالمسح ، ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض ؛ وقال قوم : " يجوز مسح البعض " . ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل . وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعاً ونقلتهما الأمّة تلقياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتمِلَةٌ للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء ؛ وذلك لأن قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب يجوز أن يكون مراده : فاغسلوا أرْجُلَكم ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفاً على المعنى لا على اللفظ ، لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر :
* مُعَاوِيَ إنّنا بَشَرٌ فَاسْجَحْ * فَلَسْنَا بِالجِبَالِ ولا الحَدِيدَا *
فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى . ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح ، ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضاً بالمجاورة كقوله تعالى : { يطوف عليهم ولدان مخلدون } [ الواقعة : 17 ] ثم قال : " وحُورٍ عِينٍ " فخفضهن بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان ، لأنهن يَطُفْنَ ، ولا يُطاف بهن ؛ وكما قال الشاعر :
* فهل أنْتَ إنْ مَاتَتْ أتَانُكَ رَاكِبٌ * إلى آلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فخَاطِبِ *
فخفض " خاطباً " بالمجاورة ، وهو معطوف على المرفوع من قوله : " راكب " والقوافي مجرورة ؛ ألا ترى إلى قوله :
* فنَلْ مِثْلَها في مِثْلِهِمْ أو فَلُمْهُمُ * على دارميّ بَيْنَ لَيْلَى وغَالبِ *
فثبت بما وصفنا احتمالُ كل واحدة من القراءتين للمسح والغسل ، فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة : إما أن يقال إن المراد هما جميعاً مجموعان ، فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما . أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضىء أيهما شاء ، ويكون ما يفعله هو المفروض . أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير . وغير جائز أن يكونا هما جميعاً على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ؛ ولا جائز أيضاً أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذْ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ، ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع ، فبطل التخيير بما وصفنا . وإذا انتفى التخيير والجمع لم يَبْقَ إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير ، فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما ؛ فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاقُ الجميع على أنه إذا غسل فقد أدَّى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير مَلُومٍ على ترك المسح ، فثبت أن المراد الغسل . وأيضاً فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما ، صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان ، فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول صلى الله عليه وسلم من فِعْلٍ أو قَوْلٍ علمنا أنه مراد الله تعالى ؛ وقد ورد البيان عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالغسل قولاً وفعلاً ، فأما وروده من جهة الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء " . ولم تختلف الأمة فيه ، فصار فعله ذلك وارداً مورد البيان ، وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب ، فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية . وأما من جهة القول فما رَوَى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبدالله بن عمر وغيرهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تلوح أعقابهم لم يُصِبْهَا الماءُ ، فقال : " وَيْلٌ للأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ! أَسْبِغُوا الوُضُوءَ ! " وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة ، فغسل رجليه وقال : هذا وُضُوءُ مَنْ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلاةً إِلاّ به " . فقوله : " ويل للأعقاب من النار " وعيدٌ لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض ؛ فهذا يوجب استيعاب الرِّجْل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض . وقوله صلى الله عليه وسلم : " أسبغوا الوضوء " وقوله بعد غسل الرجلين : " هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به " يوجب استيعابهما بالغسل ؛ لأن الوضوء اسم للغسل يقتضي إجراء الماء على الموضع ، والمسح لا يقتضي ذلك ؛ وفي الخبر الآخر إخبارٌ أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما . وأيضاً فلو كان المسح جائزاً لما أخْلاهُ النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه ، إذْ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل ، فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله ، فلما لم يَرِدْ عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد . وأيضاً فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين ، فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح ؛ لأن في الغسل زيادة فعل ، وقد اقتضاه الأمر بالغسل ، فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمّهما حكماً وأكثرهما فائدة وهو الغسل ، لأنه يأتي على المسح والمسح لا ينتظم الغسل . وأيضاً لما حدد الرجلين بقوله تعالى : { وأَرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ } كما قال : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ } دل على استيعاب الجميع ، كما دل ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل .
فإن قيل : قد رَوَى عليّ وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه توضأ ومسح على قدميه ونعليه " . قيل له : لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين ، أحدهما : لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه . والثاني : أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه ؛ وقد رُوي عن علي أنه قرأ : { وأرْجُلَكُمْ } بالنصب وقال : " المراد الغسل " فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال : إن مراد الله الغسل . وأيضاً فإن الحديث الذي رُوي عن عليّ في ذلك ، قال فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا وُضُوءُ مَنْ لم يُحْدِثْ " وهو حديث شعبة عن عبدالملك بن ميسرة عن النّزال بن سبرة : أن عليّاً صلّى الظهر ثم قعد في الرحبة ، فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل وقال : " هذا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ " ؛ ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث . وأيضاً لما احتملت الآية الغسل والمسح ، استعملناها على الوجوب في الحالين : الغسل في حال ظهور الرجلين ، والمسح في حال لبس الخفين .
فإن قيل : لما سقط فرض الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس ، دلّ على أنها ممسوحة غير مغسولة . قيل له : فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مراداً ، ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض ؛ ولم تختلف الأمة أيضاً في نقل الغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأيضاً فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء ، وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء ، كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها .
فصل
وقد اختلف في الكعبين ما هما ، فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم : " هما الناتئان بين مفصل القدم والساق " . وحكى هشام عن محمد : " أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم " . والصحيح هو الأول ؛ لأن الله تعالى قال : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ } فدلّ ذلك على أن في كل رِجْلٍ كعبين ، ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال : إلى الكعاب ، كما قال تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دلّ على أن في كل رجل كعبين .
مطلب : فيما استدل به المصنف من الحديث على المراد بالكعبين
ويدل عليه أيضاً ما حدثنا من لا أتّهم قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه قال : حدثنا إسحاق بن راهويه قال : حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبدالله المحاربي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المَجَازِ وعليه جبة حمراء وهو يقول : " يا أيّها النّاسُ قُولُوا لا إله إِلاّ الله تُفْلِحُوا " ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدْمَى عرقوبيه وكعبيه ، وهو يقول : يا أيها الناس لا تطيعوهُ فإنه كذّاب ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : ابن عبدالمطلب ، قلت : فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة ؟ قالوا : هذا عبدالعزى أبو لهب . وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتىء في جانب القدم ، لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم . قال : وحدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه قال : حدثنا إسحاق قال : أخبرنا وكيع قال : حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن القاسم الجدلي قال : سمعت النعمان بن بشير يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَتُسَوُّونَ صُفُوفَكُمْ أوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أو وُجُوهِكُمْ " قال : فلقد رأيت الرجل منا يُلْزِقُ كعبه بكعب صاحبه ومَنْكِبَهُ بمنكب صاحبه . وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا ؛ والله أعلم .
ذكر الخلاف في المسح على الخفّين
قال أصحابنا جميعاً والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي : " يمسح المُقِيمُ على الخفين يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " . ورُوي عن مالك والليث : " أنه لا وقت للمسح على الخفين ، إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له " ، قال مالك : " والمقيم والمسافر في ذلك سواء " ، وأصحابه يقولون : هذا هو الصحيح من مذهبه ؛ وروى عنه ابن القاسم : " أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم " ، وروى ابن القاسم أيضاً عن مالك أنه ضعَّفَ المسح على الخفين . قال أبو بكر : قد ثبت المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ؛ ولذلك قال أبو يوسف : إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة . وما دفع أحدٌ من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ، ولم يشكّ أحدٌ منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح ، وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها ؟ فرَوَى المَسْحَ موقتاً للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم عمرُ وعليُّ وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة ، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موقَّتٍ سعدُ بن أبي وقاص وجرير بن عبدالله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورَوَى الأعمشُ عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبدالله قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خُفَّيْهِ " . قال الأعمش : قال إبراهيم : كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة . ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها ، وجب استعمالها مع حكم الآية ؛ وقد بيَّنَّا أن في الآية احتمالاً للمسح ، فاستعملناه في حال لبس الخُفَّين واستعملنا الغسل في حال ظهور الرجلين ، فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها ، مِنْ قِبَلِ أنه إن كان مسح قبل نزول الآية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ، ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصّاً في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين ، وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ، ولا يكون ذلك نسخاً ولكنه بيان للمراد بها ، وإن كان جائزاً نَسْخُ الآية بمثله لتواتره وشيوعه . ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا ؛ لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقاً ثبت التوقيت أيضاً ، فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت .
فإن احتجّ المخالف في ذلك بما رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة : " أصبت السنّة " ، وبما رَوَى حماد بن زيد عن كثير بن شِنْظِير عن الحسن ، أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال : كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقّتون . قيل له : قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبدالله حين أنكر على سعد المسح على الخفين : " يا بني عَمُّكَ أفْقَهُ منك ، للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة " وسويد بن غفلة عن عمر أنه قال : " ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم " . وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحدّ الذي بيّنّاه ، فاحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لعقبة حين مسح على خفيه جمعةً : " أَصَبْتَ السُّنَّة " يعني : أنك أصبت السنة في المسح ، وقوله : " إنه مسح جمعة " إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح ، كما يقول القائل : " مسحت شهراً على الخفين " وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح ؛ لأنه معلوم أنه لم يُرِدْ به أنه مسح جمعة دائماً لا يفتر ، وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح ، كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح ؛ وكما تقول : " صليت الجمعة شهراً بمكة " والمعنى : في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة . وأما قول الحسن : " إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون " فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة ، وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس أنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعونها ثلاثاً ؛ فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث .
فإن قيل : في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة " ولو استزدناه لزادنا . وفي حديث أبيّ بن عمارة أنه قال : يا رسول الله امسح على الخفين ؟ قال : " نعم " قال : يوماً ؟ قال : " ويومين " قال : وثلاثة ؟ قال : " نعم ، وما شِئْتَ " . وفي حديث آخر قال : حتى بلغ سبعاً . قيل له : أما حديث خزيمة وما قيل فيه " ولو استزدناه لزادنا " فإنما هو ظنٌّ من الراوي ، والظنُّ لا يغني من الحق شيئاً . وأما حديث أبيّ بن عمارة ، فقد قيل إنه ليس بالقويّ ، وقد اختلف في سنده ، ولو ثبت كان قوله : " وما شِئْتَ " على أنه يمسح بالثلاث ما شاء ، وغير جائز الاعتراض على أخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتملة للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقيت .
مطلب : لا حظّ للنظر مع الأثر
فإن قيل : لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقَّتٍ كمسح الرأس . قيل له : لا حظّ للنظر مع الأثر ، فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط ، وإن كانت غير ثابتة فالكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها ، وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها . وأيضاً فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق النظر ، وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره ، والمسحُ على الخفّين بدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة ، فلم يَجُزْ إثباته بَدَلاً إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت .
مطلب : المسح على الجبيرة مستحبّ عند أبي حنيفة
فإن قيل : قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل . قيل له : أما على مذهب أبي حنيفة فهذا السؤال ساقط ؛ لأنه لا يوجب المسح على الجبائر ، وهو عنده مستحب تركه لا يضرّ . وعلى قول أبي يوسف ومحمد أيضاً لا يلزم ، لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة ؛ فلذلك اختلفا .
فإن قيل : ما أنكرْتَ أن يكون جواز المسح مقصوراً على السفر لأن الأخبار وردت فيه ، وأن لا يجوز في الحضر لما رُوي أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت : " سلوا عَلِيّاً فإنه كان معه في أسفاره " ؛ وهذا يدلّ على أنه لم يمسح في الحضر ، لأن مثله لا يَخْفَى على عائشة ؟ قيل له : يحتمل أن تكون سُئِلَتْ عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على عليّ رضي الله عنه . وأيضاً فإن عائشة أحد من رَوَى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعاً . وأيضاً فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم ، فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم .
فإن قيل : قد تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله : " وَيْلٌ للعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ " . قيل له : إنما ذلك في حال ظهور الرجلين . فإن قيل : جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار . قيل له : لم نُبِح المسح للمقيم ولا للمسافر قياساً ، وإنما أَبَحْنَاه بالآثار ، وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر ، فلا معنى للمقايسة .
واختلف الفقهاء أيضاً في المسح من وجه آخر ، فقال أصحابنا : " إذا غسل رجليه ولبس خُفَّيْهِ ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث " ، وهو قول الثوري ؛ ورُوي عن مالك مثله . وذكر الطحاوي عن مالك والشافعي : " أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خُفَّيْهِ بعد إكمال الطهارة " . ودليل أصحابنا عمومُ قوله صلى الله عليه وسلم : " يَمْسَحُ المُقِيمُ يَوْماً ولَيْلَةً والمُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيامٍ ولياليها " ولم يفرّقْ بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها . وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ، فأهْوَيْتُ إلى خفيه لأنزعهما ، فقال : " مَهْ ! فإنّي أدْخَلْتُ القَدَمَيْنِ الخُفَّيْنِ وهما طَاهِرَتَانِ " فمسح عليهما . ورُوي عن عمر بن الخطاب قال : " إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما " . ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء ، كما يقال : غسل رجليه ، وكما يقال : صلى ركعة ؛ وإن لم يتم صلاته . وأيضاً فإنّ من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح ؛ لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه .
واختُلف في المسح على الجوربين ، فلم يُجِزْهُ أبو حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين . وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين . وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين . وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح : " يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين " . والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا ، فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين لما أجَزْنا المسح ، فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها ؛ ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجوربين في وزن ورودها في المسح على الخفين بَقَّيْنَا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه .
فإن قيل : روى المغيرة بن شعبة وأبو موسى : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه " . قيل له : يحتمل أنهما كانا مجلدين ، فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فِعْلٍ لا نعلم حاله . وأيضاً يحتمل أن يكون وضوء من لم يُحْدِثْ ، كما مسح على رجليه وقال : " هذا وُضُوءُ مَنْ لم يُحْدِثْ " . ومن جهة النظر اتفاقُ الجمع على امتناع جواز المسح على اللفافة ، إذْ ليس في العادة المشي فيها ، كذلك الجوربان . وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشي فيهما وبمنزلة الجرموقين ، ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلداً جاز المسح ؟ ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلداً أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف .
واختلف في المسح على العمامة ، فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعي : " لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار " . وقال الثوري والأوزاعي : " يمسح على العمامة " . والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى : { فَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته ، وماسحُ العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به . وأيضاً فإن الآثار متواترة في مسح الرأس ، فلو كان المسح على العمامة جائزاً لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في المسح على الخفين ؛ فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يَجُزِ المسحُ عليها من وجهين ، أحدهما : أن الآية تقتضي مسح الرأس ، فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم . والثاني : عموم الحاجة إليه ، فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار . وأيضاً حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال : " هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به " ومعلوم أنه مسح برأسه ، لأن مسح العمامة لا يسمَّى وضوءاً ، ثم نفى جواز الصلاة إلاّ به . وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال : " هذا الوضوء الذي افترض الله علينا " فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزي الصلاة إلاّ به .
وإن احتجوا بما رَوَى بلال والمغيرة بن شعبة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة " وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فأصابهم البرد ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين " . قيل لهم : هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون ، ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية ؛ وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته ، وفي بعضها : على جانب عمامته ، وفي بعضها : وضع يده على عمامته ؛ فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة ؛ وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة . وأما حديث ثوبان فمحمولٌ على معنى حديث المغيرة أيضاً بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة . والله أعلم .
باب الوضوء مرة مرة
قال الله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية . الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة واحدة ، إذْ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل ، فمن غسل مرة فقد أدَّى الفرض . وبه وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال : " هَذَا الوُضُوءُ الّذي افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْنا " . وروى ابن عباس وجابر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة " ، وقال أبو رافع : " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثلاثاً ومرة مرة " . قال أبو بكر : فلما نَصَّ الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بَيَّنَّاه ؛ وفيه أشياء مسنونة سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما حدثنا عبدالله بن الحسن قال : حدثنا أبو مسلم قال : حدثنا أبو الوليد قال : حدثنا زائدة قال : حدثنا خالد بن علقمة عن عبدالخير قال : دخل عليٌّ الرحبة بعدما صلى الفجر ، فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه : ايتِني بطهور ! فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبد الخير : ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفأه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ؛ ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ، ثم مسح رأسه بيديه كلتيهما ، ثم صبَّ بيده اليمنى على قدمه اليمنى ، ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ، ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ، ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ، ثم أخذ غَرْفَةً بكفه فشرب منه ثم قال : " من سرَّهُ أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره " . وهذا الذي رواه علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب أصحابنا ، وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثاً ؛ وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحبٌّ غير واجب ، وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة . ويروى عن الحسن البصري أنه قال : " من غمس يده في إناء قبل الغسل أَهَرَاقَ الماء " ، وتابعه على ذلك من لا يُعْتَدُّ به . ويُحْكَى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار ؛ لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ، ولا ينكشف في نوم النهار . قال أبو بكر : والذي في حديث علي من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسقط هذا الاعتبار ويقتضي أن يكون ذلك سنة الوضوء ؛ لأن عليّاً كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلِّمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُما الإِنَاءَ ثلاثاً ، فإنّه لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ " . قال محمد بن الحسن : كانوا يستنجون بالأحجار ، فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلّة من عرق أو غيره فتصيبها ، فأُمر بالاحتياط من تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء . وقد اتفق الفقهاء على النَّدْبِ ، ومن ذكَرْنا قوله آنفاً فهو شاذٌّ ، وظاهر الآية ينفي إيجابه ، وهو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصَّلاةِ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } فاقتضى الظاهرُ وجوبَ غسلهما بعد إدخالهما الإناء ؛ ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها ، وذلك لا يجوز إلا بنصّ مثله أو باتفاق ، والآيةُ على عمومها فيمن قام من النوم وغيره ؛ وعلى أنه قد رُوي أن الآية نزلت فيمن قام من النوم ، وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه . وقد رَوَى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم : أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف غَرْفَةً بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ، ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى ؛ وذكر الحديث . فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده الإناء قبل أن يغسلها ، وهذا يدلّ على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحبابٌ ليس بإيجاب وأن ما في حديث عليّ وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء نَدْبٌ ، وحديث أبي هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يُرِدْ به الإيجابَ وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء ، وهو قوله : " فإنه لا يدري أين باتت يَدُهُ " فأخبر أن كَوْنَ النجاسة على يده ليس بيقين ، ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم ، فهي على أصل طهارتها ، كمن كان على يقين من الطهارة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند الشكّ أن يَبْنِيَ على يقينٍ من الطهارة ويلغي الشك ؛ فدل ذلك على أن أمْرَهُ إذا استيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما استحبابٌ ليس بإيجاب .
وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبدالله كانوا إذا ذُكر لهم حديثُ أبي هريرة في أمر المستيقظ من نومه بغسْلِ يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا : إن أبا هريرة كان مِهْذَاراً فما يصنع بالمهراس ! وقال الأشجعي لأبي هريرة : فما تصنع بالمهراس ؟ فقال : أعوذ بالله من شَرِّكَ . والذي أنكره أصحاب عبدالله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه ؛ لأنه كان معلوماً أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يُتَوَضَّأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فلم ينْكِره أحد ، ولم يكن الوضوء منه إلاّ بإدخال اليد فيه ، فاستنكر أصحاب عبدالله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكيرٍ من أحدٍ منهم عليه ، ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب .
واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس ، فقال أصحابنا : " هما من الرأس تُمْسَحان معه " ، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ؛ ورواه أشهب عن مالك ، وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد : " وإنهما تمسحهما بماء جديد " . وقال الحسن بن صالح : " يَغْسِلُ باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه " . وقال الشافعي : " يمسحهما بماء جديد وهما سنّة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس " . والدليل على أنهما من الرأس وتُمسحان معه ما حدثنا عبيد الله بن الحسين قال : حدثنا أبو مسلم قال : حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل كفيه ثلاثاً وطهّر وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ومسح برأسه وأذنيه وقال : " الأذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ " . وأخبرنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال : حدثنا عامر بن سنان قال : حدثنا زياد بن علاقة عن عبدالحكم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأُذُنَانِ مِنَ الرّأْسِ مَا أَقْبَلَ مِنْهُما وما أَدْبَرَ " . ورَوَى ابن عباس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أيضاً .
أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين ، أحدهما : قوله إنه مسح برأسه وأذنيه ، وهذا يقتضي أن يكون مَسْحُ الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية . والثاني : قوله : " الأذنان من الرأس " لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه ، وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين ؛ لأن ذلك بَيِّنٌ معلوم بالمشاهدة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من الفائدة ، فثبت أن المراد الوجه الثاني .
فإن قيل : يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس . قيل له : لا يجوز ذلك ؛ لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ، ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرِّجْلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه ؟ فثبت أن قوله : " الأذنان من الرأس " إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له . ووجه آخر ، وهو أن " مِنْ " بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة على غيره ، فقوله : " الأذنان من الرأس " حقيقته أنهما بعض الرأس ، فواجب إذا كان كذلك أن تُمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مَسَحَ المُتَوَضِّىءُ برَأْسِهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أُذُنَيْهِ ، وإذا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ " فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ : خَمْسٌ في الرّأْسِ " فذكر منها المضمضة والاستنشاق ، ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس ، كذلك قوله : " الأذنان من الرأس " . قيل له : لم يقل الفم والأنف من الرأس ، وإنما قال : " خمس في الرأس " فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس ؛ ونحن نقول إن هذه الجملة هو الرأس ، ونقول العينان في الرأس ، وكذلك الفم والأنف ، قال الله تعالى : { لووا رؤوسهم } [ المنافقون : 5 ] والمراد هذه الجملة . على أن ما ذكرْتَهُ هو لنا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمَّى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأساً فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شيء منها إلا بدلالة ، ولما قال تعالى : { وَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } وكان معلوماً أنه لم يُرِدْ به الوجْهَ وإن كان في الرأس وإنما أراد ما عَلاَ منه مما فوق الأذنين ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " الأذنان من الرأس " كان ذلك إخباراً منه بأنهما من الرأس الممسوح .
فإن قيل : رُوي " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديداً " . وروت الرُبَيِّعُ بنت معوذ " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصُدْغَيْهِ ثم مسح أذنيه " ، وهذا يقتضي تجديد الماء لهما . قيل له : أما قولك " إنه أخذ لهما ماء جديداً " فلا نعلمه رُوي من جهة يُعتمد عليها ، ولو صح لم يدل على قولك ؛ لأنهما إذا كانتا من الرأس فالماء الجديد الذي أخذه لهما هو الذي أخذه لجميع الرأس ، ولا فرق بين قول القائل : " أخذ للأذنين ماءً جديداً " وبين قوله : " أخذ للرأس ماءً جديداً " إذا كانتا من الرأس ، والماء المأخوذ للرأس هو للأذنين ؛ وقول الرُّبَيِّع بنت معوذ : " مسح برأسه ثم مسح أذنيه " لا دلالة فيه على تجديد الماء للأذنين ؛ لأن ذِكْرَ المسح لا يقتضي تجديد الماء لهما ، لأن اسم المسح يقع على هذا الفعل مع عدم الماء ؛ وهو مثل ما رُوي " أنه مسح رأسه مرتين بماء واحد أقبل بهما وأدبر " وقد علمنا أنه أقبل بهما وأدبر ولم يوجب ذلك تجديد الماء ؛ كذلك الأذنان ؛ إذْ غير ممكن مسح الرأس مع الأذنين في وقت واحد كما لا يمكن مسح مقدم الرأس ومؤخره في حال واحدة ، فلا دلالة في ذكر مسح الأذنين بعد مسح الرأس على تجديد الماء لهما دون الرأس .
مطلب : في معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " سجد وجهي للذي خلقه "
فإن احتجّوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : " سَجَدَ وَجْهِي للّذي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ " فجعل السمع من الوجه . قيل له : لم يُرِدْ بالوجه في هذا الموضع العُضْوَ المسمَّى بذلك ، وإنما أراد به أن جملة الإنسان هو الساجد لله لا الوجه ، وهو كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] يعني به ذاته . وأيضاً فإنه ذكر السمع ، وليس الأذنان هما السمع ، فلا دلالة فيه على حكم الأذنين ؛ وقد قال الشاعر :
* إلى هَامَةٍ قَدْ وَقَرَ الضَّرْبُ سَمْعَها * ولَيْسَتْ كأُخْرَى سَمْعُهَا لم يُوقَرِ *
فأضاف السمع إلى الهامة . ويدل على أنهما تُمسحان مع الرأس على وجه التَّبَعِ أنه ليس في الأصول مَسْحٌ مسنونٌ إلا على وجه التبع للمفروض منه ، ألا ترى أنّ مِنْ سُنّة المسح على الخفين أن يمسح من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والمفروض منه بعضه أما على قولنا فمقدار ثلاثة أصابع وعلى قول المخالف مقدار ما يسمَّى مسحاً ؟ وقد رُوي في حديث عَبْدِ خَيْرٍ عن عليّ أنه مسح رأسه مقدَّمَهُ ومؤَخَّرَهُ ثم قال : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وروى عبدالله بن زيد المازني والمقدام بن معدي كرب : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه " ، ومعلوم أن القفا ليس بموضع مفروض المسح ؛ لأن مسح ما تحت الأذنين لا يُجْزِي من المفروض ، وإنما مَسْحُ ذلك الموضع على جهة التبع للمفروض .
فإن قيل : لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشْبَهَتا داخلَ الفم والأنف ، فيُجَدِّد لهما ماءً جديداً كالمضمضة والاستنشاق فيكون سُنَّةً على حيالها . قيل له : هذا غلط ؛ لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد مسحه مع الرأس على وجه التبع ، فكذلك الأذنان . وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنّةً على حيالهما مِنْ قِبَلِ أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماءً جديداً ، والأذنان والقفا جميعاً من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له .
فإن قيل : لو كانت الأذنان من الرأس لحلّ بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنوناً مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه . قيل له : لم يسنّ حلقهما ولا حلّ بحلقهما ، لأن في العادة أن لا شَعَرَ عليهما ، وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة ، فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذّاً نادراً أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح . وأيضاً فإنا قلنا إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بيّنا لا على أنهما الأصل ، ألا ترى أنا لا نُجِيزُ المسح عليهما دون الرأس ؟ فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلاً في الحلق ! وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له ، لأنه لو كان باطنهما مغسولاً لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما ، ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح مع الرأس دلّ ذلك على أنهما من الرأس ، ولأنّا لم نجد عضواً بعضه من الرأس وبعضه من الوجه . وقال أصحابنا : لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يُجْزِهِ من الفرْضِ لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه ، ألا ترى أنه لو كان شَعْرُهُ قد بلغ مَنْكبَهُ فمسح ذلك الموضع من شعره لم يُجْزِهِ عن مسح رأسه ؟ .
واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي : " هو جائز " . وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث : " إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله " . والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ } الآية ، فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عُهْدَةَ الآية ، ولو شرطنا فيه الموالاة وتَرْكَ التفريق كان فيه إثباتُ زيادة في النصّ ، والزيادة في النصّ توجب نسخه . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } والحَرَجُ الضيق ، فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونَفْي الحرج ، وفي قول مخالفينا إثباتُ الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية . ويدل عليه قوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } [ الأنفال : 11 ] الآية ، فأخبر بوقوع التطهير بالماء من غير شرط الموالاة ، فحيثما وجد كان مطهراً بحكم الظاهر ؛ ويدل عليه قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } [ الفرقان : 48 ] ومعناه مطهراً ، فحيثما وُجد فواجب أن يكون هذا حكمه ؛ ولو مَنَعْنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهوراً . ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا محمد بن عبيد الله عن الحسين بن سعد عن أبيه عن عليّ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحتُ رأيتُ بذراعي قَدْرَ موضع الظفر لم يصبه الماء ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو مَسَحْتَ عَلَيْهِ بِيَدِكَ أَجْزَأَكَ " فأجاز له أن يمسح عليه بعد تَرَاخِي الوقت ولم يأمره باستيناف الطهارة . وروى عبدالله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً وأعقابهم تلوح ، فقال : " وَيْلٌ للأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ! أَسْبِغُوا الوُضُوءَ ! " . ويدلّ عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تَتِمُّ صَلاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ " . والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه ، لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن ، ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق . ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر : " حَتَّى يُسْبِغَ الوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " ولم يذكر فيه التتابع ، فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة .
فإن قيل : لما كان قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } أمراً يقتضي الفور وجب أن يكون مفعولاً على الفور ، فإذا لم يفعل استقبل إذْ لم يفعل المأمور به . قيل له : الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة . ألا ترى أن تارك الوضوء رأساً لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي ؟ وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها ؛ وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلاً على صحة قولنا أوْلى ؛ وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صحّ عندنا جميعاً وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته ، لأن في إيجاب إبطاله عن الفور وإيجاب إعادته فعله على التراخي ، فواجب أن يكون مقرّاً على حكمه في صحة فعله بدياً على الفور .
واحتجَّ أيضاً القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال : " هذا وضُوءُ مَنْ لا يَقْبَلُ الله له صَلاةً إلاّ به " قالوا : ومعلوم أن فِعْلَهُ كان على وجه المتابعة . قيل له : هذا دَعْوَى ، ومن أين لك أنه فعله متتابعاً ؟ وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حُكْمَ جواز فعله متفرقاً ، وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع ؛ لأن قوله : " هذا وضوء " إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان .
فإن قيل : لما كان بعضه مَنُوطاً ببعض حتى لا يصح لبعضه حكم إلا بجميعه أشبه أفعال الصلاة . قيل له : هذا منتقض بالحجّ ؛ لأن بعضه مَنُوطٌ ببعض ، ألا ترى أنه لو لم يقف بعَرَفَةَ بطل إحرامُه وطوافُه الذي قدمه ولم يجب من أجل ذلك متابعة أفعاله ؟ وأيضاً فإنه قد ثبت لغسل بعض الأعضاء حكم دون بعض ، ألا ترى أنه لو كان بذراعه عُذْرٌ لسقط فرضُ طهارته عنه ؟ وليس كذلك الصلاة لأن أفعالها كلها مَنُوطَةٌ بعضها ببعض ، فإما أن يسقط جميعها أو يثبت جميعها على الحال التي يمكن فعلها ، فمن حيث جاز سقوط بعض أعضاء الطهارة وبقي البعض أشْبَهَ الصلاةَ والزكاةَ وسائرَ العبادات إذا اجتمع وجوبُها عليه فيجوز تفريقها عليه . وأيضاً فإن الصلاة إنما لزم فيها الموالاة من غير فصل لأنه يدخل فيها بتحريمة ولا يصح بناء أفعالها إلاّ على التحريمة التي دخل بها في الصلاة ، فمتى أبطل التحريمة بكلام أو فِعْلٍ لم يصحَّ له بناء باقي أفعالها بغير تحريمة ، والطهارة لا تحتاج إلى تحريمة ، ألا ترى أنه يصحّ في أضعافها الكلامُ وسائر الأفعال ولا يبطلها ذلك ؟ وإنما شَرَطَ فيه من قال ذلك عَدَمَ جَفَاف العضو قبل إتمام الطهارة وجَفَافُ العضو لا تأثير له في حكم رفع الطهارة ، ألا ترى أن جفاف جميع الأعضاء لا يؤثر في رفعها ؟ كذلك جفاف بعضها . وأيضاً فلو كان هذا تشبيهاً صحيحاً وقياساً مستقيماً لما صح في هذا الموضع ، إذْ غير جائز الزيادة في النصّ بالقياس فلا مدخل للقياس ههنا . وأيضاً فإنه لا خلاف أنه لو كان في الشمس ووالى بين الوضوء إلا أنه كان يجفّ العضو منه قبل أن يغسل الآخر أنه لا يوجب ذلك بطلان الطهارة ، كذلك إذا جفّ بتركه إلى أن يغسل الآخر .
فصل
مطلب : فيما تمسك به القائلون بفرض التسمية على الوضوء وجواب المصنف عن ذلك
وقوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، يدل على أن التسمية على الوضوء ليست بفرض لأنه أباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء من غير شرط التسمية ، وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار . وحُكي عن بعض أصحاب الحديث أنه رآها فرضاً في الوضوء ، فإن تركها عامداً لم يُجْزِهِ وإن تركها ناسياً أجزأه . ويدل على جوازه قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } [ الفرقان : 48 ] فعلق صحة الطهارة بالفعل من غير ذكر التسمية شرطاً فيه ، فمن شَرَطَها فهو زائد في حكم هذه الآيات ما ليس منها ونافٍ لما أباحته من جواز الصلاة بوجود الغسل . ويدل عليه من جهة السنَّة حديثُ ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال : " هَذَا وُضُوءُ مَنْ لا يَقْبَلُ الله له صَلاةً إلاّ بِهِ " ولم يذكر فيه التسمية ؛ وقد علَّم الأعرابيَّ الطهارة في الصلاة في حديث رفاعة بن رافع وقال : " لا تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ . . . " إلى آخره ، ولم يذكر التسمية ؛ وحديث عليّ وعثمان وعبدالله بن زيد وغيرهم في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أحد منهم التسمية فرضاً فيه ، وقالوا : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو كانت التسمية فَرْضاً فيه لذكروها ولورد النقل به متواتراً في وزن ورود النقل في سائر الأعضاء المفروض طهارتها ، لعموم الحاجة إليه .
فإن احتجّوا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الله عَلَيْهِ " . قيل له : لا تجوز الزيادة في نصِّ القرآنِ إِلاّ بمثل ما يجوز به النسخ ، فهذا سؤال ساقط من وجهين : أحدهما ما ذَكَرْنا ، والآخر أن أخبار الآحاد غير مقبولة فيما عَمَّت البَلْوَى بِهِ ، وإن صحَّ احتمل أنه يريد به نَفْيَ الكمال لا نَفْيَ الأصل ، كقوله : " لا صَلاَةَ لجَارِ المَسْجِدِ إلاّ في المَسْجِدِ " و " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فلا صَلاَةَ له " ونحو ذلك .
فإن قيل : لما كان الحدث يبطله صار كالصلاة في الحاجة إلى ذكر اسم الله تعالى في ابتدائه . قيل له : قولك إن الحدث يبطل الصلاة غلطٌ عندنا ، لأنه جائز بقاء الصلاة مع الحدث إذا سبقه ويتوضأ ويبني ؛ وأيضاً فليست العلّةُ في حاجة الصلاة إلى الذكر أن الحَدَثَ يبطلها وإنما المعنى أن القراءة مفروضة فيها ، وأيضاً نقيسه على غسل النجاسة بمعنى أنه طهارة ، وأيضاً فقد وافقونا على أن تَرْكَها ناسياً لا يمنع صحة الطهارة ؛ فبطل بذلك قولهم من وجهين : أحدهما أن الصلاة يستوي في بطلانها ترك ذكر التحريمة ناسياً أو عامداً ، والثاني : أنها لو كانت فرضاً لما أسقطها النسيان ، إذْ كانت شرطاً في صحة الطهارة كسائر شرائطها المذكورة .
فصل
مطلب : اختلف الفقهاء في فرضية الاستنجاء
قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، يدل على أن الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يَتَعَدَّ الموضع . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مُسِيئاً في تركه . وقال الشافعي : " لا يجزيه إذا تركه رأساً " . وظاهر الآية يدلّ على صحة القول الأوّل . ورُوي في التفسير أن معناه : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مُحْدِثُونَ ؛ وقال في نسق الآية : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فحَوَتْ هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا ، أحدهما : إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء ، وإباحة الصلاة به ؛ وموجب الاستنجاء فرضاً مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء . ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم ، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول مُوجبي الاستنجاء فرضاً . والوجه الآخر من دلالة الآية : قوله تعالى : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } إلى آخرها ؛ فأوجب التيمم على من جاء من الغائط ، وذلك كناية عن قضاء الحاجة ، فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء ، فدل ذلك على أنه غير فرض . ويدل عليه من جهة السنّة حديث علي بن يحيى بن خلاّد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تتمُّ صلاةُ أَحَدِكُمْ حَتّى يَغْسِلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ ويَمْسَحَ برَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء . ويدلّ عليه أيضاً حديثُ الحُصَيْن الحرّاني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فلا حَرَجَ ، ومَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فلا حَرَجَ " ، فنفى الحرج عن تارك الاستجمار ، فدل على أنه ليس بفرض .
فإن قيل : إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء . قيل له : هذا خطأ من وجهين ، أحدهما : أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء ، ومن ادّعَى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصَّه بغير دلالة . والثاني : أنه تسقط فائدته ؛ لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار ، فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل ، هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا كان وَضْعاً للكلام في غير موضعه .
فإن قيل : في حديث سلمان : " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتزي بدون ثلاثة أحجار " ، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ " وأمْرُهُ على الوجوب ، فيحمل قوله : " فلا حَرَجَ " على ما لا يسقط إيجاب الأمر ، وهو أن يكون إنما نَفَى الحرج عمن لم يستجمر وتراً ويفعله شفعاً ، لا بأن يتركه أصلاً ، أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب . قيل له : بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نُسْقِطُ أحدهما بالآخر ، فنجعل أمره بالاستنجاء ونَهْيَهُ عن تركه على النذب ، ونستعمل معه قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن لا فلا حرج " في نفي الإيجاب ؛ ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلاً ، لا سيّما إذا كان خبرنا موافقاً لما تضمنته نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه . ويدلّ على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاقُ الجميع على جواز صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار ، ولو كان الاستنجاء فرضاً لكان الواجبُ أن يكون بالماء دون الأحجار ، كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجوداً ؛ وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفوٌّ عنه .
فإن قيل : أنت تجيز فَرْكَ المَنِيِّ من الثوب إذا كان يابساً ولم يدلّ ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيراً ، فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار . قيل له : إنما أجزنا ذلك في المنيّ وإن كان نجساً لخفة حكمه في نفسه ، ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه في جواز فَرْكِهِ ؟ فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شيء منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات ، وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها ، فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن . وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جِرْمٌ قائم في الخفّ أنه يطهر بالدَّلْكِ بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يُزِلْها إلا الغسل . فيقال لهم : إنما اختلفنا لاختلاف حال جِرْمِ الخُفِّ وبدن الإنسان في كَوْنِ جِرْمِ الخفّ مُسْتَخْصَفاً غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه ، وجِرْمُ النجاسة سخيفٌ متخلخل ينشّف الرطوبة الحاصلة في الخفّ إلى نفسها ، فإذا حُكَّتْ لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له ، فصار اختلاف أحكامها في الحَكّ والفَرْكِ والغسل متعلقاً إما بنفس النجاسة لخفّتها وإما بما تَحُلُّه النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء ، كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه إذا يجزي ، لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه ، فإذا أُزيل ما على ظاهره لم يَبْقَ هناك إلا ما لا حكم له .
