قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَواْ إِلَى ذِكْرِ الله } الآية . قال أبو بكر : يفعل في يوم الجمعة جماعة صلوات كما يفعل في سائر الأفعال ، ولم يبيّن في الآية أنها هي ؛ واتفق المسلمون على أن المراد الصلاة التي إذا فعلها مع الإمام جمعة لم يلزمه فعل الظهر معها ، وهي ركعتان بعد الزوال على شرائط الجمعة . واتفق الجميع أيضاً على أن المراد بهذا النداء هو الأذان ، ولم يبين في الآية كيفيته وبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن زيد الذي رأى في المنام الأذان ، ورآه عمر أيضاً كما رآه ابن زيد ، وعلّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا محذورة وذكر فيه الترجيع ، وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى : { وإذا ناديتم إلى الصلاة } [ المائدة : 58 ] .
ورُوي عن ابن عمر والحسن في قوله : { إِذَا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ } قال : " إذا خرج الإمام وأذّن المؤذّن فقد نُودي للصلاة " . ورَوَى الزهري عن السائب بن يزيد قال : " ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذّن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ثم يقيم إذا نزل ، ثم أبو بكر كذلك ثم عمر كذلك ، فلما كان عثمان وفشا الناس وكثروا زاد النداء الثالث " .
وقد رُوي عن جماعة من السلف إنكار الأذان الأوّل قبل خروج الإمام ، رَوَى وكيع قال : حدثنا هشام بن الغاز قال : سألت نافعاً عن الأذان الأول يوم الجمعة قال : قال ابن عمر : " بدعةٌ وكل بدعةٍ ضلالةٌ وإن رآه الناس حسناً " .
وروى منصور عن الحسن قال : " النداء يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام والذي قَبْلُ مُحْدَثٌ " . وروى عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : " إنما كان الأذان يوم الجمعة فيما مضى واحداً ثم الإقامة ، وأما الأذان الأول الذي يؤذَّن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على المنبر فهو باطل أوّل من أحدثه الحجّاج " . وأما أصحابنا فإنهم إنما ذكروا أذاناً واحداً إذا قعد الإمام على المنبر فإذا نزل أقام على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
وأما وقت الجمعة فإنه بعد الزوال ؛ ورَوَى أنس وجابر وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الجمعة إذا زالت الشمس " .
وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة قال : " صلى بنا عبدالله بن مسعود وأصحابه الجمعة ضُحًى ثم قال : إنما فعلت ذلك مخافة الحرّ عليكم " . ورُوي عن عمر وعلي أنهما رضي الله عنهما صلياها بعد الزوال .
ولما قال عبدالله : " إني قدمت مخافة الحرّ عليكم " علمنا أنه فعلها على غير الوجه المعتاد المتعارف بينهم ، ومعلوم أن فعل الفروض قبل أوقاتها لا يجوز لحرٍّ ولا لبرد إذا لم يوجد أسبابها ، ويحتمل أن يكون فعلها في أول وقت الظهر الذي هو أقرب أوقات الظهر إلى الضُّحَى ، فسمّاه الراوي ضُحًى لقربه منه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر : " تَعَالَ إلى الغَدَاءِ المُبَارَكِ " فسماه غداءً لقربه من الغداء ، وكما قال حذيفة : " تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نهاراً " والمعنى قريب من النهار . ولما اختلف الفقهاء في الذي يلزم من الفرض بدخول الوقت ، فقال قائلون : " فرض الوقت الجمعة والظهر بدل منها " وقال آخرون : " فرض الوقت الظهر والجمعة بدل منه " ، استحال أن يُفعل البدل إلا في وقت يصح فيه فعل المُبْدَلِ عنه وهو الظهر ، ولما ثبت أن وقتها بعد الزوال ثبت أن وقت النداء لها بعد الزوال كسائر الصلوات .
وقوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله } قرأ عمر وابن مسعود وأُبيّ وابن الزبير : " فامْضُوا إلى ذكر الله " ؛ قال عبدالله : لو قرأت : " فاسعوا " لسعيت حتى يسقط ردائي . قال أبو بكر : يجوز أن يكون أراد التفسير لا نصَّ القراءة ، كما قال ابن مسعود للأعجمي الذي كان يلقنه : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } [ الدخان : 43 و 44 ] فكان يقول : " طعام اليتيم " ، فلما أعياه قال له : " طعام الفاجر " ، وإنما أراد إفهامه المعنى . وقال الحسن : " ليس يريد به العَدْوَ وإنما السَّعْيُ بقلبك ونيتك " . وقال عطاء : " السعي الذهاب " .
