قوله تعالى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وبَاطِنَهُ } . قال الضحاك : " كان أهل الجاهلية يرون إعلان الزنا إثماً والاستسرار به غير إثم ، فقال الله تعالى : { وذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وبَاطِنَهُ } " . وهو عموم في سائر ما يسمَّى بهذا الاسم أن عليه تركه سرّاً وعلانية ، فهو يوجب تحريم الخمر أيضاً لقوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } [ البقرة : 219 ] . ويجوز أن يكون ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح ، وباطنه ما يفعله بقلبه من الاعتقادات والفصول ونحوها مما حظر عليه فعله منها .
مطلب : الأقوال في ترك التسمية على الذبيحة
قوله تعالى : { ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ؛ فيه نهيٌ عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه . وقد اختلف في ذلك ، فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح : " إن ترك المسلمُ التسمية عمداً لم يؤكل وإن تركها ناسياً أكل " . وقال الشافعي : " يؤكل في الوجهين " ، وذكر مثله عن الأوزاعي . وقد اختلف أيضاً في تارك التسمية ناسياً ، فرُوي عن عليّ وابن عباس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وابن شهاب وطاوس قالوا : " لا بأس بأكل ما ذبح ونسي التسمية عليه " . وقال علي : " إنما هي على الملّة " . وقال ابن عباس : " المسلم ذكر الله في قلبه " وقال : " كما لا ينفع الاسم في الشرك لا يضر النسيان في الملّة " . وقال عطاء : " المسلم تسمية اسم الله تعالى ، المسلم هو اسم من أسماء الله تعالى ، والمؤمن هو اسم من أسمائه ، والمؤمن تسمية للذابح " ورَوَى أبو خالد الأصمّ عن ابن عجلان عن نافع : " أن غلاماً لابن عمر قال له : يا عبدالله قل بسم الله ! قال : قد قلت ، قال : قل بسم الله ! قال : قد قلت ، قال : قل بسم الله ! قال : قد قلت ، قال : فذبح فلم يأكل منه " وقال ابن سيرين : " إذا ترك التسمية ناسياً لم يؤكل " . ورَوى يونس بن عبيد عن مولى لقريش عن أبيه : " أنه أتى على غلام لابن عمر قائماً عند قَصَّابٍ ذَبَح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها ، فأمره ابن عمر أن يقوم عنده فإذا جاء إنسان يشتري قال : ابن عمر يقول إن هذه لم يذكّها فلا تشتر " . وروى شعبة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يذبح فينسى أن يسمّي قال : " أحَبُّ إليَّ أن لا يأكل " .
وظاهر الآية موجب لتحريم ما ترك اسم الله عليه ناسياً كان ذلك أو عامداً ، إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على أن النسيان غير مراد به ؛ فأما من أباح أكله مع ترك التسمية عمداً فقولُه مخالف للآية غير مستعمل لحكمها بحال ، هذا مع مخالفته للآثار المروية في إيجاب التسمية على الصيد والذبيحة .