فصل
ويستدل بقوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، على بطلان قول القائلين بإيجاب الترتيب في الوضوء ، وعلى أنه جائز تقديم بعضها على بعض ما يرى المتوضىء ؛ وهو قول أصحابنا ومالك والثوري والليث والأوزاعي . وقال الشافعي : " لا يجزيه غسلُ الذراعين قبل الوجه ولا غسل الرجلين قبل الذراعين " . وهذا القول مما خرج به الشافعي عن إجماع السلف والفقهاء ؛ وذلك لأنه رُوي عن علي وعبدالله وأبي هريرة : " ما أُبالي بأي أعضائي بدأ إذا أتممتُ وُضوئي " ، ولا يُروى عن أحد من السلف والخَلَفِ فيما نعلم مثل قول الشافعي . وقوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، يدلّ من ثلاثة أوجه على سقوط فرض الترتيب ، أحدها : مقتضى ظاهرها جواز الصلاة بحصول الغسل من غير شرط الترتيب ، إذ كانت " الواو " ههنا عند أهل اللغة لا توجب الترتيب ؛ قاله المبرد وثعلب جميعاً ، وقالوا : إن قول القائل : " رأيت زيداً وعمراً " بمنزلة قوله : " رأيت الزيدين ورأيتهما " وكذلك هو في عادة أهل اللفظ ، ألا ترى أن من سمع قائلاً يقول : " رأيت زيداً وعمراً " لم يعتقد في خبره أنه رأى زيداً قبل عمر ، بل يجوز أن يكون رآهما معاً ، وجائز أن يكون رأى عمراً قبل زيد ؟ فثبت بذلك أن " الواو " لا توجب الترتيب . وقد أجمعوا جميعاً أيضاً في رجل لو قال : " إذا دخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حرٌّ وعليَّ صدقةٌ " أنه إذا دخل الدار لزمه ذلك كله في وقت واحد ، لا يلزمه أحدها قبل الآخر ؛ كذلك هذا . ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَقُولُوا ما شَاءَ اللَّهُ وشِئْتَ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ الله ثُمَّ شِئْتَ " ؛ فلو كانت " الواو " توجب الترتيب لجرت مجرى " ثم " ولما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما . وإذا ثبت أنه ليس في الآية إيجابُ الترتيب فموجبه في الطهارة مخالف لها وزائد فيها ما ليس منها ، وذلك يوجب نسخ الآية عندنا لحَظْرِهِ ما أباحته ؛ ولم يختلفوا أنه ليس في هذه الآية نسخٌ ، فثبت جواز فعله غير مرتب . والوجه الثاني من دلالة الآية : قوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ } ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الرِّجْلَ مغسولة معطوفة في المعنى على الأيدي ، وأن تقديرها : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤوسكم ؛ فثبت بذلك أن ترتيب اللفظ على هذا النظام غير مراد به ترتيب المعنى . والوجه الثالث : قوله في نسقها : { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } ، وهذا الفصل يدل من وجهين على سقوط الترتيب ، أحدهما : نفيه الحرج ، وهو الضيق فيما تعبدنا به من الطهارة ، وفي إيجاب الترتيب إثباتٌ للحرج ونفيُ التوسعة . والثاني : قوله : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فأخبر أن مراده حصول الطهارة بغسل هذه الأعضاء ، ووجود ذلك مع عدم الترتيب كهو مع وجوده ، إذ كان مراد الله تعالى الغسل .
فإن قيل على الفصل الأول : نحن نسلم لك أن " الواو " لا تُوجب الترتيب ، ولكن الآية قد اقتضت إيجابه من حيث كانت الفاء للتعقيب ، ولا خلاف بين أهل اللغة فيه ، فلما قال تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } لزم بحكم اللفظ أن يكون الذي يلي حال القيام إليها غسل الوجه ؛ لأنه معطوف عليه بالفاء ، فلزم به تقديم غسله على سائر الأعضاء ، وإذا لزم الترتيب في غسل الوجه لزم في سائر الأعضاء لأن أحداً لم يفرق بينهما . قيل له : هذا غير واجب من وجهين ، أحدهما : أن قوله : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ } متفقٌ على أنه ليس المراد به حقيقة اللفظ ، لأن الحقيقة تقتضي إيجاب الوضوء بعد القيام إلى الصلاة ؛ لأنه جعله شرطاً فيه فأطلق ذِكْرَ القيام وأراد به غيره ، ففيه ضمير على ما بيّنا فيما تقدم ؛ وما كان هذا سبيله فغير جائز استعماله إلا بقيام الدلالة عليه ، إذْ كان مجازاً ؛ فإذاً لا يصح إيجاب غسل الوجه مرتباً على المذكور في الآية لأجل إدخال الفاء عليه ، إذ كان المعنى الذي ترتب عليه الغسل موقوفاً على الدلالة ؛ فهذا وجه يسقط به سؤال هذا السائل . والوجه الآخر : أن نسلم لهم جوازَ اعتبار هذا اللفظ فيما يقتضيه من الترتيب ، فنقول لهم : إذا ثبت أن " الواو " لا توجب الترتيب صار تقدير الآية : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء ، فيصير الجميع مرتباً على القيام وليس يختصّ به الوجه دون سائرها ، إذْ كانت " الواو " للجمع ، فيصير كأنه عطف الأعضاء كلها مجموعة بالفاء على حال القيام ، فلا دلالة فيه على الترتيب ، بل تقتضي إسقاط الترتيب .
ويدلّ على سقوط الترتيب قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً } [ الفرقان : 48 ] ومعناه : مطهراً ؛ فحيثما وُجد ينبغي أن يكون مطهراً مستوفياً لهذه الصفة التي وصفه الله بها ؛ ومُوجِبُ الترتيب قد سلبه هذه الصفة إلا مع وجود معنى آخر غيره ، وهذا غير جائز . ويدل عليه من جهة السنّة حديثُ رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي حين علمه الصلاة وقال له : " إنه لا تتمّ صلاة أحد من الناس حتى يَضَعَ الوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثم يكبِّر ويحمد الله " وذكر الحديث ؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا وضع الوضوء مواضعه أجزأه ، ومواضعُ الوضوء الأعضاء المذكورة في الآية ، فأجاز الصلاة بغسلها من غير ذكر الترتيب ، فدل على أن غسل هذه الأعضاء يوجب كمال طهارته لوضعه الوضوء مواضعه .
فإن قيل : إذا لم يرتب فلم يضع الوضوء مواضعه . قيل له : هذا غلطٌ ؛ لأن مواضع الوضوء معلومة مذكورة في الكتاب ، فعلى أي وجه حصل الغسل فقد وضع الوضوء مواضعه فيجزيه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإكمال طهارته إذا فعل ذلك . ويدل عليه من جهة النظر اتفاقُ الجميع على جواز طهارته لو بدأ من المِرْفَقِ إلى الزّنْدِ ، وقال تعالى : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ } فلما لم يجب الترتيب فيما هو مرتّب في مقتضى حقيقة اللفظ فما لم يَقْتَضِ اللفظُ ترتيبَهُ أحْرَى أن يجوز ، وهذه دلالة ظاهرة لا يُحتاج معها إلى ذكر علة يجمعها ؛ لأنه قد ثبت بما وصفنا أن المقصد فيه ليس الترتيب ، إذ لو كان كذلك لكان ما اقتضى اللفظ ترتيبه أوْلى أن يكون مرتباً . وأيضاً يجوز أن يقاس عليها بأنهما جميعاً من أعضاء الطهارة ، فلما سقط الترتيب في أحدهما وجب سقوط في الآخر . وأيضاً لما لم يجب الترتيب بين الصلاة والزكاة ، إذْ كل واحدة منهما يجوز سقوطها مع ثبوت فرض الأخرى ، كان كذلك الترتيب في الوضوء لجواز سقوط فرض غسل الرجلين لعلة بهما مع لزوم فرض غسل الوجه . وأيضاً لما لم يستحلّ جمع هذه الأعضاء في الغسل وجب أن لا يجب فيها الترتيب كالصلاة والزكاة ، وقد رُوي عن عثمان أنه توضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم غسل رجليه ثم مسح ثم قال : " هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ " .
فإن احتجُّوا بما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال : " هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاةً إلا به " . قيل له : ليس في هذا الخبر ذكر الترتيب وإنما هو حديث زيد العَمِّيِّ عن معاوية بن قرّة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال : " هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلاّ به " ثم توضأ مرتين مرتين ، وذكر الحديث ، فلم يذكر فيه أنه فعله مرتباً ؛ وليس يمتنع أن يكون قد بدأ بالذراعين قبل الوجه أو بمسح الرأس قبله ، ومن ادَّعَى أنه فعله مرتباً لم يمكنه إثباته إلا برواية .
فإن قيل : كيف يجوز أن يتأول عليه ترك الترتيب مع قولك إن المستحب فعله مرتباً ؟ قيل له : جائز أن يترك المستحب إلى غيره مما هو مُباحٌ ، ومع ذلك فيجوز أن يكون فعله غير مرتب على وجه التعليم ، كما أنه أخّر المغرب في حالٍ على وجه التعليم والمستحب تقديمها في سائر الأوقات .
فإن قيل : فإن لم يكن فعله مرتباً فواجب أن يكون فعله غير مرتب واجباً ، لقوله : " هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاةً إلاّ به " . قيل له : لو قبلنا ذلك وقلنا مع ذلك إن اللفظ يقتضي وجوب فعله على ما أشار به إليه من عَدَمِ ترتيب الفعل لكنا أجزناه مرتباً بدلالةً تسقط سؤالك . ولكنا نقول إن قوله : " هذا وضوء " إنما هو إشارةٌ إلى الغسل دون الترتيب ، فلذلك لم يكن للترتيب فيه مدخل .
فإن احتجُّوا بما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصَّفَا وقال : " نَبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " وذلك عموم في ترتيب الحكم به واللفظ جميعاً . قيل له : هذا يدل على أن " الواو " لا توجب الترتيب ؛ لأنها لو كانت توجبه لما احتاج إلى تعريفه الحاضرين وهم أهل اللسان ، ولا دلالة فيه مع ذلك على وجوب الترتيب في الصفا والمروة فكيف به في غيره ! لأن أكثر ما فيه أنه إخبارٌ عما يريد فعله من التبدئة بالصفا ، وإخبارُهُ عما يريد فعله لا يقتضي وجوباً ، كما أن فعله لا يقتضي الإيجاب ؛ وعلى أنه لو اقتضى الإيجاب لكان حكمه مقصوراً على ما أخبر به وفعله دون غيره .
فإن قيل : قوله صلى الله عليه وسلم : " نبدأ بما بدأ الله به " إخبار بأن ما بدأ الله به في اللفظ فهو مبدوٌّ به في المعنى ، لولا ذلك لم يقل : " نبدأ بما بدأ الله به " إنما أراد التبدئة به في الفعل ، فتضمن ذلك إخباراً بأن الله قد بدأ به في الحكم من حيث بدأ به في اللفظ . قيل له : ليس هذا كما ظننت ، مِنْ قِبَلِ أنه يجوز أن يقول : نبدأ بالفعل فيما بدأ الله به في اللفظ ، فيكون كلاماً صحيحاً مفيداً . وأيضاً لا يمتنع عندنا أن يريد بترتيب اللفظ ترتيب الفعل ، إلاّ أنه لا يجوز إيجابه إلا بدلالة . ألا ترى أن " ثُمَّ " حقيقتها التراخي ، وقد ترد وتكون في معنى " الواو " كقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] ومعناه : وكان من الذين آمنوا ؛ وقوله تعالى : { ثم الله شهيد } [ يونس : 46 ] ومعناه : والله شهيد ؛ وكما تجيء " أو " بمعنى " الواو " كقوله تعالى : { إن يكن غنيّاً أو فقيراً فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] ومعناه : إن يكن غنيّاً وفقيراً ؛ فكذلك لا يمتنع أن يريد بالواو الترتيب فتكون مجازاً ولا يجوز حملها عليه إلا بدلالة .
مطلب : في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج
فإن قيل : سئل ابن عباس وقيل له : كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ؟ فقال : كيف تقرؤون الدَّيْنُ قبل الوصية أو الوصيةُ قبل الدَّيْنِ ؟ قالوا : الوصية ، قال : فبأيهما تبدؤون ؟ قالوا : بالدين ، قال : فهو ذاك . فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك . قيل له : كيف يُحتجُّ بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه ، وهو قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } [ البقرة : 196 ] ؟ وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه ، فمن جهل هذا لم يُنْكَرْ منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ؛ وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة ، وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان ؛ وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل ، أو قول هذا السائل ؟ فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلاّ قول ابن عباس لكان كافياً مغنياً .
فإن قيل : قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابْدَؤُوا بما بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " ، وقال تعالى : { إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [ القيامة : 17 و 18 ] فقوله : " ابدؤوا بما بدأ الله به " أمرٌ يقتضي التبدئة بما بدأ الله به في اللفظ والحكم ، وقوله عز وجل : { فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] لزوم في عموم اتباعه مرتباً إذا ورد اللفظ كذلك . قيل له : أما قوله : " ابدؤوا بما بدأ الله به " فإنما ورد في شأن الصفا والمروة ، فذكر بعضهم القصة على وجهها ، وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم : " ابدؤوا بما بدأ الله به " ، وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي صلى الله عليه وسلم القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك . وأيضاً فنحن نبدأ بما بدأ الله به ، وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ ، فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به . وكذلك الجواب في قوله : { فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه ، وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو جمع وغيره ؛ وأنت متى أوجبتَ الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه ، وترتيبُ اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل .
فإن قيل : إذا كان القرآن اسماً للتأليف والحكم جميعاً فواجب علينا اتباعه في الأمرين . قيل له : القرآن اسم للمتلوِّ حكماً كان أو خبراً ، فعلينا اتباعه في تلاوته ؛ فأما مراد ترتيب الفعل على تريتب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به ، ألا ترى أن كثيراً من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكامٌ أخَرُ ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده ؟ وقد علمنا أنه غير جائز تغيير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه ، وليس يوجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة ، فبان بذلك سقوط هذا السؤال .
فإن قيل : قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته : " أنت طالق وطالق وطالق " قبل الدخول بها ، فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة ، فجعلت " الواو " مرتِّبَةً بحكم اللفظ ، فكذلك قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } يُلْزِمُكَ إيجابَ الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب . قيل له : لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرتَ من كون " الواو " مقتضيةً للترتيب ، وإنما أوْقَعْنَا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت ، وحُكْمُ الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظرٍ به حال أخرى ، فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها ؛ وأما قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح ؛ لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يُغْني ولا يتعلق به حكمٌ إلا بغسل الجميع ، فصار غسل الجميع موجباً معاً بحكم اللفظ ، فلم يَقْتَضِ اللفظ الترتيب ، ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال : " أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار " لم يقع منه شيء إلا بالدخول ؟ لأنه شَرَطَ في كل واحدة ما شَرَطَهُ في الأخرى من الدخول ، كما شَرَطَ في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر ؛ ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته : " إن دخلتِ هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق " فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق ، ولم يكن قوله : " هذه وهذه " موجباً لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ برَأْسِهِ ثم يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " و " ثُمَّ " تقتضي الترتيب بلا خلاف . قيل له : لا يخلو قائل ذلك من أن يكون متكذباً أو جاهلاً ، وأكثر ظني أن قائله فيه متكذب وقد تعمد ذلك ؛ لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاّد عن أبيه عن عمة رفاعة بن رافع ، وقد رُوي من طرق كثيرة وليس في شيء منها ما ذكر من الترتيب وعَطْف الأعضاء بعضها على بعض ب " ثُمَّ " وإنما أكثر ما فيه : " يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين " وقال في بعضها : " حتّى يَضَعَ الطهورَ مواضِعَه " وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب ، وأما عطفه ب " ثُمَّ " فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي . وعلى أنه لو رُوي ذلك في الحديث لم يَجُز الاعتراضُ به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه ، فإذْ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لِمَا وصفنا .
باب الغسل من الجنابة
قال الله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } قال أبو بكر : الجنابة اسم شرعيٌّ يفيد لزوم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومسّ المصحف ودخول المسجد إلا بعد الاغتسال ، فمن كان مأموراً باجتناب ما ذَكَرْنا من الأمور موقوف الحكم على الاغتسال فهو جُنُبٌ ، وذلك إنما يكون بالإنزال على وجه الدّفْقِ والشهوة أو الإيلاج في أحد السبيلين من الإنسان ، ويستوي فيه الفاعل والمفعول به . وينفصل حكم الجنابة من حكم الحيض والنفاس وإن كان الحيض والنفاس يحظّران ما تحظّره الجنابة مما قدّمْنا ، بأن الحيض والنفاس يحظران الوطء أيضاً ، ووجود الغسل لا يطهرهما أيضاً ما دامت حائضاً أو نُفَسَاءَ ، والغسلُ يطهر الجنب ولا تحظر عليه الجنابة الوطء . وإنما سُمِّي جُنُباً لما لزم من اجتناب ما وصفنا إلى أن يغتسل فيطهره الغسل ؛ والجنبُ اسمٌ يُطلق على الواحد وعلى الجماعة ، وذلك لأنه مصدر ، كما قالوا : " رجل عَدْلٌ وقوم عدل " و " رجل زَوْرٌ وقوم زَوْرٌ " من الزّيارة ، وتقول منه : " أَجَنْبَ الرجل وتَجَنَّبَ واجْتَنَبَ " والمصدر الجنابة والاجتناب ؛ فالجنابة المذكورة في هذا الموضع هي البعد والاجتناب لما وصفنا . وقال الله تعالى : { والجار ذي القربى والجار الجنب } [ النساء : 36 ] يعني : البعيد منه نسباً ؛ فصارت الجنابة في الشرع اسماً للزوم اجتناب ما وصفنا من الأمور ، وأصله التباعد عن الشيء ، وهو مثل الصوم قد صار اسماً في الشرع للإمساك عن أشياء معلومة وقد كان أصله في اللغة الإمساك فقط واختُصَّ في الشرع بما قد علم وقوعه عليه ، ونظائره من الأسماء الشرعية المنقولة من اللغة إليها ، فكان المعقول بها ما استقرت عليه أحكامها في الشرع ؛ فأوجب الله تعالى على من حصلت له هذه السِّمَةُ الطهارةَ بقوله : { وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ، وقوله في آية أخرى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، وقال : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } [ الأنفال : 11 ] روي أنهم أصابتهم جنابة ، فأنزل الله مطراً فأزالوا به أثر الاحتلام . والمفروض من غسل الجنابة إيصال الماء بالغسل إلى كل موضع يلحقه حكم التطهير من بدنه ، لعموم قوله : { فَاطَّهَرُوا } .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسنونَ الغسل ، فيما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن محمد بن عبدالملك قال : حدثنا محمد بن مسدد قال : حدثنا عبدالله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كُريب قال : حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت : " وضعتُ للنبي صلى الله عليه وسلم غُسْلاً يغتسل من الجنابة ، فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثاً ، ثم صبَّ على فَرْجِهِ بشماله ، ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ، ثم صبّ على رأسه وجسده ، ثم تنحَّى ناحيةً فغسل رجليه ، فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده " . وكذلك الغسل من الجنابة عند أصحابنا . والوُضُوءُ ليس بفرض في الجنابة ، لقوله تعالى : { وإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ، وإذا اغتسل فقد تطهر وقضى عهدة الآية ؛ وقال تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] إلى قوله : { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء ؛ فمن شَرَطَ في صحته مع وجود الغسل وضوءاً فقد زاد في الآية ما ليس فيها ، وذلك غير جائز لما بينا فيما سلف .
فإن قيل : قال الله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، وذلك عموم في سائر من قام إليها . قيل له : فالجُنُبُ حين غسل سائر جسده فهو غاسل لهذه الأعضاء فقد قضى عهدة الآية لأنه متوضىء مغتسل ، فهو إن لم يفرد الوضوء قبل الاغتسال فقد أتى بالغسل على الوضوء لأنه أعم منه .
فإن قيل : توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قبل الغسل . قيل له : هذا يدل على أنه مستحبٌّ مندوب إليه ؛ لأن ظاهر فعله لا يقتضي الإيجاب .
واختلف الفقهاء في وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والثوري : " هما فرض فيه " . وقال مالك والشافعي : " ليسا بفرض فيه " . وقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا }عموم في إيجاب تطهير سائر ما يلحقه حكم التطهير من البدن ، فلا يجوز ترك شيء منه .
فإن قيل : من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمّى متطهراً ، فقد فعل ما أوجبته الآية . قيل له : إنما يكون مطهراً لبعض جسده ، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع ، فلا يكون بتطهير البعض فاعلاً لموجب عموم اللفظ ، ألا ترى أن قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم ؟ كذلك ما وصفنا . ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم ؛ لأن الاسم يتناولهم ، إذ كان العموم شاملاً للجميع ، فكذلك قوله تعالى : { فَاطَّهَّرُوا } عمومٌ في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه .
مطلب : يجب استعمال الآيتين على أعمّهما حكماً وأكثرهما فائدة
فإن قيل : قوله : { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه . قيل له : إذا كان قوله : { فَاطَّهَّرُوا } يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمّهما حكماً وأكثرهما فائدة ، وغير جائز الاقتصار بهما على أخصّهما حكماً ، إذ فيه تخصيص بغير دلالة ؛ ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمَّى مغتسلاً أيضاً ؟ فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز وجل : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } . ويدل عليه من جهة السنّة حديث الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَحْتَ كُلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةٌ فبُلُّوا الشَّعَرَ وَأنْقُوا البَشَرَةَ " . وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لم يَغْسِلْها فُعِلَ بها كذا وكذا مِنَ النَّارِ " قال علي : فمن ثَمَّ عاديت شعري . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبدالله بن سابور والعمري قالوا : حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال : حدثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجُنُبِ ثلاثاً فريضةً " . وأما قوله : " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا ، أحدهما : أن الأنف في شعر وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلهما ، وحديث عليّ أيضاً يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعراً .
فإن قيل : إن العين قد يكون فيها شعر . قيل له : هو شاذّ نادر ، والأحكام إنما تتعلق بالأعمّ الأكثر ، ولا حكم للشاذّ النادر فيها ؛ وعلى أنّا خصصناه بالإجماع ، ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة ، والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه .
فإن قيل : إن ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة . قيل له : لم يكن يفعله على وجه الوجوب ، وقد كان مُصَعِّباً على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها ما لا يراه واجباً ، قد كان يتوضأ لكل صلاة ويفعل أشياء على وجه الاحتياط لا على وجه الوجوب ؛ وحديث يوسف بن أسباط الذي ذكرنا ؛ فيه نصٌّ على إيجابها فرضاً .
فإن قيل : ذُكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث فرضاً ، وأنت لا تقول به . قيل : ظاهره يقتضي كَوْنَ الثلاث فرضاً ، وقد قامت الدلالة على سقوط فرض الاثنين وبقي حكم اللفظ فيما وراءه ؛ ويدل عليه من جهة النظر أن المفروض في غسل الجنابة غسل الظاهر والباطن مما يلحقه حكم التطهير ، بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصولَ الشعر لأنها يلحقها حكم التطهير لو أصابتها نجاسة ، فكذلك يلزمه تطهير داخل الفم والأنف لهذه العلة .
فإن قيل : فيجب على هذا غسل داخل العينين لهذه العلة . قيل له : لو أصاب داخل عينيه نجاسة لم يلزمه تطهيرها ، هكذا كان يقول أبو الحسن ؛ وأيضاً فليس في داخل العينين بشرة ، وإنما يلزم في الجنابة تطهير البشرة .
فإن قيل : لما كان داخل العينين باطناً ولم يلزم تطهيره وجب أن يكون كذلك حكم داخل الأنف والفم . قيل له : وكيف صار داخل العينين باطناً ؟ فإن أردت به أنه ينطبق عليهما الجفن ، فذلك موجود في الإبطين لأنهما ينطبق عليهما العضد ولا خلاف في لزوم تطهيرهما في الجنابة . ولا يلزمنا إيجاب المضمضة والاستنشاق في الوضوء لأجل إيجابنا لهما في الجنابة ؛ وذلك لأن الآية في إيجاب الوضوء إنما اقتضت غسل الوجه ، والوجهُ هو ما واجهك ، فلم يتناول داخل الأنف والفم ، والآيةُ في غسل الجنابة قد أوجبت تطهير سائر البدن من غيرخصوص ، فاستعملنا الآيتين على ما وردنا . والفرقُ أيضاً بينهما من جهة النظر أن الواجب في الوضوء غسل الظاهر دون الباطن ، بدلالة أنه لا يلزمنا فيه إبلاغ الماء أصول الشعر ؛ فلذلك لم يلزم تطهير الفم وداخل الأنف ، وفي الجنابة عليه غسل الباطن من البشرة بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر ؛ وبهذا نجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ : خَمْسٌ في الرأسِ ، وخَمْسٌ في البَدَنِ " فذكر في الرأس المضمضة والاستنشاق ، فنحلمه على أنه مسنون في الطهارة الصغرى ونفرق بينه وبين الجنابة بما ذكرنا ؛ والله أعلم .
باب التيمم
قال الله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيّباً } فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء ، وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنباً أو محدثاً ؛ لأن قوله تعالى : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } فيه بيان حكم الحدث ؛ لأن الغائط هو اسم للمنخفض من الأرض ، وكانوا يقضون الحاجة هناك ، فجعل ذلك كناية عن الحدث . وقوله : { أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء لما يستدلّ عليه إن شاء الله تعالى .
وقد دلّ ظاهر قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم ، لولا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى ؛ فرُوي عن ابن عباس وجماعة من التابعين : " أنه المجدور ومن يضرّه الماء " ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يُباح له التيمم مع وجود الماء . وإباحة التيمم للمريض غير مضمَّنة بعدم الماء بل هي مضمّنة بخوف ضرر الماء على ما بينا ، وذلك لأنه تعالى قال : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فأباح التيمم للمريض من غير شَرْطِ عدم الماء ، وعَدَمُ الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض ، مِنْ قِبَلِ أنه لو جعل عدم الماء شرطاً في إباحة التيمم للمريض لأدَّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض ؛ لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عَدَمَ الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة ، إذْ لا تأثير للمرض في إباحة التيمم ولا منعه ، إذْ كان الحكم متعلقاً بعدم الماء .
فإن قيل : إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقاً بعدم الماء دون السفر ، إذ لو كان واجداً للماء لما أجزأه التيمم ، لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء . قيل له : إنما ذكر المسافر لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعمّ الأكثر ، فإنما ذكر السفر إبانةً عن الحال التي يعدم الماء فيها في الأعمّ الأكثر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ حَتَّى يَأْوِيهِ الجَرِينُ " وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك ، وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز ، لأن الجرين الذي يأويه حِرْزٌ ، وكما قال : " في خَمْسٍ وعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " ولم يُرِدْ به وُجُودَ المخاض بأمّها ، وإنما أراد به أنه قد أتى عليها حَوْلٌ وصارت في الثاني ؛ لأنها إذا كانت كذلك كان بأمّها مخاضٌ في الأعمّ الأكثر ، فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وَصَفْنا . وليس كذلك المريض ، لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء ، فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء . وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لولا ما رُوي عن السلف واتفاق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضرّ معه استعمال الماء لا يبيح له التيمم ، ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد : " ومن خاف بَرْدَ الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر " . وقد رُوي في حديث عمرو بن العاص أنه تَيَمَّمَ مع وجود الماء لخوف البرد ، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره . وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد ، فوجب أن يكون الحَضَرُ مثله لوجود العلة المبيحة له ؛ وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد .
وقوله تعالى : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } فإن " أو " ههنا بمعنى " الواو " ، تقديره وإن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة وإنما قلنا إن قوله : { أو جاء أحد منكم في الغائط } بمعنى الواو . لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائي من الغائط ثالثاً لهما غير المريض والمسافر ، فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقاً بالحدث ؛ ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا مُحْدِثَيْنِ ، فوجب أن يكون قوله تعالى : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } بمعنى : وجاء أحدكم ، كقوله : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] معناه : ويزيدون ، وكقوله : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] ومعناه : غنيّاً وفقيراً .
وأما قوله تعالى : { أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً } فإن السَّلَفَ قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية ، فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي : " هي كناية عن الجماع " وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مسَّ امرأته . وقال عمر وعبدالله بن مسعود : " المراد اللمس باليد " وكانا يوجبان الوضوء بمسّ المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم . فمن تأوّله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوُضوء مِنْ مَسِّ المرأة ، ومن حمله على اللمس باليد أوْجَبَ الوضوء من مسّ المرأة ولم يُجِزِ التيمُّمَ للجُنُب . واختلف الفقهاء في ذلك أيضاً ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي : " لا وضوء على مَنْ مَسَّ امرأة لشهوةً مَسَّها أو لغير شهوةٍ " . وقال مالك : " إن مسَّها لشهوة تلذذاً فعليه الوضوء وكذلك إن مَسَّتْهُ تلذذاً فعليها الوضوء " ، وقال : " إن مسَّ شعرها تلذذاً فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقتْ " . وقال الحسن بن صالح : " إن قَبَّلَ لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه " . وقال الليث : " إن مسَّها فوق الثياب تلذذاً فعليه الوضوء " . وقال الشافعي : " إذا مسَّ جَسَدَها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة " .
والدليل على أن لَمْسَها ليس بحدث على أي وجه كان ، ما رُوي عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقبّل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ " ، كما رُوي : " أنه كان يُقَبِّلَ بعض نسائه وهو صائم " . وقد رُوي الأمران جميعاً في حديث واحد . ولا يجوز حمله على أنه قبَّلَ خمارها وثوبها لوجهين ؛ أحدهما : أنه لا يجوز أن يُحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة ، إذْ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبّلها ، وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها . والثاني : أنه لا فائدة في نقله . وأيضاً فإنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم من الوِحْشَةِ وبين أزواجه ما يوجب أن يكنَّ مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار . ومنه حديث عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً ، قالت : فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول : " أَعُوذُ بعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ " . فلو كان مَسُّ المرأة حَدَثاً لما مضى في سجوده ، لأن المحدث لا يجوز له أن يبقى على حال السجود . وحديث أبي قتادة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت أبي العاص ، فإذا سجد وضعها ، وإذا رفع رأسه حملها " ؛ ومعلوم أن من فَعَلَ ذلك لا يخلو من وقوع يده على شيء من بدنها ، فثبت بذلك أن مَسَّ المرأة ليس بحدث . وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثاً لشهوة أو لغير شهوة ، ولا يُحتجّ بها على من اعتبر اللمس لشهوة ، لأنه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر فيه النبي أنه كان لشهوة ، ومَسُّهُ أمامةَ قد عُلم يقيناً أنه لم يكن لشهوة .
والذي يُحتجُّ به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمسِّ النساء لشهوة ، والبلوى بذلك أعمُّ منها بالبول والغائط ونحوهما ، فلو كان حَدَثاً لما أخلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمّة من التوقيف عليه لعموم البلوى به وحاجتهم إلى معرفة حكمه ، ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض ؛ فلو كان منه توقيفٌ لعرفه عامة الصحابة ؛ فلما رُوي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه ، دلَّ على أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم توقيف لهم عليه ، وعُلم أنه لا وضوء فيه .
فإن قيل : يلزمك مثله لخصمك لأنه يقول : لو لم يكن فيه وضوء لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة عليه ، لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به . قيل له : لا يجب ذلك في نفي الوضوء منه كما يجب في إثباته ؛ وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجباً في الأصل ، فجائز أن يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان معلوماً عندهم مِنْ نَفْي وجوب الطهارة ، ومتى شَرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفي إيجابه ؛ لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به ، فلما وجدنا قوماً من جُلَّة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مَسِّ المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك .
فإن قيل : جائز أن لا يكون منه صلى الله عليه وسلم توقيفٌ في حال ذلك اكتفاءً بما في ظاهر الكتاب من قوله تعالى : { أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وحقيقتُه هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد . قيل له : ليس في الآية نصٌّ على أحد المعنيين ، بل فيها احتمال لكل واحد منهما ؛ ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوَّغوا الاجتهاد في طلب المراد بها ؛ فليس إذاً فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه . وأيضاً اللمسُ يحتمل الجماع على ما تأوله عليّ وابن عباس وأبو موسى ، ويحتمل اللمس باليد على ما رُوي عن عمر وابن مسعود ؛ فلما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلَّى ولم يتوضأ ، أبان ذلك عن مراد الله تعالى . ووجه آخر يدلّ على أن المراد منه الجماع ، وهو أن اللمس وإن كان حقيقةً للمس باليد فإنه لما كان مضافاً إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء ، كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أُضيف إلى النساء لم يُعقل منه غير الجماع ، كذلك هذا ؛ ونظيره قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] يعني : من قبل أن تجامعوهن . وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة ، ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمٌ ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فِعْلُهُ إنما صدر عن الكتاب ، كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قَطْعُهُ معقولاً بالآية ، وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب . وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مَسُّ اليد من وجوه ، أحدها : اتفاق السلف من الصدر الأوّل أن المراد أحدهما ، لأن عليّاً وابن عباس وأبا موسى لما تأوّلوه على الجماع لم يوجبوا نَقْضَ الطهارة بلَمْسِ اليد ، وعمر وابن مسعود لما تأوّلاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم ، فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما . ومن قال إن المراد هما جميعاً ، فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما . وما رُوي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة ، فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعاً مرادين بالآية ، بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود ؛ فبيّن في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضاً بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها . ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعاً بالآية ، وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا ، والجماع يوجب الغسل ، وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] لما كان لفظ عموم لم يَجُزْ أن ينتظم السارقين لا يُقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خسمة ؟ وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه .
فإن قيل : لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادته الجماع واللمس باليد ، لأن الواجب فيهما التيمم المذكور في الآية . قيل له : التيمم بَدَلٌ والأصل هو الطهارة بالماء ، ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها ، فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجباً للوضوء في إحدى الحالتين وموجباً للغسل في أخرى . وأيضاً فإن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف ؛ لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر عن غسل بعضها ، فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد ، فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نصّ عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد . ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أُريد به الجماع كان اللفظ كنايةً ، وإذا أُريد منه اللمس باليد كان صريحاً ؛ وكذلك رُوي عن عليّ وابن عباس أنهما قالا : " اللمس هو الجماع ولكنه كنى " وغير جائز أن يكون لفظ واحد كنايةً صريحاً في حال واحدة . ومن جهة أخرى يمتنع ذلك ، وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هي اللمس باليد ، ولا يجوز أن يكون لفظ واحدٌ حقيقةً مجازاً في حال واحدة .
فإن قيل : لم لا يكون عموماً في اللمس من حيث كان الجماع أيضاً مسّاً ويكون حقيقة فيهما جميعاً ؟ قيل له : يمتنع ذلك من وجوه ، أحدها : أنه قد رُوي عن علي وابن عباس أنه كناية عن الجماع ، وهما أعلم باللغة من هذا القائل ، فبطل قول القائل إن اللمس صريح فيهما جميعاً . والآخر : ما بيّنا من امتناع عموم واحد مقتضياً لحُكْمَيْنِ مختلفين فيما دخلا فيه ، ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسّه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها ، فلا يكون الجماع حينئذ موجباً للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمسّ جسدها . ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال : { إذا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } إلى قوله : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء ، ثم عطف عليه قوله : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلى قوله : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء ، فوجب أن يكون قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } على الجنابة لتكون الآية منتظمةً لهما مبينةً لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ، ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصوراً على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ، وحَمْلُ الآية على فائدتين أوْلى من الاقتصار بها على فائدة واحدة ؛ وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد ، لما بيّنّا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد .
فإن قيل : إذا حُمِلَ على اللمس باليد كان مفيداً لكون اللمس حدثاً ، وإذا جعل مقصوراً على الجماع لم يُفِدْ ذلك ؛ فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعاً ، فيفيد كون اللمس حدثاً ويفيد أيضاً جواز التيمم للجنب ، فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يُرادا ولامتناع كون اللفظ مجازاً حقيقة أو كناية وصريحاً ، فقد ساويناك في إثبات فائدة مجددة بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه ، فما جَعْلُكَ إثباتَ فائدةٍ من جهة إباحة التيمم للجُنب أوْلى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثاً ؟ قيل له : لأن قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ } مفيد لحكم الإحداث في حال وجود الماء ، ونصَّ مع ذلك على حكم الجنابة ، فالأوْلى أن يكون ما في نسق الآية من قوله : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } إلى قوله : { أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } بياناً لحكم الحدث والجنابة في حال عدم الماء كما كان في أول الآية بياناً لحكمهما في حال وجوده ، وليس موضوع الآية في بيان تفصيل الإحداث وإنما هي في بيان حكمها ، وأنت متى حملتَ اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها ؛ فلذلك كان ما ذكرناه أوْلى . ووجه آخر : وهو أن حمله على الجماع يفيد معنيين : أحدهما إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء ، والآخر : أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل ، فكان حمله على الجماع أوْلى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثاً .
مطلب : المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة
ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية : وهو أنها قد قرئت على وجهين : " أو لا مستم النساء " و " لمستم " ، فمن قرأ : " أو لامستم " فظاهره الجماع لا غير ، لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة ، كقولهم : " قاتله الله " و " جازاه وعافاه الله " ونحو ذلك ، وهي أحرف معدودة لا يُقاس عليها أغيارها ؛ والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين ، كقولهم : " قاتله وضاربه وسالمه وصالحه " ونحو ذلك ، وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعاً ؛ ويدل على ذلك أنك لا تقول " لامست الرجل ولامست الثوب " إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل ، فدل على أن قوله : { أوْ لامَسْتُم } بمعنى : أو جامعتم النساء ، فيكون حقيقته الجماع ؛ وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ : " أو لمستم " يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع ، وجب أن يكون ذلك محمولاً على ما لا يحتمل إلا معنى واحداً ؛ لأن ما لا يحتمل إلا معنى واحداً فهو المحكم ، وما يحتمل معنيين فهو المتشابه ، وقد أَمَرَنَا الله تعالى بحمل المتشابه على المحكم وَرَدِّه إليه بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } [ آل عمران : 7 ] الآية ، فلما جعل المحكم أمّاً للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه ، وذمَّ متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } [ آل عمران : 7 ] ، فثبت بذلك أن قوله : " أو لمستم " لما كان محتملاً للمعنيين كان متشابهاً ، وقوله : { أوْ لامَسْتُم } لما كان مقصوراً في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكماً ، فوجب أن يكون معنى المتشابه مبنيّاً عليه .
فإن قيل : لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحداً وهو قراءة من قرأ : { أو لاَمَسْتُم النساء } والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع ، وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا ، إحداهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه ، والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصةً فنستعملها فيه دون الجماع ، ويكون كل واحد من اللفظين مستعْمَلاً على مقتضاه من كناية أو صريح ، إذ لا يكون لفظ واحد حقيقةً مجازاً ولا كناية صريحاً في حال واحدة ، ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة . قيل له : لا يجوز ذلك ، لأن السلف من الصدر الأول المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعاً ، لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفاً من الرسول للصحابة عليهما ، وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتجَّ بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول . وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما ، وحمله كلّ واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوّله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع ؛ فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعاً ، ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا ؛ فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها . وكان أبو الحسن الكرخي يجيب عن ذلك بجواب آخر ، وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين ؛ وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معاً في حال واحدة بل بقيام إحداهما مقام الأخرى ، ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم ، لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شيء منه ، ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصراً على بعض القرآن لا على كله ، وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن ، وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين ؛ فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام إحداهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتيهما وإثباتهما في المصحف معاً .
ويدلّ على أن اللّمْسَ ليس بحَدَثٍ أن ما كان حدثاً لا يختلف فيه الرجال والنساء ، ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثاً كذلك مسّ الرجل إياها وكذلك مسّ الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مسُّ المرأة . ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين : أحدهما أنّا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء ، فكل ما كان حَدَثاً من الرجل فهو من المرأة حَدَثٌ ، وكذلك ما كان حدثاً من المرأة فهو حدث من الرجل ، فمن فرّق بين الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول . ومن جهة أخرى أن العلة في مسّ المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرةٌ من غير جماع فلم يكن حدثاً ، كذلك الرجل والمرأة . فإن قيل : قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب ، ولا فَرْق بين مَسِّها بيده وبين مَسّها ببدنه . قيل له : لم يوجب أبو حنيفة هاهُنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذا التقى الفَرْجان من غير إيلاج ، كذلك رواه محمد عنه ؛ وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شيء وإن لم يشعر به ، فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شيء منه وإن لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطاً فحكم له بحكم الحدث ، كما أنه لما كان الغالب من حال النوم وجود الحدث فيه حُكم له بحكم الحدث ؛ فليس إذاً في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس ، والله أعلم بالصواب .