وقال عكرمة : " السعي العمل " قال أبو عبيدة : فاسعوا أجيبوا ، وليس مِنَ العَدْوِ .
قال أبو بكر : الأوْلَى أن يكون المراد بالسعي ههنا إخلاص النية والعمل ، وقد ذكر الله السعي في مواضع من كتابه ولم يكن مراده سرعة المشي ، منها قوله : { ومن أراد الآخر وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] ، { وإذا تولى سعى في الأرض } [ البقرة : 205 ] ، { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [ النجم : 39 ] وإنما أراد العمل .
ورَوَى العلاء بن عبدالرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذا ثُوِّبَ بالصَّلاةِ فلا تَأْتُوهَا وأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ ولَكِن ائْتُوهَا وعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ فما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " ، ولم يفرق بين الجمعة وغيرها .
واتفق فقهاء الأمصار على أنه يمشي إلى الجمعة على هينته .
فصل
واتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في غيره ؛ لأنهم مُجْمِعُون على أن الجمعة لا تجوز في البوادي ومناهل الأعراب ، فقال أصحابنا : " هي مخصوصة بالأمصار ولا تصح في السواد " ، وهو قول الثوري وعبيدالله بن الحسن . وقال مالك : " تصح الجمعة في كل قرية فيها بيوت متصلة وأسواق متصلة ، يقدِّمون رجلاً يخطب ويصلّي بهم الجمعة إن لم يكن لهم إمام " . وقال الأوزاعي : " لا جمعة إلا في مسجد جماعة مع الإمام " .
وقال الشافعي : " إذا كانت قرية مجتمعة البناء والمنازل وكان أهلها لا يظعنون عنها إلا ظَعْنَ حاجة وهم أربعون رجلاً حرّاً بالغاً غير مغلوب على عقله وجبت عليهم الجمعة " .
قال أبو بكر : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا جُمُعَةَ ولا تَشْرِيقَ إلا في مِصْرٍ جَامِعٍ " ، ورُوي عن علي مثله .
وأيضاً لو كانت الجمعة جائزة في القرى لورد النقل به متواتراً كوروده في فعلها في الأمصار لعموم الحاجة إليه .
وأيضاً لما اتفقوا على امتناع جوازها في البوادي لأنها ليست بمِصْرٍ وجب مثله في السواد .
ورُوي أنه قيل للحسن : إن الحجّاج أقام الجمعة بالأهواز ! فقال : لعن الله الحجاج يترك الجمعة في الأمصار ويقيمها في حلاقيم البلاد .
فإن قيل : رُوي عن ابن عمر أن الجمعة تَجِبُ على من آواه الليل ، وأن أنس بن مالك كان بالطفّ فربما جمع وربما لم يجمع ؛ وقيل من الطّفِّ إلى البصرة أقلّ من أربع فراسخ وأقل من مسيرة نصف يوم . قيل له : إنما هذا كلام فيما حكمه حكم المصر ، فرأى ابن عمر أن ما قرب من المصر فحكمه حكمه وتجب على أهله الجمعة ، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يرون الجمعة إلا في الأمصار أو ما حكمه حكم الأمصار .
والجمعة ركعتان نقلتها الأمّة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً ؛ وقال عمر : " صلاة السفر ركعتان وصلاة الفجر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " ؛ وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة .
باب وجوب خطبة الجمعة
قال الله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ } فاقتضى ذلك وجوب السعي إلى الذكر ، ودلّ على أن هناك ذكراً واجباً يجب السعي إليه .
وقال ابن المسيب : " فاسعوا إلى ذكر الله موعظة الإمام " .
وقال عمر في الحديث الذي قدمنا : " إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة " .
وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ فإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ واسْتَمَعُوا الخُطْبَةَ ، فالمُهَجِّرُ إلى الجُمُعَةِ كالّذي يُهْدِي بَدَنَةً ثمَّ الَّذي يَليهِ كالمُهْدِي بَقَرَةً ثمّ الّذي يَلِيهِ كالمُهْدِي شَاةً ثمّ الّذي كالمُهْدِي دَجَاجَةً ثمّ الّذي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَيْضَةً " .
ويدل على أن المراد بالذكر ههنا هو الخطبة أن الخطبة هي التي تلي النداء ، وقد أمر بالسعي إليه ، فدل على أن المراد الخطبة .
وقد رُوي عن جماعة من السلف أنه إذا لم يخطب صلّى أربعاً ، منهم الحسن وابن سيرين وطاوس وابن جبير وغيرهم ، وهو قول فقهاء الأمصار .
