قوله تعالى : { اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فإنه جائز أن يريد به اليوم الذي نزلت فيه الآية ، ويجوز أن يريد به اليوم الذي تقدم ذكره في موضعين ، أحدهما قوله : { اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } ؛ والآخر قوله تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } قيل : إنه يوم عرفة في عام حجة الوداع ، وقيل : زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كله ، على ما قدمنا من اختلاف السلف فيه . والطيبات ههنا يجوز أن يريد بها ما استطبناه واستلذذناه ما عدا ما بيَّن تحريمه في هذه الآيات وفي غيرها ، فيكون عموماً في إباحة جميع المتلذذات إلاّ ما قام دليل حظره . ويحتمل أن يريد بالطيبات ما أباحه لنا من سائر الأشياء التي ذكر إباحتها في غير هذا الموضع .
وقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } . رُوي عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدي : أنه ذبائحهم . وظاهره يقتضي ذلك ؛ لأن ذبائحهم من طعامهم ، ولو استعلمنا اللفظ على عمومه لانْتَظَمَ جميع طعامهم من الذبائح وغيرها . والأظهر أن يكون المراد الذبائح خاصة ؛ لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه ، ولا شبهة في ذلك على أحد ، سواء كان المتولّي لصنعه واتخاذه مجوسيّاً أو كتابيّاً ، ولا خلاف فيه بين المسلمين . وما كان منه غير مذكَّى لا يختلف حكمه في إيجاب حَظْرِهِ بمن تولَّى إماتته من مسلم أو كتابيّ أو مجوسيّ ؛ فلما خصَّ الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولاً على الذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان .
مطلب : في أكله عليه السلام من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهوديّ
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة المسمومة المشوية التي أهدت إليه اليهودية ولم يسألها عن ذبيحتها أهي من ذبيحة المسلم أم اليهودي .
واختلف الفقهاء فيمن انتحل دين أهل الكتاب من العرب ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " من كان يهوديّاً أو نصرانيّاً من العرب والعجم فذبيحته مذكاةٌ إذا سَمَّى الله عليها ، وإن سَمَّى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل ، ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك " . وقال مالك : " ما ذبحوه لكنائسهم أكْرَهُ أكْلَهُ ، وما سُمِّي عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء " . وقال الثوري : " إذا ذبح وأُهِلَّ به لغير الله كرهته " ، وهو قول إبراهيم . وقال الثوري : وبلغني عن عطاء أنه قال : " قد أحل الله ما أهلّ به لغير الله ؛ لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول " . وقال الأوزاعي : " إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل " . وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعْيادهم : كان مكحول لا يرى به بأساً ، ويقول : هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلَّها الله تعالى في كتابه ؛ وهو قول الليث بن سعد . وقال الربيع عن الشافعي : " لا خير في ذبائح نصارى العرب من بني تغلب " قال : " ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتُقبل منه الجزية عربيّاً كان أو عجميّاً ، ومن دخل عليه الإسلام ولم يَدِنْ بدين أهل الكتاب فلا يُقبل منه إلا الإسلام أو السيف " . قال أبو بكر : وقد رُوي عن جماعة من السلف القَوْلُ في أهل الكتاب من العرب ، لم يفرِّق أحدٌ منهم فيه بين مَنْ دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده ، ولا نعلم أحداً من السلف والخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك ، فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم .
ورَوَى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { لا إكراه في الدين } [ البقرة : 156 ] قال : " كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها وَلَدٌ فتحلف لئن عاش لها ولد لتُهَوِّدَنَّهُ ، فلما أُجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار ، فقالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا ! فأنزل الله : { لا إكراه في الدين } [ البقرة : 156 ] . قال سعيد : فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام ؛ فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده . وروى عبادة بن نُسَيّ عن غضيف بن الحارث : أن عاملاً لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناساً من السامرة يقرؤون التوراة ويَسْبُتُون السبت ولا يؤمنون بالبعث ، فما ترى ؟ فكتب إليه عمر : " إنهم طائفة من أهل الكتاب " . وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال : سألت عليّاً عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : " لا تحل ذبائحهم فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيءٍ إلا بشرب الخمر " . وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كُلُوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم ، فإن الله تعالى قال في كتابه : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم . ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده ، فهو إجماع منهم . ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قولُ الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم } [ المائدة : 51 ] ، وذلك إنما يقع على المستقبل ، فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولاّهم من العرب فهو منهم ، وذلك يقتضي أن يكون كتابيّاً ؛ لأنهم أهْلُ الكتاب ، وأن تحلّ ذبائحهم ، لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } .
ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون مَنْ سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم ، ولم يفرقوا في ذلك بين من دَانَ بذلك قبل نزول القرآن وبعده ، ويحتجّون في ذلك بقوله : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } [ الجاثية : 16 ] ، فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل ؛ وبحديث عبيدة السلماني عن عليّ أنه قال : " لا تحلّ ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيءٍ إلا بشرب الخمر " . أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم ؛ لأنه إنما أخبر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب ولم يَنْفِ بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم . وقد قال ابن عباس : تحلّ ذبائحهم ، لقوله تعالى : { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] ، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم . وقول عليّ رضي الله عنه في ذلك وحَظْرُ ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بني إسرائيل ، لكن مِنْ قِبَلِ أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة ؛ لأنه قال : إنهم لا يتعلقون من دينهم إلاّ بشرب الخمر ، ولم يقل : لأنهم ليسوا من بني إسرائيل ؛ فقَوْلُ من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلاّ من بني إسرائيل وإن دانوا بدينهم قَوْلٌ ساقط مردود .
وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن حذيفة عن عدي بن حاتم قال : أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ ! " فقلت له : إنّ لي ديناً ، فقال : " أنا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ " قلت : أنت أعلم بديني مني ؟ ! قال : " نَعَمْ ! أَلَسْتَ رَكُوسِيّاً " قال : قلت بلى ! قال : " أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ " قال : قلت بلى ! قال : " أَلَسْتَ تَأْخُذُ المِرْبَاعَ ؟ " قال : قلت بلى ! قال : " فإنّ ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ " قال : فكأني رأيت أن عليّ بها غضاضة ، وكأني تواضعت بها . وروى عبدالسلام بن حرب عن غطيف بن أعْيَنٍ عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبُ ذهبٍ ، فقال : " أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ " ثم قرأ : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [ التوبة : 31 ] قال : قلت : يا رسول الله ما كنا نعبدهم ! قال : " أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ " ؟ قال : فتلك عبادتهم . وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا ، أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه إلى متخذي الأحبار والرهبان أرباباً ، وهم اليهود والنصارى ، ولم يَنْفِ ذلك عنه من حيث كان عربيّاً ، وقال في الحديث الأول : " ألست ركوسيّاً " وهم صنف من النصارى ، فلم يخرجه عنهم بأخْذِهِمُ المِرْبَاعَ ، وهو ربع الغنيمة ؛ وليس ذلك من دين النصارى ، لأن في دينهم أن الغنائم لا تحلّ ؛ فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين ، ويدل على أن العرب وبني إسرائيل سواءٌ فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام ؛ ولما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دلَّ على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده ؛ والله أعلم .
باب تزوج الكتابيات
قال الله تعالى : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . قال أبو بكر : اخْتُلف في المراد بالمُحْصَنَاتِ هاهنا ، فرُوي عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي : أنهم العفائف . ورُوي عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك ، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام عن شقيق بن سلمة قال : تزوج حُذَيفة بيهودية ، فكتب إليه عمر أنْ خَلِّ سبيلها ، فكتب إليه حذيفة : أحرام هي ؟ فكتب إليه عمر : لا ، ولكني أخاف أن تُوَاقِعُوا المُومَسَاتِ منهنّ ؛ قال أبو عبيد : يعني العواهر . فهذا يدل على أن معنى الإحْصَانِ عنده ههنا كان على العفَّة . وقال مطرف عن الشعبي في قوله . { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } قال : " إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تُحْصِنَ فَرْجَها " . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } قال : " الحرائر " .
قال أبو بكر : الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة ، منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كنّ ذميات ، فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئاً يُرْوَى عن ابن عمر أنه كرهه ؛ حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله بن نافع عن ابن عمر : أنه كان لا يرى بأساً بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم . قال جعفر : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال : حدثني نافع عن ابن عمر : أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال : " إن الله حرَّم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشِّرْكِ شيئاً أعظم من أن تقول ربها عيسى ابن مريم وهو عبد من عبيد الله " . قال أبو عبيد : وحدثني علي بن معبد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال : قلت لابن عمر : إِنّا بأرضٍ يخالطنا فيها أهل الكتاب ، أفننكح نساءهم ونأكل من طعامهم ؟ قال : فقرأ عليَّ آية التحليل وآية التحريم ، قال : قلت : إني أقرأ ما تقرأ أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم ؟ قال : فأعاد عليَّ آية التحليل وآية التحريم . قال أبو بكر : يعني بآية التحليل : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، وبآية التحريم : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] ، فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامهما تقتضي إحداهما التحليل والآخرى التحريم ، وَقَفَ فيه ولم يَقْطَعْ بإباحته .