باب وجوب التيمم عند عدم الماء
قال الله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } قال أبو بكر : شرط الوجود مختلف فيه ، والجملةُ التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجودَ إمكانُ استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر ، فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم ، وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه ، وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه . وجعل أصحابنا جميعاً شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته ، وأما العلم بكونه في رَحْلِهِ فمختلفٌ فيه أنه من شرط الوجود ، وسنذكره إن شاء الله . واختُلف أيضاً في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب ؛ وإنما قلنا إنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذوراً في تركه إلى التيمم كالمريض ، قال الله تعالى : { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فنفى الحرج عنّا . وهو الضّيقُ ، وفي الأمر باستعمال الماء الذي يُخاف فيه العطش أعظم الضيق ، وقد نفاه الله تعالى نفياً مطلقاً ؛ وقال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] ومن العُسْرِ استعمالُ الماء الذي يؤدّيه إلى الضرر وتَلَفِ النفس ، ألا ترى أنه لو اضطرّ إلى شرب الماء وحَضَرَتْه الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة ، فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله ؟ ورُوي نحو هذا القول فيمن خاف العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء . وإنما شَرَطْنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قِبَلِ أن المقدار الفاضل عن قيمته غير مستحقّ عليه إتلافُه لأجل الطهارة ، إذ لا يحصل بإزائه بَدَلٌ ، فكان إضاعة للمال ؛ لأن من اشترى ما يساوي درهماً بعشرة دراهم فهو مضيّعٌ للتسعة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . وأيضاً لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة ، بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه ، فكذلك شِرَى الماء بثمن غالٍ ، وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ ولا يجزيه التيمم ، مِنْ قِبَلِ أنه ليس فيه تضييع المال ، إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به .
وقد اختلف الفقهاءُ فيمن وجد من الماء مالا يكفيه لطهارته ، فقال أصحابنا جميعاً : " يتيمم وليس عليه استعماله ، وكذلك لو كان جُنُباً فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم " . وقال مالك والأوزاعي : " لا يستعمل الجُنُبُ هذا الماء في الابتداء ويتيمم ، فإن أحدث بعد ذلك وعنده ما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضاً " . وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة : " يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله " . وقال الشافعي : " عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم ، لا يجزيه غير ذلك " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { إذا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } إلى قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً } فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين : إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه ؛ لأنه أوجبه بهذه الشريطة . ولا خلاف أن من فَرْضِ هذا الرجل التيمم وأن صلاته غير مجزية إلا به ، فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة ، إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجوداً لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه . فإن قيل : قال الله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } فأباح التيمم عند عدم ماء منكور ، وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافياً لطهارته أو غير كافٍ ، فلا يجوز التيمم مع وجوده . قيل له : الدليل على فساد هذا التأويل اتفاقُ الجميع على أن مِنْ فَرْضِهِ التيممَ وإن استعمل الماء ، فلو كان هذا القدر من الماء مأموراً باستعماله بالآية لما لزمه التيمم معه ، لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصحّ به صلاته .
فإن قيل : فنحن لا نجيز تيممه إلاّ بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم . قيل له : لو كان هذا على ما ذكرتَ لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه ، فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه . وأيضاً لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود ، فجاز له التيمم . وأيضاً لما لم يَجُزِ الجمعُ بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخفّ في الرجل الأخرى ، لكون المسح بدلاً من الغسل فلم يجز الجمع بينهما ، وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضاء والتيمم لهذه العلة . وأيضاً فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل ، فلم يَجُزِ الجمعُ بين ما يرفع الحدث وبين ما لا يرفعه في المسح ؛ كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا من فرضه . وأيضاً فإن التيمم بَدَلٌ من غسل جميع الأعضاء وغير جائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ، ألا ترى أنه يَنُوبُ عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها ؟ فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يَخْلُ التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه ، فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارةً عن بعض الأعضاء ، وذلك مستحيل لأنه لا يتبعَّض ، فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئاً متيمماً في الأعضاء المغسولة ، وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم ؛ فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب . وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين ، فيكون تيممه في هذين العضوين قائماً مقامهما ومقام العضوين الآخرين ، فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين ، فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقياً مع وجوده ؟ فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه ؟ .
فإن قيل : يلزمك مثله إذا قلتَ مثله فيما إذا غسل بعض أعضائه ، لأنه يلزمه التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه . قيل له : لا يلزمنا ذلك ، لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله ، وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه ، فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه . فإن قال : فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر ، وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره . قيل له : إن طهارته أحد هذين لا جميعهما ، ولذلك أجَزْنا له أن يبدأ بأيهما شاء لأنه مشكوكٌ فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشكّ ، فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما ، كما قالوا جميعاً فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلّي خمس صلوات حتى يصلّي على اليقين ، وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها ، كذلك ههنا ، وأنت تزعم أن المفروض هما جميعاً في مسألتنا . وأيضاً لما كان التيمم بدلاً من الماء كالصوم بدلاً من الرقبة ولم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم ، وجب مثله في التيمم والماء .
فإن قيل : الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قبل انقضائها وجب الحيض ، وكذلك ذاتُ الحَيْضِ لو اعتدَّتْ بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة . قيل له : إذا طرأ عليها ما ذكرتَ قبل انقضاء العدّة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدّاً به ، وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة ، وكذلك التيمم . ودليل آخر في المسألة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " التُّرَابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ما لَمْ يَجِدِ المَاءَ " ، والدلالة من هذا قوله : " ما لم يجد الماء " فأدخل عليها الألف واللام ، وذلك لأحد وجهين : إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود ، فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال : التراب طهورٌ ما لم يجد مياه الدنيا ، وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضاً ؛ لأنه ليس ههنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة ، وذلك لم يوجد في مسألتنا ، فجاز تيممه بظاهر الخبر .
مطلب : في حكم من صلّى ونسي الماء في رحله
واختلفوا في العلم بكَوْنِ الماء في رَحْلِهِ هل هو شرط في الوجود أم لا ؛ فقال أبو حنيفة ومحمد : " إذا نسي الماء في رَحْله وهو مسافر فتيمم وصلّى أجزأه ولا يعيد في الوقت ولا بعده " . وقال مالك : " يعيد في الوقت ولا يعيد بعده " . وقال أبو يوسف والشافعي : " يعيد في الأحوال كلها " . والأصل فيه قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } والناسي غير واجدٍ لما هو ناسٍ له ، إذ لا سبيل له إلى الوصول إلى استعماله ، فهو بمنزلة من لا ماء في رحله ولا بحضرته ؛ وقال الله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] فاقتضى ذلك سقوط حكم المنسيّ . وأيضاً قال الله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ومعلوم أن هذا الخطاب لم يتوجه إلى الناسي ، لأن تكليف الناسي لا يصحّ ، وإذا لم يكن مأموراً مكلَّفاً بالغسل فهو مأمور بالتيمم لا محالة ، لأنه لا يجوز سقوطهما جميعاً عنه مع الإمكان ، فثبت جواز تيممه . وأيضاً لا يختلفون أنه لو كان في مَفَازَةٍ وطلب الماء فلم يجده فتيمّم وصلّى ثم علم أنه كان هناك بئر مغطَّى الرأس لم تجب عليه الإعادة ، ووجودُ الماء لا يختلف حكمه بأن يكون مالِكَهُ أو في نَهْرٍ أو في بئر ، فلما كان جهله بماء البئر مخرجه من حكم الوجود كذلك جهله بالماء الذي في رحله .
فإن قيل : لو نسي الطهارة أو الصلاة لم يسقطهما النسيان ، فكذلك نسيان الماء . قيل له : ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ " يقتضي سقوطه ، وكذلك نقول ؛ والذي أَلْزَمْنَاهُ عند الذكر هو فرضٌ آخر غير الأول ، وأما الأول فقد سقط ، وإنما ألزمنا الناسي فعل الصلاة وألزمناه الطهارة المنسية بدلالة أخرى ، وإلاّ فالنسيان يسقط عنه القضاء لولا الدلالة . وأيضاً فلا تأثير للنسيان بانفراده في سقوط الفرض إلا بانضمام معنى آخر إليه فيصيران عذراً في سقوطه ، نحو السفر الذي هو حال عدم الماء فإذا انضمَّ إليه النسيان صارا جميعاً عذراً في سقوطه ، وأما نسيان الطهارة والقراءة والصلاة ونحو ذلك فلم ينضمّ إلى النسيان في ذلك معنى آخر حتى يصير عذراً في سقوط هذه الفروض . ومن جهة أخرى أنا جعلنا النسيان عذراً في الانتقال إلى بَدَلٍ لا في سقوط أصلِ الفرض ، وفي المسائل التي ذكرتها فيها إسقاط الفروض لا نقلها إلى أبدال ، فلذلك اختلفا . فإن قيل : الناسي للماء في رَحْلِهِ هو واجدٌ له . قيل له : ليس الوجود هو كون الماء في رحله دون إمكان الوصول إلى استعماله من غير ضرر يلحقه ، ألا ترى أن من معه ماء وهو يخاف على نفسه العطش يجوز له التيمم وهو واجد للماء ؟ فالناسي أبعد من الوجود لتعذر وصوله إلى استعماله ، ألا ترى أن من ليس في رَحْلِهِ ماء وهو قائم على شفير نهر أنه واجدٌ للماء وإن لم يكن له مالكاً لإمكان الوصول إلى استعماله ؟ فعلمنا أن الوجود هو إمكان التوصل إلى استعماله من غير ضرر ، ألا ترى أن الماء لو كان في رَحْلِهِ ومنعه منه مانعٌ جاز له التيمم ؟ فعلمنا أن الوجود شرطه ما ذكرنا دون الملك . فإن قيل : ما تقول لو كان على ثوبه نجاسة فنسي الماء في رحله ولم يغسله وصلّى فيه ، هل يجزيه ؟ قيل له : لا نعرفها محفوظةً عن أصحابنا ، وقياس قول أبي حنيفة أنه يُجْزِي ، وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي فيمن نسي في رحله ثوباً وصلّى عرياناً أنه يجزيه .
مطلب : في أن الوجود لا يقتضي سبق طلب
واختلفوا في تارك الطلب إذا لم يكن بحضرته ماء ، هل هو غير واجد ؟ فقال أصحابنا : " إذا لم يطمع في الماء ولم يخبره مخبِرٌ فليس عليه الطلب ويجزيه التيمم " . وقال الشافعي : " عليه الطلب ، وإن تيمم قبل الطلب لم يُجْزِه " . وقال أصحابنا : " إن طمع فيه أو أخبره مخبر بموضعه فإن كان بينه وبينه ميل أو أكثر فليس عليه إتيانه لما يلحقه من المشقة والضرر بتخلفه عن أصحابه وانقطاعه عن أهل رفقته ، وإن كان أقلّ من ميل أتاه ، وهذا إذا لم يَخَفْ على نفسه وما معه من لصوص أو سبع ونحوه ولم ينقطع عن أصحابه " . وإنما قالوا فيمن كانت حاله ما قدمنا أنه يجزيه التيمم وليس عليه الطلب ، مِنْ قِبَلِ أنه غير واجدٍ للماء ، وقال الله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وهذا غير واجد . فإن قالوا : لا يكون غير واجد إلاّ بعد الطلب . قيل له : هذا خطأ ؛ لأن الوجود لا يقتضي طلباً ، قال الله تعالى : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً قالوا نعم } [ الأعراف : 44 ] فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ " ، ويكون واجداً لها وإن لم يطلبها ، وقال في الرقبة : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } [ النساء : 92 ، المجادلة : 4 ] ومعناه : ليس في ملكه ولا له قيمتها ، لا أنه أوجب عليه أن يطلبها . فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب فيمن ليس بحضرته ماء ولا هو عالم به فهو غير واجدٍ ، وإذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجز لنا أن نزيد فيه فَرْضَ الطلب ، لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية ، وذلك غير جائز . ويدلّ عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " جُعِلَتْ ليَ الأرْضُ مَسْجِداً وطهوراً " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " التّرابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ما لم يَجِدِ المَاءَ " ، وقال لأبي ذر : " التّرابُ كَافِيكَ ولو إلى عَشْرِ حِجَجٍ فإذا وَجَدْتَ المَاءَ فأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ " . ويدل ايضاً على أن الوجود لا يقتضي الطلب أنه قد يكون واجداً لما يحصل عنده من شيء من غير طلب منه من ماء أو غيره ، فيقال : هذا واجدٌ للرقبة ، إذا كانت عنده وإن لم يطلبها .
فإن قال قائل : ما أنكرَت أنه جائزٌ أن يقال إنه واجد لما لم يطلبه ولا يقال إنه غير واجد إلا أن يكون قد طلبه ؟ قيل له : إذا كان الوجود لا يقتضي الطلب وليس ذلك شرطه ، فنفي الوجود مثله لأنه ضدّه ، فما جاز إطلاقه عليه جاز على عدمه ، ألا ترى أنه يصح أن يقال هو غير واجد لألف دينار وإن لم يتقدم منه طلب ، ولو ضاع منه مال جاز أن يقال إنه لم يجده وإن لم يكن منه طلب ، كما يقال هو واجده وإن لم يطلبه ؟ فالوجود ونفيه سواء في أن كل واحد منهما لا يتعلق إطلاق الاسم فيه بالطلب ؛ وقد قال الله تعالى : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } [ الأعراف : 102 ] فاطلق الوجود في النفي كما أطلقه في الإثبات مع عدم الطلب فيهما .
فإن قيل : لو كان مع رفيق له ماء فلم يطلبه لم يصحّ تيممه حتى يطلبه فيمنعه ، وهذا يدل على وجوب الطلب ، ويؤكده ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود ليلة الجن : " هَلْ مَعَكَ مَاءٌ ؟ " فطلبه . قيل له : أما طلبه من رفيقه ، فقد رُوي عن أبي حنيفة أن صلاته جائزة وإن لم يطلبه ، وأما على قول أبي يوسف ومحمد فإنه لا يجزيه حتى يطلبه فيمنعه ؛ وهذا عندنا إذا كان طامعاً منه في بدله له وأنه إن لم يطمع في ذلك فليس عليه الطلب ، ونظيره أن يطمع في ماء موجود بالقرب منه أو يخبره به مخبر فلا يجوز تيممه ؛ لأن غالب الظنّ في مثله يقوم مقام اليقين كما لو غلب في ظنه أنه إن صار إلى النهر وهو بالقرب منه افترسه سبع أو اعترض له قاطع طريق جاز له أن يتيمم ، وإن غلب على ظنه السلامة لم يَجُزْ له التيمم ، فليس هذا من قول من يوجب الطب في شيء . وأما حديث عبدالله بن مسعود وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم إياه الماء وأن النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّهَ عليّاً في طلب الماء ، فإن فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم ليس على الوجوب ، وهو عندنا مستحبٌّ كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم . وأيضاً لا يخلو الذي في المفازة وليس بحضرته ماء ولم يطمع فيه من أن يكون واجداً أو غير واجد ، فإن كان واجداً فالطلب ساقطٌ لأنه غير جائز تكليفه طلب ما هو واجده ، وإن كان غير واجد جاز تيممه بقوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء " .
فإن قيل : إذا كان شرط جواز التيمم عدم الماء فواجب أن لا يجزي حتى يتيقن وجود شرطه ، كما أنه لما كان شرط جواز الصلاة حضور الوقت لم يجزه فعلها إلاّ بعد حصول اليقين بدخول الوقت . قيل له : الفصل بينهما أن الأصل هو عدم الماء في مثل ذلك الموضع ، وذلك يقين عنده ؛ وإنما لا يعلم هل هو موجود في غيره ، وهل يكون موجوداً إن طلب أم لا ، فليس عليه أن يزول عن اليقين الأول ما لا يعلمه ويشكّ فيه . ووقت الصلاة أيضاً كان غير موجود ، فغير جائز له فِعْلُها بالشك حتى يتيقن وجوده فهما سواء في هذا الوجه في باب البناء على اليقين الذي كان الأصل .
فإن قيل : قال الله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } إلى قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فالغُسْلُ أبداً واجبٌ وعليه التوصل إليه كيف أمكن ، فإذا كان قد يمكنه التوصل إليه بالطلب فذلك فرضه . قيل له : الذي قال : { فَاغْسِلُوا } هو الذي قال : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّموا } فوجوبُ الغسل مضمَّنٌ بوجود الماء ، وجواز التيمم مضمَّن بعدمه ، وهو عادم له في الحال لا محالة ؛ وإنما يزعم المخالف أنه جائز أن يكون واجداً عند الطلب ، فغير جائز ترك ما حصل من شرط إباحة التيمم لما عسى يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون . والذي قاله المخالف كان يلزم لو طمع في الماء وغلب على ظنّه وجوده وأخبره به مُخْبِرٌ ، فأمّا مع فَقْدِ ذلك فقد حصل شرط الآية على الوجه الذي يبيح التيمم ، فغير جائز لأحدٍ إسقاطه وإيجاب اعتبار معنى غيره ، وإنما قدّر أصحابُنا أقل من ميل من قبل لزوم استعماله إذا علم بموضعه وغلب في ظنه ، ولم يوجبوه ذلك في ميل فصاعداً اجتهاداً ، ولأن الميل هو الحد الذي تقدَّر به المسافات ولا تقدَّر بأقل منه في العادة ، فاعتبروه في ذلك دون ما هو أقلّ منه ، كما قلنا في اعتبار أبي يوسف الكثير الفاحش أنه شبر في شبرٍ لأنه أقل المقادير التي تقدر بها المساحات ولا تقدَّر في العادة بأقلّ منه . وروى نافع عن ابن عمر أنّه كان يكون في السفر من الماء على غلوتين أو ثلاث فيتيمم ويصلّي ولا يميل إليه . وعن سعيد بن المسيب في الراعي يكون بينه وبين الماء ميلان أو ثلاثة وتحضره الصلاة ، أنه يتيمم ويصلِّي . وقال الحسن وابن سيرين : " لا يتيمم من رجا أن يقدر على الماء في الوقت " .
مطلب : فيمن وجد الماء في آخر الوقت يجب عليه الوضوء وإن خاف فوات الوقت خلافاً لمالك
واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم ، فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي : " من وجد الماء من مسافرٍ أو مقيمٍ وهو في مِصْرٍ وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يُجْزِهِ إلاّ الوضوء " . وقال مالك : " يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت " . وقال الليث بن سعد : " إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلّي بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت " . والأصل فيه قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه ، فغير جائز نقله إليه مع وجوده لأنه خلاف الآية ؛ وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه ، فهو مطلق في الوقت وبعده ، وقال الله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جُنُباً إلا بعد تقديم الغسل ، ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره . ويدل عليه من جهة السنّة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " التُّرابُ كَافِيكَ ولو إلى عَشْرِ حِجَجٍ فإذا وَجَدْتَ الماءَ فأمْسِسْهُ جِلْدَكَ " ، فمتى كان واجداً فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف ، لعموم قوله : { فَاغْسِلُوا } ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " الترابُ طَهُورُ المسلم ما لم يجد الماء " فمتى كان واجداً للماء فليس التراب طهوراً له فلا تجزيه صلاته . ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكدُ من فرض الوقت ، بدلالة أنه لا تجزي صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت .
فإن قيل : إذا خاف فَوْتَ الوقت صلّى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت . قيل له : كيف يكون مدركاً لفضيلة الوقت وهو غير مصلٍّ لأنه صلى بغير طهارة ! فإن قال : التيمم طهورٌ ، قيل له : إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شَرَطَهُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما مع وجوده فليس بطهور ، فالواجب عليك أن تدلّ أولاً على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبني عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت .
فإن قال قائل : المسافر إنما أُبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء . قيل له : لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء لأنه غير خائف فَوْتَ الوقت ، وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالةٌ على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوات الوقت .
فإن قال : لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن يتيمم مع وجود الماء . قيل له : إنما قلنا بجوازه لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة ، لأن الله قد ذكر المريض والمسافر ، فعَدَمُ الماء على الإطلاق شرطٌ وخَوْفُ الضرر باستعماله أيضاً شَرْطٌ ، وأنت فلم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر ، بل الكتاب والأثر يقضيان ببطلان قولك .