فإن قيل : إن المراد بالنهي الذبائح التي ذبحها المشركون ، ويدلّ عليه ما رَوَى شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال المشركون : أمّا ما قتل ربّكم فمات فلا تأكلونه وأما ما قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلونه ! فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله علَيْهِ } قال : " الميتة " . ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة : { لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } فإذا كانت الآية في الميتة وفي ذبائح المشركين فهي مقصورة الحكم ولم يدخل فيها ذبائح المسلمين . قيل له : نزول الآية على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه بل الحكم للعموم إذا كان أعمّ من السبب ، فلو كان المراد ذبائح المشركين لَذَكَرَها ولم يقتصر على ذِكْر تَرْكِ التسمية ، وقد علمنا أن المشركين وإن سَمّوا على ذبائحهم لم تؤكل مثل ذلك على أنه لم يُرِدْ ذبائح المشركين إذ كانت ذبائحهم غير مأكولة سمّوا الله عليها أو لم يسموا ، وقد نصَّ الله تعالى على تحريم ذبائح المشركين في غير هذه الآية وهو قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } [ المائدة : 3 ] . وأيضاً فلو أراد ذبائح المشركين أو الميتة لكانت دلالة الآية قائمة على فساد التذكية بترك التسمية ، إذ جعل ترك التسمية عَلَماً لكونه ميتة ، فدلّ ذلك على أن كل ما تُرِكَت التسمية عليه فهو ميتة . وعلى أنه قد رُوي عن ابن عباس ما يدل على أن المراد التسمية دون ذبيحة الكافر ، وهو ما رواه إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } قال : " كانوا يقولون : ما ذكر اسم الله عليه فلا تأكلوه وما لم يذكر اسم الله عليه فكلوه ، فقال الله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ } " ، فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن المجادلة منهم كانت في ترك التسمية وأن الآية نزلت في إيجابها لا من طريق ذبائح المشركين ولا الميتة .
ويدل على أن تَرْكَ التسمية عامداً يفسد الذكاة قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مكلبين } [ المائدة : 4 ] إلى قوله : { واذكروا اسم الله عليه } [ المائدة : 2 ] ، ومعلوم أن ذلك أمر يقتضي الإيجاب وأنه غير واجب على الآكل ، فدل على أنه أراد به حال الاصطياد ، والسائلون قد كانوا مسلمين فلم يُبح لهم الأكل إلا بشريطة التسمية ؛ ويدل عليه قوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صوافّ } [ الحج : 36 ] يعني في حال النحر ؛ لأنه قال الله تعالى : { فإذا وجبت جنوبها } [ الحج : 36 ] والفاء للتعقيب . ويدل عليه من جهة السنة حديثُ عديّ بن حاتم حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيدِ الكلب ، فقال : " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وذَكَرْتَ اسْمَ الله عَلَيْهِ فَكُلْ إِذَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ ، وإِنْ وَجَدْتَ مَعَهُ كَلْباً آخَرَ وَقَدْ قَتَلَهُ فلا تَأْكُلْهُ فإِنّما ذَكَرْتَ اسْمَ الله عَلى كَلْبِكَ ولم تَذْكُرْهُ على غَيْرِهِ " ، وقد كان عدي بن حاتم مسلماً ، فأمره بالتسمية على إرسال الكلب ومنعه الأكل عند عدم التسمية بقوله : " فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك " .
وقد اقتضت الآية النهْيَ عن أكْلِ ما لم يذكر اسم الله عليه والنهي عن ترك التسمية أيضاً . ويدل على تأكيد النهي عن ذلك قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وهو راجع إلى الأمرين من تَرْكِ التسمية ومن الأكْلِ . ويدل أيضاً على أن المراد حال تركها عامداً ، إذْ كان الناسي لا يجوز أن تلحقه سِمَةُ الفسق . ويدل عليه ما روى عبدالعزيز الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الناس قالوا : يا رسول الله إن الأعراب يأتون باللحم فبتنا عندهم وهم حديثو عهد بكفر لا ندري ذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : " سَمُّوا عَلَيْهِ اللهَ وكُلُوا " ، فلو لم تكن التسمية من شرط الذكاة لقال : وما عليكم من ترك التسمية ، ولكنه قال : " كلوا " لأن الأصل أن أمور المسلمين محمولة على الجواز والصحة فلا تحمل على الفساد وما لا يجوز إلا بدلالة .
