قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } . رُوي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم وصفوه بالبخل وقالوا : هو مقبوض العطاء ، كقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] . وقال الحسن : " قالوا هي مقبوضة عن عقابنا " .
مطلب : في معاني اليد
واليد في اللغة تنصرف على وجوه : منها الجارحة وهي معروفة . ومنها النعمة ، تقول : لفلان عندي يَدٌ أشكره عليها ، أي نعمة . ومنها القوة . فقوله أولي الأيدي فسروه بأُولي القُوَى ؛ ونحوه قول الشاعر :
* تَحَمَّلْتُ مِنْ ذَلْفَاءَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ * ولا للجِبَالِ الرّاسِيَاتِ يَدَانِ *
ومنها الملك ، ومنه قوله : { الذي بيده عقدة النكاح } [ البقرة : 237 ] يعني يملكها . ومنها الاختصاص بالفعل ، كقوله تعالى : { خلقت بيدي } [ ص : 75 ] أي توليت خلقه . ومنها التصرف ، كقولك : " هذه الدار في يد فلان " يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك . وقيل : إنه قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ } على وجه التثنية ، لأنه أراد نعمتين : إحداهما نعمة الدنيا ، والأخرى نعمة الدين . والثاني : قوتاه بالثواب والعقاب ، على خلاف قول اليهود ، لأنه لا يقدر على عقابنا . وقيل : إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة ، كقولك : " لبيك وسعديك " . وقيل في قوله تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } يعني في جهنم ؛ رُوي عن الحسن .
قوله تعالى : { كُلَّمَا أوْقَدُوا نَاراً للحَرْبِ أطْفَأَهَا اللَّهُ } فيه إخبارٌ بغَلَبَةِ المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله : { وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّه مَغْلُولَةٌ } ، وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم ؛ وقد كان مَنْ حَوْلَ المدينة منهم تقاومُ العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم ، فكان مخبره على ما أخبر به ، فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين . وإنما ذكر النار هاهنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهّب لها ، على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا بَرِيءٌ مِنْ كلّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ " قيل : لم يا رسول الله ؟ قال : " لا تَرَاءَى نَارَاهُما " ؛ وإنما عَنَى بها نارَ الحرب ، يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان . وقيل : إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب ، أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حَرْبَ أخرى منها أوقدت النيران على رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعمّ القبيلة رؤيتها ، فيعلمون أنهم قد نُدِبُوا إلى الاستعداد للحرب والتأهُّبِ لها فاستعدّوا وتأهّبوا ، فصار اسم النار في هذا الموضع مفيداً للتأهب للحرب . وقد قيل فيه وجه آخر ، وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالُفَ على التناصر على غيرهم والجدَّ في حربهم وقتالهم ، أوقدوا ناراً عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب ؛ وقال الأعشى :
* وأوقدت للحرب نارا *