فإن قيل : لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكباً لأجل إدراك الوقت ، دلّ على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته . قيل له : إنما أُبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود ، والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غَلَبَةِ الظنّ بانصراف العدوّ قبل خروج الوقت ، فدلّ على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت ، والتيممُ إنما أُبيح له لعدم الماء . فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوماً فيجوز له التيمم ، فأما حال وجود الماء فهو بمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن . وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رُخْصَةٌ مخصوصةٌ بحال لا لخوف فوات الوقت . وأيضاً فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نَسِيَها فَلْيُصَلِّهَا إذا ذَكَرَها فإنّ ذلك وَقْتَها " فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقتٌ لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتاً لها ، فإذا كان وقت الصلاة باقياً مع فواتها عن الوقت الأول لم يَجُزْ لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت . وقد وافَقَنا مالكٌ على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخصُّ بالوقت من التي هي في وقتها ، حتى إنه لو بدأ بصلاة لوقت قبلها لم تُجْزِهِ ، فلو كان خوفُ فَوْتِ الوقت مبيحاً له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضاً ؛ لأن كل وقت يأتي بعد الفوات هو وقتٌ لها لا يَسَعُهُ تأخيرَها عنه ، فيلزم مالكاً أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصلّيها بتيمم في أي وقت كان لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهيّ عن تأخيرها عنه . ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء ، صحَّ أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم . وأما قول الليث بن سعد " إنه يتيمم ويصلّي في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت " فلا معنى له ، لأنه معلوم أنه لا يُعْتَدُّ بتلك الصلاة ، فلا معنى لأمْرِهِ بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه .
مطلب : في حكم المحبوس الفاقد للطهورين
واختُلف فيمن حُبس في موضع قذر لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف ، فقال أبو حنيفة ومحمد وزُفَر : " لا يصلّي حتى يقدر على الماء إذا كان في المِصْرِ " وهو قول الثوري والأوزاعي . وقال أبو يوسف والشافعي : " يصلي ويعيد " . والحجة لأبي حنيفة ومن قال بقوله ، قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا } إلى قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَقْبَلُ الله صلاةً بغيرِ طُهُورٍ " ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلّى بغير طهور ، فلا يكون ذلك صلاةً ، فلا معنى لأَمْرِنا إياه بأن يفعل ما ليس بصلاة لأجل أن عليه فرض الصلاة . وقد قال أبو يوسف : " إنه يصلّي بالإيماء ثم يعيد " فلم يَعْتَدَّ به وأَمَرَهُ بالإعادة ، فلو كانت هذه صلاة لما كان مأموراً بالإعادة ، ألا ترى أنه من لم يقدر على الركوع والسجود صلى بالإيماء ولا يؤمر بالإعادة ؟ فإن قيل : قد يأمره إذا كان محبوساً في بيت نظيف أن يتيمم ويعيد ، ووجوبُ الإعادة لم يسقط عنه فعلها بالتيمم . قيل له : قد رَوَى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة " أنه لا يتيمم ولا يصلّي حتى يخرج " فهذا مستمرّ على هذا الأصل ، وذكر في الأصل أنه يتيمم ويصلِّي ويعيد ، ولم يذكر خلافاً . وجائز أن يكون هذا قول أبي يوسف وحده ، فإن كان قولهم جميعاً فَوَجْهُ هذه الرواية على قول أبي حنيفة أن الصلاة بالتيمم قد تكون صلاة صحيحة بحالٍ وهو حالُ عدم الماء أو خوف الضرر ، فلما كان عادماً للماء في هذه الحال جاز له التيمم ؛ وكان القياس أن يكون كالمسافر إذا كان الماء منه قريباً وخاف السبع أو اللصوص فيجوز له التيمم ولا يعيد ، فهذا هو القياس ، إلا أنه ترك القياس وأمره بالإعادة وفرّق بين حال السَّفَرِ والحَضَرِ لأن الماء موجود في الحضر ، وإنما وقع المنع بفعلِ آدميّ وفعلُ الآدمي في مثله لا يسقط الفرض ، ألا ترى أنه لو منعه رجل مكرهاً من فعل الصلاة أصلاً أو من فعلها بركوع وسجود وصلّى بالإيماء أنه يعيد ؟ ولو كان المنع من فعل الله تعالى بإغماء ونحوه سقط عنه الفرض ، ولو كان مريضاً سقط عنه فعل الركوع إلى الإيماء ؛ فاختلف حكم المنع إذا كان بفعل الله أو بفعل الآدمي . فكذلك حال الحضر ، لما كانت حال وجود الماء لم يسقط فرض استعماله بمنع الآدمي منه ، فأمره بالتيمم وإعادتها بالماء ؛ وعلى الرواية الأولى لم يأمره بفعلها ، لأنه لا يعتدّ بها فلا معنى للأمر بها .
فإن قيل : فأنت تأمر المُحْرِمَ الذي لا شعر على رأسه وأراد الإحلال أن يُمِرَّ الموسَى على رأسه متشابهاً بالحالِقِينَ وإن لم يحلق ، فهلاّ أمرتَ المحبوس الذي لا يقدر على الماء والتراب أن يصلي متشابهاً بالمصلين وإن لم يكن مصلّياً ! وكما تأمر الأخرس بتحريك لسانه بالتلبية استحباباً وإن لم يكن ملبياً ! قيل له : الفصل بينهما أن أفعال المناسك قد ينوب عنه الغير فيها في حالٍ فيصير حكم فعله كفعله ، فجاز أن ينوب عن الحلق إمرارُ المُوسَى على رأسه كما يفعله الغير عنه فيجزي ، وكذلك تلبية الغير قد تنوبُ عنه عند أبي حنيفة في حال الإغماء ، فلذلك استحبّ له تحريك لسانه بها وإن لم يكن ملبياً إذا كان أخرس . وأما الصلاة فلا ينوب عنه فيها غيره ، ولا يجوز أن يفعل ما ليس بصلاةٍ متشبهاً بالمصلّين فيصير هذا الفعل وتركه سواء لا معنى له ، فلذلك لم يستحبّه .
فإن احتجوا بما رُوي في قصة قلادة عائشة حين ضلّت وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلّوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بغير وضوء ولا تيمم . قيل له : إن آية التيمم لم تكن نزلت وقت ما صلّوا ولم يكن التيمم واجباً ، وأيضاً فإنهم لم يُؤمروا بالإعادة ، فينبغي أن يدلّ على أن لا إعادة على من صلَّى بغير وضوء ولا تيمم إذا لم يجدهما ؛ فلما قال مخالفونا " إنه يعيد " علمنا أن حكم من ذكر مخالف لأولئك . وأيضاً فإن أولئك كانوا واجدين للتراب غير واجدين للماء ، وأنت لا تقول ذلك فيمن كان في مثل حالهم .
واختُلف في جواز التيمم قبل دخول الوقت ، فقال أصحابنا : " جائز قبل دخول وقت الصلاة لمن لا يجد الماء ، ويصلّي به الفرض إذا دخل الوقت " . وقال مالك بن أنس والشافعي : " لا يجوز إلاّ بعد دخوله " . ودليلنا قوله : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عُدِمَ الماء ولم يفرق فيه بين حاله قبل دخول الوقت أو بعده . وأيضاً قال : { إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وقد دللنا في أول الكتاب أن معناه : إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ، ثم عطف عليه التيمم وأباحه في الحال التي أمر فيها بالوضوء لو كان واجداً للماء . وأيضاً لما قال تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وأمر بتقديم الطهارة لها في غير هذه الآية وكانت الطهارةُ شيئين : الماء عند وجوده والتراب عند عدمه ، اقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت ليصلِّي في أوله على شرط الآية ؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " التراب طَهُورُ المسلم ما لم يجد الماء " وقوله لأبي ذر : " الترابُ كافيك ولو إلى عَشْر حججٍ " ولم يفرق بينه قبل الوقت أو بعده ، وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت .
فإن قيل على استدلالنا بقوله تعالى : { أوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } : إن ذلك معطوف على قوله : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ } وهو مضمرٌ فيه ، فكان تقديره : إذا قمتم إلى الصلاة وجاء أحد منكم من الغائط ؛ وذلك يكون بعد دخول الوقت . قيل له : هذا غلطٌ ، مِنْ قِبَلِ أن قوله : { إذَا قُمْتُمْ } معناه : إذا أردتم القيام وأنتم مُحْدِثُون ؛ فهذه جملة مكتفية بنفسها في إيجاب الوضوء للحدث ، ثم استأنف حُكْمَ عادم الماء فقال : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَرٍ } إلى قوله : { فَتَيَمَّمُوا } وهذه أيضاً جملة مفيدة مستقلّة بنفسها غير مفتقرة إلى تضمينها بغيرها ، وما كان هذا وَصْفُهُ من الكلام ففي تضمينه بغيره تخصيص له ، وذلك غير جائز إلاّ بدلالة ، فوجب أن يكون شرط المجيء من الغائط في إباحة التيمم مُقَرّاً على بابه وأن لا يضمن بغيره . وأيضاً فإن حكم كل جواب عُلّقَ بشرط أن يرجع إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم إلاّ بدلالة ، والذي يلي ذلك هو شرط المجيء من الغائط . وأيضاً كما جاز الوضوء قبل الوقت وجب أن يجوز التيمم كذلك ، لأنه طهارة لم يوجد بعدها حدث .
فإن قيل : المُسْتَحَاضَةُ لا تصلي بوضوء فَعَلَتْه قبل الوقت . قيل له : يجوز ذلك عندنا ، لأنها لو توضأت قبل الزوال كان لها أن تصلي به إلى خروج وقت الظهر ، وأما إذا توضأت في وقت الظهر فإنها لا تصلي به في وقت العصر للسيلان الموجود بعد الطهارة والوقت كان رخصة لها في فعل الصلاة مع الحدث ، فلما ارتفعت الرخصة بخروجه وجب الوضوء للحدث المتقدم .
واختُلف في فعل صلاتَيْ فرضٍ بتيمم واحد ، فقيل : " يصلي بتَيَمُّمَةٍ ما شاء من الصلوات ما لم يُحْدِثْ أو يَجِدِ الماءَ " وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد ، وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن . وقال مالك : " لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد ، ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة ، ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض " . وقال شريك بن عبدالله : " يتيمم لكل صلاة " . وقال الشافعي : " يتيمم لكل صلاة فرضٍ ويصلّي الفرض والنّفْلَ وصلاة الجنازة بتيمم واحد " . والدليل على صحة قولنا قولُه صلى الله عليه وسلم : " الترابُ كَافِيكَ ولول إلى عَشْرِ حِجَجٍ فإذا وجدت الماء فأمْسِسْهُ جِلْدَكَ " وقال : " الترابُ طَهُورُ المسلم ما لم يجد الماء " فجعل التراب طهوراً ما لم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة . وقوله : " ولو إلى عشر حجج " على وجه التأكيد ، وليس المراد حقيقة الوقت ، وهو كقوله تعالى : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [ التوبة :80 ] ليس المراد به توقيت العدد المذكور ، وإنما المراد تأكيدُ نَفْي الغفران .
فإن قيل : لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم ، كذلك فِعْلُ الصلاة . قيل له : لأن بطلانه بالحدث كان معلوماً عند المخاطَبِينَ فلم يحتج إلى ذكره ، وإنما ذكر ما لم يكن معلوماً عندهم وأكّده ببقائه إلى وجود الماء . وأيضاً فإن المعنى المبيح للصلاة بالتيمم بدياً كان عدم الماء وهو قائمٌ بعد فعل الصلاة ، فينبغي أن يبقى تيممه ، ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء ، إذ كان المعنى فيهما واحداً وهو عدم الماء . وأيضاً لما كان المَسْحُ على الخُفَّيْنِ بدلاً من الغسل كما أن التيمم بدلٌ منه ، ثم جاز عند الجميع فِعْلُ صلاتين بمسح واحد ، جاز فعلهما أيضاً بتيمم واحد . وأيضاً فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن تكون طهارته باقية أو زائلة ، فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلاً لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة ، وإن كانت باقية فجائز أن يصلي بها فرضاً آخر .
فإن قيل : قد خفف أمر النفل عن الفرض حتى جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ، ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلاّ لضرورة . قيل له : إنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة ، فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدّى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به ، وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائزٌ على هذه الصفة في حال الضرورة ، وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول .
واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } إلى قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها ، فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة . قيل له : هذا غلط ، لأن قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ } لا يقتضي التكرار في اللغة ، وقد بيّناه فيما سلف ، ألا ترى أنه لم يَقْتَضِهِ في استعمال الماء ؟ فكذلك في التيمم . وعلى أنه أوجب التييم في الحال التي لو كان الماء موجوداً لكان مأموراً باستعماله ، فجعل التيمم بدلاً منه ، فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل ، فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها ، فإذا كان الماء لو كان موجوداً لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعدما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم .
فإن قيل : التيمم لا يرفع الحدث ، فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه ؛ فلما كان الحدث باقياً مع التيمم وجب عليه تجديده . قيل له : ليس بقاءُ الحَدَثِ عِلّةً لإيجاب تكرار التيمم ، لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبداً قبل الدّخول في الصلاة لهذه العلة ، فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم . مفعولاً لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله ، وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية . وأيضاً فإنّ هذه العلة منتقضةٌ بالمسح على الخُفَّيْنِ لبقاء الحدث في الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به ، وينتقض أيضاً بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث .
فإن قيل : هلاّ جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها ! قيل له : قد ثبت عندنا أن رخصة المُسْتَحَاضَةِ مقدّرة بوقت الصلاة ، ولا نعلم أحداً يجعل رخصة التيمم مقدَّرةً بالوقت ، فهو قياسٌ فاسد منتقض . وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم مِنْ قِبَلِ أنه قد وُجِدَ منها حَدَثٌ بعد وضوئها ، والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث ، فإذا خرج الوقت توضأت لحَدَثٍ وُجِدَ بعد طهارتها ؛ ولم يوجد في المتيمم حدث بعد تيممه ، فطهارته باقية .
واختُلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " إذا وَجَدَ الماءَ في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل " . وقال مالك والشافعي : " يمضي فيها وتجزيه " . ورُوي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن : " أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلّى بتيممه " ، وهو قول شاذّ مخالف للسنة والإجماع ، والدليل على صحة قولنا قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } إلى قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً } فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء ، ثم نقله إلى التراب عند عدمه ، فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية . وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة ، فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعاً من لزوم استعماله . وأيضاً لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة ؛ لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية ، فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل ، والخطابُ بحكم الآية ، فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه . وأيضاً لا يخلو قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ } من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها أو إرادة القيام إليها في حال الحدث ، فإن كان المراد وجود جزء من الصلاة فقد اقتضى لزوم استعماله إذا وجد ، بعد فِعْلِ جزءٍ منها لاقتضاء الآية ، وإن كان المراد إرادة القيام إليها محدثاً وجعل ذلك شرطاً للزوم استعماله فقد وُجِدَ ، فعليه استعماله ، ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه ، إذْ كان المسقطُ لفرضه هو عدم الماء فمتى وُجِدَ فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به . ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جُنُباً إلاّ عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] فإذا كان جُنَباً ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله : { لا تقربوا الصلاة } إلى قوله : { حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] .
فإن قيل : في نسق الخطاب : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلى قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } . قيل له : هما مستعملان جميعاً كل واحد على شريطته ، فالتيممُ عند عدم الماء والغسل عند وجوده ؛ وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده ، إذ كان الظاهر يوجبه ، ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أوقبله ؛ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الترابُ طَهُورُ المسلم ما لم يَجِدِ الماءَ " فجعله طهوراً بشريطة عدم الماء ، فإذا وُجِدَ الماء خرج من أن يكون طهارة ؛ ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها ، فإذا بطلت طهارته برؤية الماء لم يَجُزْ له أن يمضي فيها . وأيضاً فقال صلى الله عليه وسلم : " الماء طهور المسلم " وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا وجدت الماء فأمْسِسْهُ جلدك " وفي بعض الألفاظ : " وأَمْسِسْهُ بَشَرَتَكَ " ودلالته على ما وصفنا من وجهين : أحدهما ما ذكرنا من قوله : " التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء " فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهوراً ، وهو أن لا يجد الماء ، ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خصَّ كونه طهوراً بهذه الحال دون غيرها ، فمتى صلّى به والماء موجود فهو مصلٍّ بغير طهور . والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا وجدت الماء فأمْسِسْهُ جلدك " ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده ، فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله : ويدلّ عليه اتفاقُ الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء ، فوجب أن يمنع البناء ؛ كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها ، إذ كان من شرط صحتهما جميعاً الطهارة . وأيضاً فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة ؛ لأنه لو أحْدَثَ فيها لَزِمَتْهُ الطهارةُ ، وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان ، وعِتْقِ الأَمَةِ في لزومها تغطية الرأس ، وخروج وقت المسح ؛ فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده . وأيضاً لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء لأنه يكون فاعلاً لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجوداً بعد الدخول ، وجب أن يمنع المضيّ فيها .
فإن قيل : لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ ، ولا تجوز التحريمة بعد الحدث . قيل له : لا فرق بينهما ، لأنه لو فعل جزءاً من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته ، وإنما نجيز له البناء إذا توضأ وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء . فإن قيل : إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة ، لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب ، وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه ، فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول . قيل له : أما قولك في لزوم فرض الطلب قبل الدخول فيها ، ففاسدٌ على ما قدمناه فيما سلف . ومع ذلك فلو سلّمناه لك لانتقض على أصلك ، وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك ، فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائماً عليه أو ساقطاً عنه ، فإذا كان فرض الطلب قائماً عليه فواجبٌ أن لا يصحّ دخوله ، إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضاً على أصلك . وإن كان فَرْضُ الطلب ساقطاً عنه ، فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة ، كما حُكي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن ، فلما ألْزَمْتَهُ استعمالَ الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة مع سقوط فرض الطلب ، ثبت أن سقوط فرض الطلب ليس بعلة لجواز ترك استعمال الماء عند وجوده . وأيضاً قد اتفقوا جميعاً أن الصغيرة لو اعتدَّتْ شهراً ثم حاضت انتقلت عِدّتُها إلى الحيض ، لأن الشهورَ بَدَلٌ من الحيض ؛ وإنما تكون عدةً عند عدمه ، كما أن التيمم طهور عند عدم الماء ؛ فلما اتفقوا على استواء حالهما قبل وجوب العدة وبعده في كون الحيض عدة عند وجوده ، وجب أن يستوي حكم وجود الماء بعد الدخول في الصلاة وقبله . وأيضاً لما كان التيمم بدلاً من الماء لم يَجُزْ أن يبقى حكمه مع وجود المُبْدَلِ عنه ، كسائر الأبدال لا يثبت حكمها مع وجود الأصل .
فإن قيل : فلو أن متمتعاً وجد الهَدْيَ بعد صوم الثلاثة الأيام وبعد الإحلال ، جاز له أن يصوم السبعة مع وجود الأصل . قيل له : الثلاثة بَدَلٌ من الهَدْي لأن بها يقع الإحلال ، وليست السبعة بدلاً من الهدي لأن الإحلال يكون قبل السبعة .
فإن قيل : ليست حال الصلاة حالاً للطهارة فلا يلزمه استعمال الماء . قيل له : فينبغي أن لا يلزمه غسلُ الرجلين بخروج وقت المسح وهو في الصلاة ، وأن لا يلزم المستحاضة الوضوء بانقطاع الدم في الصلاة ، وأن لا تلزمها الطهارة لو أحدث فيها لهذه العلة . فإن احتجّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " فلا يَنْصَرِفْ حَتّى يَسْمَعَ صَوْتاً أو يَجِدَ ريحاً " ؛ قيل له : لم يقل ذلك ابتداءً بل بكلام متصل به ، وهو أنه قال : " إذا وَجَدَ أَحَدُكُمْ حَرَكَةً في دُبُرِهِ فلا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أو يَجِدَ رَيحاً " ، وقال : " إنّ الشّيْطَانَ يُخَيِّلُ إلى أَحَدِكُمْ أنّه قَدْ أَحْدَثَ ، فلا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أو يَجِدَ رِيحاً " ، وقال في بعض الألفاظ : " لا وُضُوءَ إلاّ مِنْ صَوْتٍ أوْ رِيحٍ " . فأما ابتداءُ قول منه : " فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " . فإن ذلك لم يُنْقل ولم يَرْوِهِ أحد . وإذا كان كذلك فإنما هو في الشاكّ في الحدث ، فلم يصح أن نجعله في غيره ممن لم يشك ووجد الماء . وعلى أن قوله : " لا وضوء إلا من صوت أو ريح " يقتضي ظاهرُهُ إيجابَ الوضوء بوجود الماء ، لأن الحدث الذي عنه وجبت الطهارة باقٍ لم يرتفع بالتيمم .