مطلب : اتفق جماعة من الصحابة على إباحة نكاح الكتابيات الذميات ، وخالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميّات سوى ابن عمر ، وجعلوا قوله : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] خاصّاً في غير أهل الكتاب . حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن حماد قال : سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية ، قال : لا بأس ، قال : قلت : فإن الله تعالى قال : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] قال : أهل الأوثان والمجوس . وقد رُوي عن عمر ما قدمنا ذكره . ورُوي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفَرَافِصَة الكلبية وهي نصرانية وتزوجها على نسائه ؛ ورُوي عن طلحة بن عبيدالله أنه تزوج يهودية من أهل الشام . وتُرْوَى إباحة ذلك عن عامة التابعين ، منهم الحسن وإبراهيم والشعبي في آخرين منهم .
ولا يخلو قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] من أحد معنيين : إما أن يكون إطلاقه مقتضياً لدخول الكتابيات فيه ، أو مقصوراً على عبدة الأوثان غير الكتابيات . فإن كان إطلاقُ اللفظ يتناول الجميع ، فإن قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يخصّه ، ويكون قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] مرتباً عليه ، لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاصّ وجب استعمالهما ولم يَجُزْ لنا نسخ الخاص بالعام إلا بيقين ، وإن كان قوله : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] إنما يتناول إطلاقه عبدة الأوثان على ما بيَّنَّاه في غير هذا الموضع ؛ فقوله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ثابت الحكم ، إذ ليس في القرآن ما يوجب نسخه .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلكُمْ } إنما المراد به اللاتي كُنَّ كتابيات فأسلمن ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } [ آل عمران : 199 ] ، وقوله تعالى : { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ آل عمران : 113 ] والمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم ؛ كذلك قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } المراد به من كان من أهل الكتاب فأسلم . قيل له : هذا غلط من وجوه ، أحدها : أن إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ، ولا يطلق أحدٌ على المسلمين أنهم أهل الكتاب كما لا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى ، والله تعالى حين قال : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } [ آل عمران : 199 ] فإنه لم يُطلق الاسمَ عليهم إلا مقيَّداً بذكر الإيمان عقيبه ، وكذلك قال : { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } [ آل عمران : 113 ] فذكر إيمانهم بعد وَصْفِهِمْ أنهم أهل الكتاب ؛ ولست واجداً في شيء من القرآن إطلاقَ أهل الكتاب من غير تقييد إلا وهو يريد به اليهود والنصارى . والثاني : أنه قد ذكر المؤمنات في قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ } فانتظم ذلك سائرَ المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات فأسلمن وممن نشأ منهم على الإسلام ، فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كنَّ كتابيات ، فوجب أن يكون قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } على الكتابيات اللاتي لم يُسْلِمْنَ . وأيضاً فإِنْ ساغ التأويل الذي ادّعاه من خالف في ذلك ، فغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلاَّ بدلالة ، وليس معنا دلالة توجب صَرْفَهُ عن الظاهر . وأيضاً فلو حُمل على ذلك لزالت فائدته ، إذ كانت مؤمنة وقد تقدم في الآية ذكر المؤمنات . وأيضاً لما كان معلوماً أنه لم يُرِدْ بقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب ، وأن المراد به اليهود والنصارى ، كذلك قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ } هو على الكتابيات دون المؤمنات .
ويُحتجّ للقائلين بتحريمهن بقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] . قيل له : إنما ذلك في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] ؛ وأيضاً فلو كان عموماً لخصّه قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
وقد اخْتُلف في نكاح الكتابيات من وجه آخر ، فقال ابن عباس : " لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حَرْباً " وتلا هذه الآية : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله : { وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] قال الحكم : حدثت بذلك إبراهيم فأعجبه . ولم يفرق غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات والذميات ، وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن . قال أبو بكر : ومما يُحتجّ به لقول ابن عباس قوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى : { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة } [ الروم : 21 ] ، فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظوراً ؛ لأن قوله تعالى : { يوادون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] إنما يقع على أهل الحرب ؛ لأنهم في حَدٍّ غير حَدِّنا ؛ وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة ، وأصحابنا يكرهون مناكحات أهل الحرب من أهل الكتاب .
وقد اختلف السلف في نكاح المرأة من بني تغلب ، فرُوي عن عليٍّ أنه لا يجوز ؛ لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر ؛ وهو قول إبراهيم وجابر بن زيد . وقال ابن عباس : " لا بأس بذلك ، لأنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم " . واختلف أيضاً في نكاح الأَمَةِ الكتابية ، وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه في سورة النساء . ومن تأول قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } على الحرائر جعل الإباحة مقصورة على نكاح الحرائر من الكتابيات ، ومن تأوله على العفة أباح نكاح الإماء الكتابيات .