واختلف أهْلُ العلم فيمن لم يدرك الخطبة وأدرك الصلاة أو بعضها ، فرُوي عن عطاء بن أبي رباح في الرجل تفوته الخطبة يوم الجمعة : " أنه يصلّي الظهر أربعاً " . ورَوَى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء وطاوس قالوا : " من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعاً " . وقال ابن عون : ذُكر لمحمد بن سيرين قَوْلُ أهل مكة إذا لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلّى أربعاً ، قال : ليس هذا بشيء .
قال أبو بكر : ولا خلاف بين فقهاء الأمصار والسلف ما خلا عطاء ومن ذكرنا قوله أنّ من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ، ولم يخالفهم عطاء وغيره أنه لو شهد الخطبة فذهب يتوضأ ثم جاء فأدرك مع الإمام ركعة أنه يصلي ركعتين ، فلما لم يمنعه فوات الركعة من فعل الجمعة كانت الخطبة أوْلى وأحْرَى بذلك . وروى الأوزاعي عن عطاء أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها ثلاثاً ، وهذا يدل على أنه فاتته الخطبة وركعة منها . ورُوي عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وأنس والحسن وابن المسيب والنخعي والشعبي : " إذا أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى " .
ورَوَى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إِلَيْها أُخْرَى ، وَمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ يُصَلِّي أَرْبعاً " .
واختلف السلف وفقهاء الأمصار فيمن أدرك الإمام في التشهّد ، فروى أبو وائل عن عبدالله بن مسعود قال : " من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة " .
ورَوَى ابن جريج عن عبدالكريم عن معاذ بن جبل قال : " إذا دخل في صلاة الجمعة قبل التسليم وهو جالس فقد أدرك الجمعة " .
ورُوي عن الحسن وإبراهيم والشعبي قالوا : " من لم يدرك الركوع يوم الجمعة صلى أربعاً " .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : " إذا أدركهم في التشهد صلى ركعتين " .
وقال زفر ومحمد : " يصلّي أربعاً " .
وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن محمد بن سماعة عن محمد أنه قال : " يصلي أربعاً ، يقعد في الثنتين الأوليين قدر التشهد فإن لم يقدر قدر التشهد أَمَرْتُه أن يصلي الظهر أربعاً " ، وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي : " يصلّي أربعاً " ، إلا أن مالكاً قال : " إذا قام يكبر تكبيرة أخرى " وقال الثوري : " إذا أدرك الإمام جالساً لم يسلم صلى أربعاً ينوي الظهر ، وأحَبُّ إليّ أن يستفتح الصلاة " . وقال عبدالعزيز بن أبي سلمة : " إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد قعد بغير تكبير ، فإذا سلّم الإمام قام فكبّر ودخل في صلاة نفسه ، وإن قعد مع الإمام بتكبير سلّم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبّر للظهر " .
وقال الليث : " إذا أدرك ركعة مع الإمام يوم الجمعة وعنده أن الإمام قد خطب فإنما يصلّي إليها ركعة أخرى ثم يسلّم ، فإن أخبره الناس أن الإمام لم يخطب وأنه صلى أربعاً صلى ركعتين وسجد سجدتي السهو " .
قال أبو بكر : لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " وجب على مُدْرِكِ الإمام في تشهد الجمعة اتّباعه فيه والقعود معه ، ولما كان مدركاً لهذا الجزء من الصلاة وجب عليه قضاء الفائت منها بظاهر قوله عليه السلام : " وما فاتكم فاقضوا " ، والفائت منها هي الجمعة ، فوجب أن يقضي ركعتين . وأيضاً لما كان مدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام إذا كان مسافراً وكان بمنزلة مدركه في التحريمة وجب مثله في الجمعة ، إذ الدخول في كل واحدة من الصلاتين بغير الفرض .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إليها أُخْرَى " وفي بعض الأخبار : " وإن أَدْرَكَهُمْ جُلُوساً صَلَّى أَرْبَعاً " . قيل له : أصل الحديث : " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ " ، فقال الزهري وهو راوي الحديث : ما أرى الجمعة إلا من الصلاة ؛ فذِكْرُ الجمعة إنما هو من كلام الزهري ؛ والحديث إنما يدور على الزهري ، مرة يرويه عن سعيد بن المسيب ومرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وقد قال حين روى الحديث في صلاة مطلقة : أرى الجمعة من الصلاة ؛ فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ في الجمعة لما قال : ما أرى الجمعة إلا من الصلاة .