مطلب : المجمل لا يصح الإيجاب به
فإن قيل : ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء ؟ قيل له : ينتقض تيممه ولا يجوز له المضيُّ عليها ، وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة ، لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة . وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به ، لأنه مفهوم أنه لم يُرِدْ به كل صوت أو ريح يوجد في دار الدنيا ، وإنما أراد صوتاً أو ريحاً على صفة لا يُدْرَى ما هو بنفس اللفظ ، فسبيله أن يكون موقوفاً على دلالة ؛ فإن ادّعوا فيه العموم كان دلالة لنا ، لأنه إذا سمع صوت الماء وجب عليه بظاهره ، إذْ لم يفرق فيه بين الأصوات .
فصل
مطلب : في الوضوء بنبيذ
ويستدل بقوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين : أحدهما قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وذلك عمومٌ في جميع المائعات لأنه يسمَّى غاسلاً بها ، إلاّ ما قام الدليل فيه ، ونبيذُ التمر مما قد شمله العموم . والثاني : قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء ، لأنه لفظ منكَّر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطاً لغيره أو منفرداً بنفسه ، ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء ، فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر ، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم توضّأ به بمكة قبل نزول آية التيمم . وقيل إن نقل من الماء إلى بَدَلٍ فدلّ ذلك على أنه بقي فيه حكم الماء الذي فيه ، لا على وجه البدل عن الماء إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة مقصورة على الماء دون غيره ؛ وقد تكلمنا في هذه المسألة في مواضع من كتبنا . ورَوَى يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال : " الوضوء بالنبيذ الذي لا يُسكر وضوءٌ لمن لم يجد الماء " . وقال عكرمة : " النبيذ وضوءٌ إذا لم يجد غيره " . ورَوَى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : " ركبت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البَحْرَ ، فَفنِيَ ماؤهم فتوضؤوا بالنبيذ وكرهوا ماء البحر " . ورَوَى المبارك بن فضالة عن أنس : " أنه كان لا يرى بأساً بالوضوء بالنبيذ " . فهؤلاء الصحابة والتابعون قد رُوي عنهم جوازُ الوضوء بالنبيذ من غير خلاف ظهر من أحد من نظائرهم عليهم . ورُوي عن أبي حنيفة في الوضوء بنبيذ التمر ثلاث روايات : إحداها وهي المشهورة : " أنه يتوضأ به ولا يتيمم " وهو قول زفر ؛ ورُوي عنه : " أنه يتوضأ به ويتيمم " وهو قول محمد ؛ ورَوَى نوحٌ أن أبا حنيفة رجع عن الوضوء بالنبيذ وقال : " يتيمم ولا يتوضأ به " . وقال مالك والثوري وأبو يوسف والشافعي : " يتيمم ولا يتوضأ به " . وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف : " أنه يتوضأ به ويتيمم " وكذلك رَوَى عنه المعلّى . وقال حميد بن عبدالرحمن الرؤاسي صاحب الحسن بن صالح : " يتوضأ بنبيذ التمر مع وجود الماء إن شاء " . ورَوَى الوضوء بنبيذ التمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عبدُالله بن مسعود وأبو أمامة ، رُوي عن عبدالله من طرق عدة قد بيّناها في مواضع .
باب صفة التيمم
قال الله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } فاختلف الفقهاء في صفته ، فقال أصحابنا : " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " فقالوا : " يضرب بيديه على الصعيد ثم يحركهما فيُقْبِلُ بهما ويُدْبِرُ على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يعيد إلى الصعيد كفّيه جميعاً فيُقبل بهما ويُدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كفّ ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين " . واتفق مالك والثوري والليث والشافعي أنه ضربتان : ضربه للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ؛ ورُوي مثله عن جابر وابن عمر . وحكى بعض أصحاب مالك أنه إن تيمّم بضربة واحدة أجزأه ، وحُكي عن مالك أيضاً أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكُوعَيْنِ لم يُعِدْ . وقال الأوزاعي : " تجزي ضربة واحدة للوجه والكوعين " ، ورُوي نحوه عن عطاء . وقال الزهري : " يمسح يديه إلى الإبط " . وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح : " يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه " . وقال أبو جعفر الطحاوي : " لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه " .
والحجة لقول أصحابنا ما رَوَى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم : " ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ للوَجْهِ وضَرْبَةٌ لليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ " . واختلف الرواية عن عمار ، فرَوَى عنه عبدالرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ضربة واحدة للوجه واليدين " . ورَوَى عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ضربتين " وهذا أوْلى ؛ لأنه زائد وخبر الزائد أوْلى . وأيضاً فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاءُ بماء واحد لعضوين بل عليه تجديد الماء لكل عضو ، كذلك الحكم في التيمم ، لأنهما طهارتان وإن كانت إحداهما مسحاً والأخرى غسلاً ، ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رِجْلٍ في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلاً ؟ وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأسلع ، ذكرا فيه جميعاً أن التيمم إلى المِرْفَقَيْنِ . واخْتُلِفَ عن عمار فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم ، فروى الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوْفُوا التَّيَمُّمَ إلى المِرْفَقَيْنِ " ، ورَوَى غيرُه عن سعيد بن عبدالرحمن عن أبيه عن عمار قال : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفَّيْن " . ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار ، وقال فيهما : " ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفّيه إلى المرفقين " . وروى سلمة عن أبي مالك عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار : أنه تمعَّك في التراب في الجنابة ، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " إنما كان يَكْفِيكَ أن تقول هَكَذَا " وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع . وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن عمارٍ : " أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد ضربةً واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط " . فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم ، ومع ذلك لم يَعْزُهُ عمّارٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حكى فِعْلَ نفسه ، لم يثبت التيمم إلى المناكب ؛ وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مَذْهَبَ أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّكُمُ الغُرُّ المُحَجَّلُونَ مِنْ آثارِ الوُضُوءِ ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطَوِّلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ " فقال أبو هريرة : إني أحب أن أطيل غرتي . ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين ، فكانت رواية من رَوَى " إلى المرفقين " أوْلى لوجوه : أحدها أنه زائد على روايات الآخرين ، وخبر الزائد أوْلى . والثاني : أن الآية تقتضي اليدين إلى المَنْكِبَيْن لدخولهما تحت الاسم ، فلا يخرج شيء منه إلاّ بدليل ، وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقي حكمه إلى المرفقين . والثالث : أن في حديث ابن عمر والأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايتهما ، وقول الزهري : " يمسح يديه إلى الإبط " قول شاذٌّ ، ومع ذلك لم يَرْوِهِ أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح : " أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه " فخلافُ ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم ؛ لأن الذي رُوي في بعضها : " ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه ، وفي بعضها : " ضربة واحدة لهما " فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعاً ؛ وهو مع ذلك خلاف الأصول ، لأن التيمم مسحٌ ، فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس ، ولو كان التكرار مسنوناً فيه لكان ثلاثاً كالأعضاء المغسولة . وإنما قال أصحابنا في صفة التيمم " إنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر " ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها ، وإنما قالوا : " ينفضهما " لما رَوَى الأعمش عن سفيان عن أبي موسى أن عماراً قال ، وذكر قصة التيمم ، فقال : إنه صلى الله عليه وسلم قال : " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " وضرب بيده على الأرض ؛ وفي حديث عبدالرحمن بن أبْزَى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه ضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما " ، وفي حديث الأسلع : " أنه نفضهما في كل مرة " والنفخُ والنفضُ جميعاً إنما هو لإزالة التراب عن يده ، وهذا يدلّ على أنه ليس المقصدُ فيه وصولَ التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه ، لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نفضه .
باب ما يتيمم به
قال الله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم ، فقال أبو حنيفة : " يُجْزِي التيمم بكل ما كان من الأرض : التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنّورة والطين الأحمر والمرداسنج وما أشبهه " ، وهو قول محمد وزفر ، وكذلك يجزي بالكحل والآجر المدقوق في قولهما ، رواه محمد ؛ ورواه أيضاً الحسن بن زياد عن أبي حنيفة . وإن تيمم بِبُورَق أو رماد أو ملح أو نحوه لم يَجُزْ عندهم ، وكذلك الذهب والفضلة في قولهم . وقال أبو يوسف : " لا يجزي إلا أن يكون تراباً أو رملاً " . وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليهما أجزأه في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : " لا يجزيه " . وروى المعلّى عن أبي يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يُجْزِهِ وهو بمنزلة الحائط ، وهو قوله الآخر . وقال الثوري : " يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض ، ولا يتيمم بالآجر " . وقال مالك : " يتيمم بالحصا والجبل " وكذلك حَكَى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما ، قال : " وإن تيمم بالثلج ولم يَصِلْ إلى الأرض أجزأه ، وكذلك الحشيش إذا كان ممتدّاً " . ورَوَى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج . وقال الشافعي : " يتيمم بالتراب مما تعلق باليد " .
قال أبو بكر : لما قال الله : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } وكان الصعيد اسماً للأرض ، اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض ؛ وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي قال : الصعيدُ الأرض ، والصعيدُ التراب ، والصعيد القبر ، والصعيد الطريق . فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية . فإن قيل : إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب ، والأرضُ الطيبة هي التي تُنْبِتُ ، والجصُّ الزرنيخ لا ينبت شيئاً ، فليس إذاً بطيِّب ، قال الله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [ الأعراف : 58 ] . قيل له : إنما أراد بالطيّب الطاهر المباح ، كقوله تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 57 ] فأفاد بذلك إيجابَ التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس . وأما قوله : { والبلد الطيب } [ الأعراف : 58 ] فإنما يريد به ما ليس بسَبْخَةٍ لأنه قال : { والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [ الأعراف : 58 ] ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج مثل ما يخرج غيرها ، فعلمنا أنه لم يُرِدْ بالطيِّب ما ذكرت . وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : " الطيّبُ الصعيد الجُرُزُ " أو قال : " الأرض الجرز " . وقال ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } ؟ قال : أطيب ما حولك . ويدلّ عليه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : " جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً " ، وهو يدلّ من وجهين على ما ذكرنا ، أحدهما : إخباره أن الأرض طهور ، فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر . والآخر : أن ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً ، وسائر ما ذكر هو من الأرض وهو مسجد ، فيجوز التيمم به بحق العموم . ورَوَى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن أعراباً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنّا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النُّفَسَاءُ والحائض والجُنُبُ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " عَلَيْكُمْ بِأَرْضِكُمْ " فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض . ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط ، لأنه من الأرض ، لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيداً ؛ وقال تعالى : { فتصبح صعيداً زلقاً } [ الكهف : 40 ] يعني الأرض الملساء التي لا شيء عليها . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً حُفَاةً فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ " يعني الأرض المستوية التي ليس عليها شيء ، كقوله تعالى : { فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } [ طه : 106 و 107 ] فلا فَرْقَ بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه ، لوقوع الاسم عليه على الإطلاق .
فإن قيل : إن الآجُرّ وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبْخِ وحَالَ عن حدّ التراب ، فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يَحُولَ إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول ، وكالزجاج ؛ فلا يجوز الوضوء به . قيل له : إنما لم يَجُزِ الوُضُوءُ بالماء الذي ذكرتَ لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء ، وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض ، وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر ، فلا يمنع ذلك التيمم به ؛ وقد رَوَى ابن عمر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده على الحائط فتيمم به " ؛ وروى : " أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب " " وأنه نفخهما " فعلمنا أن المقصد فيه وَضْعُ اليد على ما كان من الأرض لا على أن يحصل في يده أو وجهه شيء منه ، ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شيء لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه ، فلما لم يأمر بأخذ التراب ونَفَضَ النبي صلى الله عليه وسلم يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه .
فإن قيل : قوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } يقتضي حصولَ شيء منه في الأعضاء الممسوحة به . قيل له : إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه ، لأن " مِنْ " قد تكون لبدء الغاية كقولك : خرجت مِنَ الكوفة ، وهذا كتاب مِنْ فلان إلى فلان ؛ فيكون معناه على هذا : ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها ، وهو كقولك : توضأ من النهر ؛ يعني أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قَطْع ، ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يُقَلْ إنه توضأ من النهر ؟ ويحتمل أن يكون قوله : { فَامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } يعني من بعضه ، وأفاد به أن أي بَعْضٍ منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة .
وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم بها ، لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الركاز : " هو الذَّهَبُ والفِضّةُ اللّذَانِ خَلَقَهُمَا اللَّهُ تعالى في الأرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ " . واللؤلؤ من الصدف ، والصدفُ من حيوان الماء ؛ وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه ، ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها . وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها ، فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من الصعيد ، ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلاّ بتوقيف ، فلما جعل الله الصعيد بدلاً من الماء لم يَجُزْ لنا إثباتُ بدل منه إلا بتوقيف ، ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به ، ولجاز التيمم بالقطن والحبوب ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " جُعِلَتْ ليَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً " قال : " وتُرَابُهَا لنَا طَهُورٌ " وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض ، فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب ؛ لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره .
فإن قيل : إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض . قيل له : الزرنيخ ونحوُه من الأرض ، ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه ، وليس هو مع ذلك حائلاً بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه ، فكيف يشبهه الثلج والحشيش ! وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف ، وإنما جاز عند أبي حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض ، ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض ، كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول . وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمَّى تراباً على الإطلاق فلا يجوز التيمم به ، ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها ، وجعلها بمنزلة الحجر على أصله . وروى قتادة عن نافع عن ابن عمر ، أن عمر صلَّى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا تراباً ، فقال : " لينفض أحدكم ثوبه أو صُفَّةَ سرجه فيتيمم به " . وروى هشام بن حسان عن الحسن قال : " إذا لم يجد الماء ولم يَصِلْ إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به " .
قوله تعالى : { فَامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } قال أبو بكر : الذي يقتضيه الظاهر مَسْحَ البعض على ما بينا في قوله تعالى : { وَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } وأن الباء تقتضي التبعيض ، إلاّ أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل منه وأن عليه مسح الكثير . وذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئاً قليلاً أو كثيراً لم يُجِزِهِ . ورَوَى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يجزيه إذا ترك اليسير منه ؛ وهذا أوْلى بمذهبه ، لأن مِنْ أصله جواز التيمم بالحجارة التي لا غبار عليها وليس عليه تخليل أصابعه بالحجارة ، وهذا يدلّ على أن ترك اليسير منه لا يضره ؛ وقال الله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } [ الحج : 29 ] ولا خلاف في وجوب استيعاب البيت كله ، وغير جائز له ترك شيء منه .
قوله تعالى : { مَا يُرِيدُ الله ليَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } قال أبو بكر : لما كان الحَرَجُ الضّيقَ ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا ، ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات ، فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجاً بظاهر هذه الآية ، وهو نظير قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] . وقوله تعالى : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } يحتمل معنيين : الطهارة من الذنوب كما قال النبي : " إذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ وَجْهِهِ ، وإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ يَدِهِ " إلى آخره ، كما قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] يحتمل التطهير من الذنوب ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة والنجاسة ، كقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } وقوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } [ الأنفال : 11 ] فانتظم لطهارة الجنابة والطهارة من النجاسة ، وقوله تعالى : { وثيابك فطهر } [ المدثر : 4 ] فلما احتمل المعنيين فالواجب حمله عليهما ، فيكون المراد التطهير من الأحداث والتطهير به أيضاً من الذنوب ؛ وهذا يدلّ إذا كان المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء . فإن قيل : لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينبغي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دلّ على سقوطها في الوضوء . قيل له : لما كان التيمم يقتضي إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به إسقاط ما انتظمه ، وأما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما . وعلى أن قوله : { مَا يُرِيدُ الله ليَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } كلامٌ مكتفٍ بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره ، فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظه إلاّ ما قام دليل خصوصه .
فصل
قال أبو بكر : قد ذكرنا ما حَضَرَنا من علم أحكام هذه الآية ، وما في ضِمْنِها من الدلائل على المعاني ، وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها ، وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وإنزال الله إيّاها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ، ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في قوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] وقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [ النحل : 44 ] فحثّنا على التفكّر فيه ، وحرّضنا على الاستنباط والتدبّر ، وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين . ودلّ بما أنزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها ، وأن كلاًّ منهم مكلّفٌ بالقول بما أدّاه إليه اجتهاده واستقرّ عليه رأيه ونظره ، وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقادُ ما أدّاه إليه نظره ، إذْ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلاّ من طريق السمع وكان جائزاً تعبّد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده ، فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملاً للمعاني أن يكون مشرعاً لكل واحد من المجتهدين ما دلّ عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال . فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط ! وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن ، إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر . وأنا ذاكرٌ مُجْمَلاً ما تقدم ذكره مفصَّلاً ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعاً محصوراً ، والله تعالى نسأل التوفيق .
فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ } ما احتمله اللفظ من إرادة القيام . والثاني : ما اقتضته حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام . والثالث : ما احتمله من القيام من النوم ؛ لأن الآية على هذه الحال نزلت . والرابع : اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم . والخامس : احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة ، واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة ما لم يُحْدِثْ . والسادس : احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الإحداث . والسابع : دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير ذلك ، واحتمالها لقول من أوجب الدلك . والثامن : إيجابها بظاهرها إجراءَ الماء على الأعضاء . وأنّ مَسْحَها غيرُ جائز على ما بيّنا ، وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء . والتاسع : دلالتها على جواز الوضوء بغير نية . والعاشر : دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضىء بقوله تعالى : { وُجُوهَكُمْ } إذ كان الوجه ما واجهك ، وأن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء . والحادي عشر : دلالتها على أن تخليل اللحية غير واجب ، إذ لم يكن باطنها من الوجه . والثاني عشر : دلالتها على نفي إيجاب التسمية في الوضوء . والثالث عشر : دلالتها على دخول المرافق في الغسل . والرابع عشر : احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة فيه . والخامس عشر : دلالتها على جواز مسْح بعض الرأس . والسادس عشر : احتمالها لوجوب مسح الجميع . والسابع عشر : احتمالها لجواز مسح البعض ، أي بعض كان منه . والثامن عشر : دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات ، إذ غير جائز تكليفه ما لا يمكن الاقتصار عليه . والتاسع عشر : احتمالها لوجوب غسل الرجلين . والعشرون : احتمالها لجواز المسح على قول مُوجبي استيعابها بالمسح . والحادي والعشرون : دلالتها على بطلان قول مُجِيزِي مسح البعض بقوله : { إلَى الكَعْبَيْنِ } . والثاني والعشرون : دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء . والثالث والعشرون : دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخُفَّيْنِ ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين . والرابع والعشرون : دلالتها على جواز المسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث ، لأنها من حيث دلّت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلاّ ما قام دليله . والخامس والعشرون : دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلّت على المسح على الخفين ، لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه ، كما تقول : " قد ضربت رجليه " وإن كان عليهما خُفَّانِ . والسادس والعشرون : دلالتها على جواز المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلى دليل في أن المسح على الجوربين غير مراد . والسابع والعشرون : دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع جوازه على العمامة والخمار . فإن قيل : فإن كان ذلك دليلاً على بطلان المسح على العمامة ، فقوله : { وأَرْجُلَكُمْ } يدلّ على بطلان المسح على الخفين . قيل له : لما كان قوله : { وأَرْجُلَكُمْ } محتملاً للمسح والغسل وأمكننا استعمالهما استعملناهما في حالين ، وإن كان في أحدهما مجازاً ، لئلا نسقط واحداً منهما ، ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله : { وَامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ } على المجاز ، فاستعملناه على حقيقته . والثامن والعشرون : دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع . والتاسع والعشرون : دلالتها على نفي فرض الاستنجاء ، وعلى جواز الصلاة مع تركه ، وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح . والثلاثون : دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ، وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يُجْزِهِ الوضوء . والحادي والثلاثون : دلالتها على أن مَسْحَ الأذنين ليس بفرض ، وبطلان قول من أجاز المسح عليهما دون الرأس . والثاني والثلاثون : دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحَةِ الصلاة بالغسل على أي وجه حصل . والثالث والثلاثون : دلالتها على بطلان قول موجبي الترتيب في الوضوء . والرابع والثلاثون : اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة . والخامس والثلاثون : دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمّي به اجتناب أشياء ، إذ كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه ، وهو ما قد بُيِّنَ حكمه في غيرها . والسادس والثلاثون : دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ، ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } . والسابع والثلاثون : دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه . والثامن والثلاثون : إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء . والتاسع والثلاثون : جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء . والأربعون : جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد ، إذ كان المعنى في المرض مفهوماً وهو أنه خوف الضرر . والحادي والأربعون : دلالتها على جواز التيمم للجُنُبِ ، إذ كان قوله تعالى : { أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } يحتمل الجماع . والثاني والأربعون : احتمالها إيجاب الوضوء من مسّ المرأة ، إذ كان قوله تعالى : { أوْ لامَسْتُم } يحتمل الأمرين . والثالث والأربعون : دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم ، إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله ، وهو المريض والمجروح . والرابع والأربعون : دلالتها على أن الناسي للماء في رَحْلِهِ يجوز له التيمم ، إذ هو غير واجد للماء ، والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده . والخامس والأربعون : دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله ، لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ، ثم قال تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } يعني ما يكفي لغسلها ؛ ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم ، فدلّ على أن هذا القدر من الماء غير مراد . والسادس والأربعون : احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فذكر عدم كل جزء منه ، إذ كان نكرة في جواز التيمم ، فإذا وجد قليلاً لم يَجُزِ الاقتصار على التيمم . والسابع والأربعون : دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه ، إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلباً ، فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها . والثامن والأربعون : دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يَجُزْ له التيمم ، إذ كان واجداً للماء ، لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء بقوله تعالى : { فَاغْسِلُوا } من غير ذكر الوقت . والتاسع والأربعون : دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد الماء ولا تراباً نظيفاً أنه لا يصلي ، لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الآية من ماء أو تراب . والخمسون : احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد تراباً نظيفاً . والحادي والخمسون : جواز التيمم قبل دخول الوقت ، إذا لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } . والثاني والخمسون : دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء ، بقوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ثم قوله في سياقه : { فَتَيَمَّمُوا } فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء ، فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تَقْتَضِ تكرار التيمم . والثالث والخمسون : دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء ، لقوله تعالى : { إذاَ قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا } على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف . والرابع والخمسون : مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به . والخاسم والخمسون : مَسْح اليدين إلى المِرْفَقين لاقتضاء قوله تعالى : { وَأَيْدِيكُمْ إلَى المَرَافِقِ } إياها ، وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل . والسادس والخمسون : جوازه بكل ما كان من الأرض ، لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } والصعيد الأرض . والسابع والخمسون : بطلان التيمم بالتراب النجس ، لقوله تعالى : { طيباً } والنجس ليس بطيب . والثامن والخمسون : وجوب النية في التيمم من وجهين : أحدهما أن التيمم القصد ، والثاني : قوله تعالى : { فَامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } على ما بيّنا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع ، وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية ويوجب الاستيناف . والتاسع والخمسون : احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه ، لقوله : { مِنْهُ } وهو للتبعيض . والستون : دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش ، إذ ليسا من الصعيد . والواحد والستون : دلالة قوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوها توجب الوضوء ، إذ كان الغائط وهو المطمئن من الأرض يُؤْتَى لكل ذلك . والثاني والستون : دلالة قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } على جواز الغسل بسائر المائعات إلاّ ما خصه الدليل ، فيُستدلّ به على جواز الوضوء بنبيذ التمر ، ويَستدلّ به أيضاً الحسن بن صالح على جوازه بالخلّ وما جرى مجراه ، ويُستدلّ به أيضاً على جواز الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك . والثالث والستون : دلالة قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } على جوازه بالنبيذ ، إذ كان في النبيذ ماء ، وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ، ويَستدلّ به أيضاً من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخلّ التمر ونحوه ، إذ كان فيه ماء . والرابع والستون : دلالتها لمن يمنع المُسْتَحَاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثانٍ ، لقوله : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ } فقد رُوي : " إذا قمتم وأنتم مُحْدِثُون " وهي مُحْدِثَةٌ ، لوجود الحدث بعد الطهارة . والخامس والستون : دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة ، إذ كان التيمم غير رافع للحدث ، فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو مُحْدِثٌ . والسادس والستون : دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء ، لقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وقوله : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ } إلى قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فأمر بالصلاة عند دُلُوكِهَا ، وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجوداً أو التراب إذا كان معدوماً ؛ فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت ، كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله . والسابع والستون : دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به ، لقوله تعالى : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } إلى قوله : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً } فشَرَطَ في إباحة التيمم شيئين : أحدهما المرض ، والآخر : السفر مع عدم الماء ؛ فإذا لم يكن مسافراً وكان مقيماً إلاّ أنه ممنوع منه بحَبْسٍ ، فغير جائز صلاته بالتيمم . فإن قيل : فهو غير واجد للماء وإن كان مقيماً . قيل له : هو كذلك ، إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين : أحدهما السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء ، والثاني : عدمه ؛ وإنما أُبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب ، وإنما حصل المنع بفعل آدميّ من غير حال العادة فيها ، والغالبُ منها عدمه . والثامن والستون : دلالة قوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } على نفي كل ما أوجب الحرج ، والاحتجاج به عند وقوع الخلاف على منتحلي مذهب التضييق ؛ فيدل ذلك على جواز التيمم ، وإن كان معه ماء إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه ، إذ كان فيه نفي الضّيق والحرج ، وعلى نفي إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة ، وعلى نفي إيجاب النية فيها ، وما جرى مجرى ذلك . والتاسع والستون : دلالة قوله : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره ، ومن موالاة أو تفريق ، ومن وجوب نية أو عدمها ، وما جرى مجرى ذلك .
مطلب : اغتساله عليه السلام بالصاع غير موجب اعتباره
والسبعون : دلالة قوله : { فَاطَّهَّرُوا } على سقوط اعتبار تقدير الماء ، إذ كان المراد التطهير ، وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع غير موجب اعتباره . والواحد والسبعون : أن قوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } فيه دلالة على أن المراد المسح بالماء ، إذ المسح لا يقتضي ماء ، فلما قال : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } دلّ على أن المراد مسحه بالماء .
فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الأحكام ، منها نصوصٌ ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصحّ بها . وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه عِلْمُنا متى بُحث عنها واستُقْصِي النظر فيها أدركها من وُفّق لفهمها ؛ والله الموفق .
باب الطهارة للصلاة
قال الله تعالى : { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية . قال أبو بكر : ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة ؛ لأنه جعل القيام إليها شرطاً لفِعْلِ الطهارة ، وحكْمُ الجزاء أن يتأخر عن الشرط ، ألا ترى أن من قال لامرأته : " إن دخلت الدار فأنت طالق " إنما يقع الطلاق بعد الدخول ، وإذا قيل : " إذا لقيت زيداً فأكْرِمْهُ " أنه موجبٌ للإكرام بعد اللقاء ؟ وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته ؛ ولا خلاف بين السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة وأن وجوب الطهارة متعلق بسبب آخر غير القيام ، فليس إذاً هذا اللفظ عموماً في إيجاب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة ، إذْ كان الحكم فيه متعلقاً بضمير غير مذكور . وليس في اللفظ أيضاً ما يوجب تكرار وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة من وجهين ، أحدهما : ما ذكرنا من تعلق الحكم بضمير غير مذكور يحتاج فيه إلى طلب الدلالة عليه من غيره ، والثاني : أن " إذا " لا توجب التكرار في لغة العرب ، ألا ترى أن من قال لرجل : " إذا دخل زيد الدار فأعطه درهماً " فدخلها مرة أنه يستحق درهماً ، فإن دخلها مرة أخرى لم يستحق شيئاً ؟ وكذلك من قال لامرأته : " إذا دخلتِ الدار فأنت طالق " فدخلتها مرة طلقت ، فإن دخلتها مرة أخرى لم تطلق ؛ فثبت بذلك أنه ليس في الآية دلالة على وجوب تكرار الطهارة لتكرار القيام إليها .
فإن قيل : فلم يتوضأ أحد بالآية إلاّ مرة واحدة . قيل له : قد بينا أن الآية غير مكتفية بنفسها في إيجاب الطهارة دون بيان مراد الضمير بها ، فقَوْلُ القائل : " إنه لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة " خطأٌ ؛ لأن الآية في معنى المجمل المفتقر إلى البيان ، فمهما ورد به البيان فهو المراد الذي به تعلق الحكم على وجه الإفراد أو التكرار على حسب ما اقتضاه بيان المراد ، ولو كان لفظ الآية عموماً مقتضياً للحكم فيما ورد فيه غير مفتقر إلى البيان لم يكن أيضاً موجباً لتكرار الطهارة عند القيام إليها من جهة اللفظ ، وإنما كان يوجب التكرار من جهة المعنى الذي علّق به وجوب الطهارة وهو الحدث دون القيام إليها .
مطلب : كان عليه السلام مأموراً بالوضوء عند كل صلاة ثم وُضع عنه الوضوء إلا من حدث
وقد حدثنا من لا أتّهم قال : حدثنا أبو مسلم الكرخي قال : حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه ، فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه ! قال : " عَمْداً فَعَلْتُهُ " . وحدثنا من لا أتَّهِمُ قال : حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال : حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبّان عن عبدالله بن عبدالله بن عمر قال : قلت له : أرأيت وضوء عبدالله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمن هو ؟ قال حَدَّثَتْنِنيهِ أسماء بنت زيد بن الخطاب : أن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر ، فلما شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حَدَثَ ، فكان عبدالله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات .
فقد دلّ الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة ، إذ لم يجدّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكل صلاة طهارة ، فثبت بذلك أن فيه ضميراً به يتعلق إيجاب الطهارة . وبيّن في الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله : ووضع عنه الوضوء إلاّ من حدث . ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما رَوَى سفيان الثوري عن جابر عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبدالله بن علقمة عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراق ماءً نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة ، فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة : { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الآية ، فأخبر أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة . وحدثنا من لا أتّهم في الرواية قال : أخبرنا محمد بن علي بن زيد أن سعيد بن منصور حدثهم قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال : أخبرنا أيوب عن عبدالله بن أبي مليكة عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ، فقُدِّم إليه الطعام ، فقالوا : ألا نأتيك بِوَضُوءٍ ؟ قال : " إِنَّما أُمْرِتُ بالوُضُوءِ إذا قُمْتُ إلى الصَّلاةِ " . قال أبو بكر : سألوه عن الوضوء من الحدث عند الطعام فأخبر أنه أُمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة . وروى أبو معشر المدني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتي لأَمَرْتُ فِي كُلِّ صَلاةٍ بوُضُوءٍ ومَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ " ؛ وهذا يدل على أن الآية لم تقتضِ إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين ، أحدهما : أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال : " لأمرت في كل صلاة بوضوء " ، والثاني : إخباره بأنه لو أمر به لكان واجباً بأمْرِهِ دون الآية . وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم : { إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } قال : إذا قمتم من المضجع يعني النوم وقد كان رد السلام محظوراً إلا بطهارة . وروى قتادة عن الحسن عن حُصين أبي ساسان عن المهاجر قال : أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ ، فسلّمت عليه ، فلما فرغ من وضوئه قال : " ما مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلامَ إِلاّ أَنّي كُنْتُ على غَيْرِ وُضُوءٍ " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا معلّى بن منصور قال : أخبرني محمد بن ثابت العبدري قال : حدثنا نافع قال : انطلقتُ مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذٍ قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم في سِكّة من سِكَكِ المدينة وقد خرج من غائط أو بول ، فخرج عليه رجل فسلّم عليه ، فلم يرد عليه ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين ، ثم رد على الرجل السلام وقال : " لم يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلاّ أَنّي لَمْ أَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ " أو قال : " عَلَى طَهَارَةٍ " . فهذا يدل على أن رَدَّ السلام كان مشروطاً فيه الطهارة ، وجائز أن يكون ذلك كان خاصّاً للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يُرْوَ أنه نَهَى عن ردّ السلام إلا على طهارة . ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فَوْتَ الردِّ ؛ لأن رَدَّ السلام إنما يكون على الحال ، فإذا تراخى فات ، فكان بمنزلة من خاف فَوْتَ صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ فيجوز له التيمم . وجائز أن يكون قد نُسخ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقياً إلى أن قَبَضَهُ الله تعالى . وقد رُوي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ أنهم كانوا يتوضّؤون لكل صلاة ؛ وهذا محمول على أنهم فعلوه استحباباً . وقال سعد : " إذا توضأت فصَلِّ بوضوئك ما لم تُحْدِثْ " . وقد روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس أن عُبَيْدَ بن عُمير كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ } فأنكر ذلك عليه ابن عباس .
وقد رُوي نَفْي إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبدالله وعبيدة السلماني وأبي العالية وسعيد بن المسيب وإبراهيم والحسن ؛ ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبارٌ في فضيلة تجديد الوضوء ، منها ما حدثنا من لا أتّهم قال : حدثنا محمد بن زيد قال : حدثنا سعيد قال : حدثنا سلام الطويل عن زيد العمِّي عن معاوية بن قرّة عن ابن عمر قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ مرة مرة وقال : " هذَا وَظِيفَةُ الوُضُوءِ وُضُوءُ مَنْ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ له صَلاَةً إِلاّ بِهِ " ثم تحدّت ساعة ، ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال : " هَذَا وُضُوءٌ مَنْ تَوَضّأَ به ضَاعَفَ اللَّهُ له الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ " ، ثم تحدّث ساعة ، ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً فقال : " هَذَا وُضُوئِي وَوَضُوءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي " . ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الوُضُوءُ على الوُضُوءِ نُورٌ على نُورٍ " . وقال صلى الله عليه وسلم : " لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بالوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ " . فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثاً ؛ وعلى هذا يُحمل ما رُوي عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة ؛ وقد رُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال : " هذا وضوء من لم يُحْدِثْ " ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . فثبت بما قَدَّمْنا أن قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ } غير موجب للوضوء لكل صلاة ، وثبت أنه غير مستعمل على حقيقته وأن فيه ضميراً به تعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم ، وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء ، لأنه إذا وَجَبَ من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك مُوجِباً ، ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حَدَثٍ آخر وضوءٌ آخر إذا لم يكن توضأ من النوم ؟ فلو كان القيام إلى الصلاة موجباً للوضوء لما وجب من النوم عِند إرادة القيام إليها ، كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجباً للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني ؛ وهذا يدل على أن " مِنَ النوم " هو الضمير الذي في الآية ، فكان تقديره : " إذا قمتم من النوم " على ما رُوِيَ عن زيد بن أسلم . ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه إنه قام من النوم ، ومن نام قاعداً أو ساجداً أو راكعاً لا يقال إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع ، ومن قال إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية دالة على وجوب الطهارة من الريح ، وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجابُ الوضوء من النوم ومن الريح ، وقد أُريد به أيضاً إيجابُ الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية ، لأنه مذكور في قوله : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } والغائطُ هو المطمئنُّ من الأرض ، وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم فيه ، وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس ؛ لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم ، وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة ؛ فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية .
وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نَفْي إيجاب الوضوء على من نام قاعداً غير مستند إلى شيء ؛ رَوَى عطاءٌ عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخّر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا ، فجاءه عمر فقال : الصلاة يا رسول الله ! فخرج وصلَّى " ؛ ولم يذكر أنهم توضّؤوا . ورُوي عن ابن عباس قال : كنا نجيء إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ننتظر الصلاة فمنّا من نعس ومنّا من نام ولا نعيد وضوءاً . ورَوَى نافع عن ابن عمر قال : " لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام " . وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في غير هذا الموضع . وروى أبو يوسف عن محمد بن عبدالله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يصلِّي ولا يتوضأ ، فسئل عن ذلك فقال : " إنّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إنَّهُ تَنَامُ عَيْنَايَ ولا يَنَامُ قَلْبِي لو أَحْدَثْتُ لَعَلِمْتُهُ " وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث ، وأن إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فإذا نَامَتِ العَيْنُ اسْتَطْلَقَ الوِكَاءُ " ؛ فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه ، حُكم له بحكم الحدث ، وهذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير عِلْمٍ منه بما يكون منه ، فإذا كان جالساً أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته ؛ لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها متحفظاً ، وإن كان منه حدث عَلِمَ به . وقد روى يزيد بن عبدالرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ سَاجِداً وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ فإذَا اضْطَجََعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ " .
فصل
قال أبو بكر : قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ } لما كان ضميره ما وَصَفْنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث ، فأوجب ذلك تقديم الطهارة من الإحداث للصلاة ، وكانت الصلاة اسماً للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل ، اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاةِ الطهارةُ أيّ صلاة كانت ، إذْ لم تفرق الآية بين شيء منها ، وقد أكّد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : " لا يقبل الله صَلاَةً بغَيْرِ طُهُورٍ " .
قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } يقتضي إيجاب الغسل ، والغسلُ اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة ، وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه ، فقوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } إنما القصد فيه إمرارُ الماء على الموضع ، إذْ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها ، فإذاً ليس عليه دَلْكُ الموضع بيده وإنما عليه إمرارُ الماء حتى يجري على الموضع . وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه : فقال مالك بن أنس : " عليه إمرار الماء ودَلْكُ الموضع بيده وإلا لم يكن غسلاً " . وقال آخرون ، وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء : " عليه إجراءُ الماء عليه وليس عليه دَلْكُهُ بيده " . وروى هشام عن أبي يوسف : " أنه إن مسح الموضع بالماء كما يمسح بالدهن أجزأه " . والدليل على بطلان قول موجبي دَلْكِ الموضع أن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دَلْكٍ ، والدليل على ذلك أنه لو كان على بَدَنِهِ نجاسةٌ فَوَالَى بين صَبِّ الماء عليه حتى أزالها سُمِّي بذلك غاسلاً وإن لم يدلكه بيده ، فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدَّلْكِ لأجل إمرار الماء عليه ، وقال الله تعالى : { فَاغْسِلُوا } ، فهو متى أَجْرَى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها ؛ فمن شَرَطَ فيه دَلْكَ الموضع بيده فقد زاد فيه ما ليس منه ، وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ . وأيضاً فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدَّلْكِ لم يكن لدَلْكِ الموضع وإمْسَاسه بيده فائدةٌ ولا حكمٌ ، فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أَمَرَّ الماء عليه من غير دَلْك . وأيضاً فليس لدَلْكِ الموضع بيده حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه .
فإن قال قائل : إذا لم يكن الغسلُ مأموراً به لإزالة شيء هناك علمنا أنه عبادةٌ ، فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطاً وإلاّ فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه . قيل له : قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكمٌ في غسل النجاسات ولم يثبت لدَلْكِ الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس ؛ لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أوْلَى ، فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث .
وأما من أجاز مَسْحَ هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالفٌ لظاهر الآية ؛ لأن الله تعالى شَرَطَ في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح ، فما أمر بغسله لا يجزي فيه المسح لأن الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضع وإجراءه عليه ، ومتى لم يفعل ذلك لم يُسَمَّ غاسلاً ، والمسح لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه ، فغير جائز ترك الغسل إلى المسح . ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية ، وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل ، فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به . ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء إبلاغُ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه ، وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر ؛ فلو كان المسح والغسل واحداً لأجْزَى في غسل الجنابة مسحه كما يجزي في الوضوء ، وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح . فإن قيل : إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح فيه . قيل له : هذا يدل على صحة ما ذكرنا ؛ وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب الغسل عبادة ، ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح ، فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره ، والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به ، فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره . فإن قيل : لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز ، وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض . قيل له : هذا غلط ؛ لأن اللمعة إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز بالإجماع ، ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل . وقيل له : لو لَزِمَنا هذا في الوضوء لَلَزِمَكَ في غسل الجنابة مثله . والله أعلم .