واختلف في المجوس ، فقال جُلُّ السلف وأكثر الفقهاء : " ليسوا أهل الكتاب " . وقال آخرون : " هم أهل الكتاب " . والقائلون بذلك شواذٌّ ؛ والدليل على أنهم ليسوا أهل الكتاب قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [ الأنعام : 155 ] فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان ، فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف ، ألا ترى أن من قال : إنما لي على فلان جُبَّتان ، لم يكن له أن يدّعي أكثر منه ؟ وقول القائل : إنما لقيت اليوم رجلين ، ينفي أن يكون قد لقي أكثر منهما ؟ . فإن قيل : إنما حكى الله ذلك عن المشركين ، وجائز أن يكونوا قد غلطوا . قيل له : إن الله لم يَحْكِ هذا القول عن المشركين ، ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإنا كنا عن دراستهم لغافلين ؛ فهذا إنما هو قول الله واحتجاجٌ منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن . وأيضاً فإن المجوس لا ينتحلون شيئاً من كتب الله المنزلة على أنبيائه ، وإنما يقرؤون كتاب زرادشت وكان متنبياً كذاباً ، فليسوا إذاً أهل كتاب .
ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد بن أبيه قال : قال عمر : ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب ! فقال عبدالرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " . فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب ، ولم يخالفه عبدالرحمن ولا غيره من الصحابة . وروى عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتَابِ " ؛ فلو كانوا أهل الكتاب لما قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولقال : هم من أهل الكتاب . وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ وقال : " سُنُّوا بِهم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " .
فإن قيل : إن لم يكونوا أهْلَ كتاب فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . قيل له : إنما قال ذلك في الجِزْيَةِ خاصة ، وقد رُوي ذلك في غير هذا الخبر . وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هَجَرَ يدعوهم إلى الإسلام ، قال : " فإنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لنا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنا ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الجِزْيَةُ غَيْر أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ ولا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ " . وقد رُوي النهي عن صيد المجوس عن عليّ وعبدالله وجابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن المسيب وأبي رافع وعكرمة ، وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهْلَ كتاب . ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحب الروم : " يا أَهْلَ الكتاب تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبينكم " ، وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب . ورُوي في قوله تعالى : { الم غلبت الروم } [ الروم : 2 ] أن المسلمين أَحبُّوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب وأحبّت قريش غلبة فارس لأنهم جميعاً ليسوا بأهل كتاب ، فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه ، والقصة في ذلك مشهورة . وأما من قال إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب ، فإن هذا لا يصح ولا يُعلم ثُبُوتُهُ ، وإن ثبت أوجب أن لا يكونوا من أهل الكتاب لأن الكتاب قد ذهب منهم وهم الآن غير منتحلين لشيء من كتب الله تعالى .
مطلب : في الكلام على الصابئة وبيان نحلتهم
وقد اختُلف في الصابئين هم من أهل الكتاب أم لا ؟ فرُوي عن أبي حنيفة أنهم أهل كتاب . وقال أبو يوسف ومحمد : ليسوا أهل كتاب . وكان أبو الحسن الكرخي يقول : الصابئون الذين هم عنده من أهل الكتاب قوم ينتحلون دين المسيح ويقرؤون الإنجيل ، فأما الصابئون الذين يعبدون الكواكب وهم الذين بناحية حَرَّان فإنهم ليسوا بأهل كتاب عندهم جميعاً . قال أبو بكر : الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد ، أعني الذين بناحية حَرَّان والذين بناحية البطائح في سواد واسط ؛ وأصْلُ اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة وعبادتها واتخاذها آلهة ، وهم عبدة الأوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفُرْسُ على إقليم العراق وأزالوا مملكة الصابئين وكانوا نَبَطاً لم يَجْسُروا على عبادة الأوثان ظاهراً لأنهم منعوهم من ذلك . وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين ، فلما تنصَّر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية ، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر وبقي كثير منهم على تلك النِّحْلَةِ مُسْتَخْفِينَ بعبادة الأوثان ، فلما ظهر الإسلام دخلوا في جملة النصارى ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى ، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان كاتمين لأصل الاعتقاد . وهم أكتم الناس لاعتقادهم ، ولهم أمور وحِيَلٌ في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم ، وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب ، وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم . وأصل الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها واتخاذها أصناماً على أسمائها لا خلاف بينهم في ذلك ، وإنما الخلاف بين الذين بناحية حَرَّان وبين الذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم ؛ وليس فيهم أهل كتاب . فالذي يغلب في ظنّي في قول أبي حنيفة في الصابئين أنه شاهد قوماً منهم أنهم يظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرؤون الإنجيل وينتحلون دين المسيح تَقِيَّةً ؛ لأن كثيراً من الفقهاء لا يَرَوْنَ إقرار معتقدي مقالهم بالجزية ولا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ؛ ومن كان اعتقاده من الصابئين ما وصفنا فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب وأنه لا تُؤكل ذبائحهم ولا تُنكح نساؤهم .