وعلى أن قوله : " مَنْ أَدْرَكَ ركعةً مِنَ الجُمعةِ فَقَدْ أَدْرَكَ " لا دلالة فيه أنه إذا لم يدرك ركعة صلى أربعاً ، كذلك قوله : " مَنْ أَدْرَكَ رَكعةً مِنَ الجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إليها رَكْعَةً أُخْرَى " .
وأما ما رُوي : " وإنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوساً صَلَّى أَرْبعاً " فإنه لم يثبت أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وجائز أن يكون من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث ، ولو صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم كان معناه : وإن أدركهم جلوساً وقد سلّم الإمام .
ولم يختلف الفقهاء أن وجوب الجمعة مخصوص بالأحرار البالغين المقيمين دون النساء والعبيد والمسافرين والعاجزين ، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَرْبَعَةٌ لا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ : العَبْدُ والمَرْأَةُ وَالمَرِيضُ والمُسَافِرُ " .
وأما الأعمى فإن أبا حنيفة قال : " لا جمعة عليه " وجعله بمنزلة المقعد لأنه لا يقدر على الحضور بنفسه إلا بغيره .
وقال أبو يوسف ومحمد : " عليه الجمعة " وفرّقا بينه وبين المقعد ، لأن الأعمى بمنزلة من لا يهتدي الطريق فإذا هُدي سَعَى بنفسه ، والمقعد لا يمكنه السعي بنفسه ويحتاج إلى من يحمله .
وفرق أبو حنيفة بين الأعمى وبين من لا يعرف الطريق ؛ لأن الذي لا يعرف وهو بصير إذا أُرشد اهتدى بنفسه والأعمى لا يهتدي بنفسه ولا يعرفه بالإرشاد والدلالة . ويحتج لأبي يوسف ومحمد بحديث أبي رزين عن أبي هريرة أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني ضرير شَاسِعُ الدار وليس لي قلائد يلازمني أفلي رخصة أن لا آتي المسجد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا " . وفي خبر حصين بن عبدالرحمن عن عبدالله بن شداد عن ابن أم مكتوم نحوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَتَسْمَعُ الإِقَامَةَ ؟ " قال : نعم ، قال : " فَأْتِهَا " .
واختلفوا في عدد من تصح به الجمعة من المأمومين ، فقال أبو حنيفة وزفر ومحمد والليث : " ثلاثة سوى الإمام " . ورُوي عن أبي يوسف : " اثنان سوى الإمام " وبه قال الثوري .
وقال الحسن بن صالح : " إن لم يحضر الإمام إلا رجل واحد فخطب عليه وصلّى به أجزأهما " .
وأما مالك فلم يحد فيه شيئاً ، واعتبر الشافعي أربعين رجلاً .
قال أبو بكر : روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة ، فقدم عِيرٌ فنفر الناس إليه وبقي معه اثنا عشر رجلاً ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا } ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الجمعة منذ قدم المدينة ولم يذكر رجوع القوم ، فوجب أن يكون قد صلّى باثني عشر رجلاً . ونقل أهل السِّيَرِ أن أول جمعة كانت بالمدينة صلاّها مصعب بن عمير بأمر النبي صلى الله عليه وسلم باثني عشر رجلاً وذلك قبل الهجرة ، فبطل بذلك اعتبار الأربعين . وأيضاً الثلاثة جمع صحيح فهي كالأربعين لاتفاقهما في كونهما جمعاً صحيحاً ، وما دون الثلاثة مختلف في كونه جمعاً صحيحاً ، فوجب الاقتصار على الثلاثة وإسقاط اعتبار ما زاد .
وقوله تعالى : { وَذَرُوا البَيْعَ } ، قال أبو بكر : اختلف السلف في وقت النهي عن البيع ، فرُوي عن مسروق والضحاك ومسلم بن يسار : " أن البيع يحرم بزوال الشمس " . وقال مجاهد والزهري : " يحرم بالنداء " . وقد قيل إن اعتبار الوقت في ذلك أَوْلَى ، إذ كان عليهم الحضور عند دخول الوقت ، فلا يسقط ذلك عنهم تأخير النداء .
ولما لم يكن للنداء قبل الزوال معنى دلّ ذلك على أن النداء الذي بعد الزوال إنما هو بعدما قد وجب إتيان الصلاة .
واختلفوا في جواز البيع عند نداء الصلاة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والشافعي : " البيع يقع مع النهي " ، وقال مالك : " البيع باطل " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم } [ النساء : 29 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " وظاهره يقتضي وقوع الملك للمشتري في سائر الأوقات لوقوعه عن تراضٍ . فإن قيل : قال الله تعالى : { وَذَرُوا البَيْعَ } . قيل له : نستعملهما فنقول يقع محظوراً عليه عقد البيع في ذلك الوقت لقوله : { وذروا البيع } .