فإن قيل : لو كان المرادُ تَرْكَ المسلم التسمية لوجب أن يكون من استباح أكله فاسقاً لقوله تعالى : { وَإنّه لَفِسْقٌ } ، فلما اتفق الجميع على أن المسلم التارك للتسمية عامداً غير مستحق بسِمَةِ الفسق دلّ على أن المراد الميتة أو ذبائح المشركين . قيل له : ظاهر قوله : { وإِنَّهُ لَفِسْقٌ } عائد على الجميع من المسلمين وغيرهم ، وقيامُ الدلالة على خصوص بعضهم غير مانع بقاء حكم الآية في إيجاب التسمية على المسلم في الذبيحة . وأيضاً فإنّا نقول : من ترك التسمية عامداً مع اعتقاده لوجوبها هو فاسق وكذلك من أكل ما هذا سبيله مع الاعتقاد ؛ لأن ذلك من شرطها ، فقد لحقته سِمَةُ الفسق ، وأما من اعتقد أن ذلك في الميتة أو ذبائح أهل الشرك دون المسلمين فإنه لا يكون فاسقاً لزواله عند حكم الآية بالتأويل .
فإن قال قائلٌ : لما كانت التسمية ذكراً ليس بواجب في استدامته ولا في انتهائه وجب أن لا يكون واجباً في ابتدائه ، ولو كان واجباً لاستوى فيه العامِدُ والناسي . قيل له : أما القياس الذي ذكره فهو دعوى مَحْضٌ لم يردَّه على أصل فلا يستحق الجواب ، على أنه منتقَضٌ بالإيمان والشهادتين وكذلك في التلبية والاستيذان وما شاكل هذا ، لأن هذه إذا كانت ليست بواجبة في استدامتها وانتهائها ومع ذلك فهي واجبة في الابتداء .
وإنما قلنا إن تَرْكَ التسمية ناسياً لا يمنع صحة الذكاة ، مِنْ قِبَلِ أن قوله تعالى : { ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ } خطابٌ للعامد دون الناسي ؛ ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة : { وإِنّهُ لَفِسْقٌ } ، وليس ذلك صفة للناسي ؛ ولأن الناسي في حال نسيانه غير مكلَّف للتسمية ، وروى الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبدالله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَجَاوَزَ الله عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسْيَانَ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ، وإذا لم يكن مكلفاً للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده تَرْكُ التسمية ، وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى لفَوَاتِ ذلك منه ، وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة أو نسيان الطهارة ونحوها ، لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر ، ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلّها .
فإن قيل : لو كانت التسمية من شرائط الذكاة لما أسقطها النسيان ، كتَرْكِ قَطْعِ الأوداج . وهذا السؤال للفريقين : من أسقط التسمية رأساً ، ومن أوجبها في حال النسيان ؛ فأما من أسقطها فإنه يستدل علينا باتفاقنا على سقوطها في حال النسيان ، وشرائط الذكاة لا يسقطها النسيان كترك قطع الأوْداجِ ، فدلّ على أن التسمية ليست بشرط فيها ، ومن أوجبها في حال النسيان يشبّهها بترك قطع الحلقوم والأوداج ناسياً أو عامداً أنه يمنع صحة الذكاة . فأما من أسقط فرض التسمية رأساً فإن هذا السؤال لا يصح له ؛ لأنه يزعم أن تَرْكَ الكلام من فروض الصلاة وكذلك فعل الطهارة وهما جميعاً من شروطها ، ثم فرق بين تارك الطهارة ناسياً وبين المتكلم في الصلاة ناسياً ؛ وكذلك النيةُ شرط في صحة الصوم وترك الأكل أيضاً شرطٌ في صحته ، ولو ترك النية ناسياً لم يصح صومه ولو أكل ناسياً لم يفسد صومه ، فهذا سؤال ينتقض على أصل هذا السائل . وأما من أوجبها في حال النسيان واستدلّ بقطع الأوداج فإنه لا يصح له ذلك أيضاً ، لأن قَطْعَ الأوداج هو نفس الذبح الذي ينافي مَوْتَهُ حَتْفَ أنفه وينفصل به من الميتة ، والتسميةُ مشروطة لذلك لا على أنها نفس الذبح بل هي مأمور بها عنده في حال الذكر دون حال النسيان ، فلم يخرجه عدم التسمية على وجه السهو من وجود الذبح ، فلذلك اختلفا .