ويقع الملك بحكم الآية الأخرى والخبر الذي رويناه ؛ وأيضاً لما لم يتعلق النهي بمعنًى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنًى في غيره وهو الاشتغال عن الصلاة وجب أن لا يمنع وقوعه وصحته ، كالبيع في آخر وقت صلاة يخاف فَوْتُها إن اشتغل به وهو منهيٌّ عنه ، ولا يمنع ذلك صحته لأن النهي تعلق باشتغاله عن الصلاة .
وأيضاً هو مثل تلقي الجَلَبِ وبيع حاضِرٍ لبَادٍ والبيع في الأرض المغصوبة ونحوها كونه منهيّاً عنه لا يمنع وقوعه . وقد روى عبدالعزيز الدراوردي عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ في المَسْجِدِ فَقُولُوا لا أَرْبَحَ الله تِجَارَتَكَ ، وإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً في المَسْجِدِ فَقُولُوا لا رَدَّ الله عَلَيْكَ " .
وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع في المسجد وأن يُشترى فيه وأن تُنْشَدَ فيه ضالةٌ أو تنشد فيه الأشعار ، ونهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة " .
وروى عبدالرزاق قال : حدثنا محمد بن مسلم عن عبد ربه بن عبيدالله عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وصِبْيَانَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وشِرَاكُمْ وإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وخُصُومَتِكُمْ وجَمِّرُوهَا يَوْمَ جُمِعِكُمْ واجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ على أَبْوَابِهَا " ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع في المسجد ، ولو باع فيه جاز لأن النهي تعلق بمعنى في غير العقد .
باب السفر يوم الجمعة
قال أصحابنا : " لا بأس به قبل الزوال وبعده إذا كان يخرج من مِصْرِهِ قبل خروج وقت الظهر " حكاه محمد في السِّيَرِ بلا خلاف . وقال مالك : " لا أحب له أن يخرج بعد طلوع الفجر وليس بحرام ، وبعد الزوال لا ينبغي أن يسافر حتى يصلّي الجمعة " . وكان الأوزاعي والليث والشافعي يكرهون السفر يوم الجمعة حتى يصلّي .
وروى حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ابن رواحة وجعفراً وزيد بن حارثة ، فتخلّف ابن رواحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا خَلَّفَكَ ؟ " قال : الجمعة يا رسول الله أُجمِّعُ ثم أروح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَغَدْوَةٌ في سَبِيلِ الله أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها " ، قال : فراح منطلقاً . وروى سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : " لا تحبس الجمعة عن سفر " ، ولا نعرف أحداً من الصحابة خالفه . ورَوَى يحيى بن سعيد عن نافع أن ابناً لعبدالله بن عمر كان بالعقيق على رأس أميال من المدينة ، فأتى ابن عمر غداة الجمعة فأخبر بشكواه ، فانطلق إليه وترك الجمعة .
وقال عبيدالله بن عمر : خرج سالم من مكة يوم الجمعة . ورُوي عن عطاء والقاسم بن محمد أنهما كرها أن يخرج يوم الجمعة في صدر النهار .
وعن الحسن وابن سيرين قالا : " لا بأس بالسفر يوم الجمعة ما لم تحضر الجمعة " . وروى إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن النخعي قال : " إذا أراد الرجل السفر يوم الخميس فليسافر غدوة إلى أن يرتفع النهار فإن أقام إلى العشيّ فلا يخرج حتى يصلي الجمعة " .
ورُوي عن عطاء عن عائشة قالت : " إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تُجَمِّعَ " فهذا مذهب عائشة وإبراهيم : قال الله تعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها } [ الملك : 15 ] فأباح السفر في سائر الأوقات ولم يخصصه بوقت دون وقت .
فإن قيل : هذا واضح في ليلة الجمعة ، ويوم الجُمعة قبل الزوال وإباحة السفر فيهما ، والواجب أن يكون منهيّاً عنه بعد الزوال ؛ لأنه قد صار من أهل الخطاب بحضورها لقوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ } . قيل له : لا خلاف أن الخطاب بذلك لم يتوجه إلى المسافرين ، وفَرْضُ الصلاة عندنا يتعلق بآخر الوقت ، فإذا خرج وصار مسافراً في آخر الوقت علمنا أنه لم يكن من أهل الخطاب بفعل الجمعة .