باب الأسارى
قال الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ } . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو نوح قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا سماك الحنفي قال : حدثني ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : " لما كان يوم بدر فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى قوله : { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من الفداء ، ثم أحلّ الله الغنائم " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عبدالله بن صالح قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كان يوم بدر تعجَّل ناسٌ من المسلمين فأصابوا من الغنائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تحلَّ الغَنَائِمُ لقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوسِ قَبْلَكُمْ ، كَانَ النَّبِيُّ إِذَا غَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا " ، فأنزل الله تعالى : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً } " . ورُوي فيه وجه آخر ، وهو ما رواه الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال : شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر ، فأشار أبو بكر بالاستبقاء وأشار عمر بالقتل وأشار عبدالله بن رواحة بالإحراق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قال :{ فمن تَبِعَنِي فَإِنّه مِنّي ومَنْ عَصَانِي فإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ومَثَلُ عِيسَى إذْ قال : { إن تُعَذِّبْهُمْ فإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] الآية ، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إِذْ قالَ : { لا تَذَرْ على الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيّاراً } [ نوح : 26 ] ومَثَلُ مُوسَى إِذْ قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } [ يونس : 88 ] الآية ، أَنْتُمْ عَالةٌ فلا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ " فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإنه ذكر الإسلام ! فسكت ثم قال : " إلاّ سُهَيْلَ بن بَيْضَاءَ " فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } إلى آخر الآيتين . ورُوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر وعليّاً في أسارى بدر ، فأشار أبو بكر بالفداء ، وأشار عمر بالقتل ، فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قال عمر ، فلما كان من الغذ جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان ، فقلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فقال : " أبكي للَّذي عَرَضَ عَليَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَليَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ " شَجَرَةٍ قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى آخر القصة . فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في الباب وحديث أبي هريرة أن قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إنما نزل في أخْذِهم الغنائم ، وذكر في حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارتهم عليه به ؛ والأول أولى بمعنى الآية لقوله تعالى : { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } ولم يقل فيما عرضتم وأشرتم ، ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحَى ، ومن الناس من يُجيزُ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق اجتهاد الرأي . ويجوز أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم أخْذَ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة ، فعاتبه الله والمسلمين عليها ؛ وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحلّ قبل نبينا لأحد ، وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهْ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } فكان في شرائع الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم عليهم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى يثخن في الأرض ، واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان ، وقد كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ، وقال تعالى في آية أخرى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } وكان الفرض في ذلك الوقت القتل حتى إذا أُثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء ، وكان أخذ الفداء قبل الإثخان محظوراً . وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حازوا الغنائم يوم بدر وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء ، وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم الله تعالى فيهم في ذلك ؛ ولذلك عاتبهم عليه . ولم يختلف نَقَلَهُ السِّيَرِ ورُوَاةُ المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الفداء بعد ذلك ، وأنه قال : " لا يَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ " وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } منسوخاً بقوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم الفداء .
فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخاً وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحظر في شيء واحد ؟ قيل له : إن أخذ الغنائم والأسرى وقع بدياً على وجه الحظر فلم يملكوا ما أخذوا ، ثم إن الله تعالى أباحها لهم وملّكهم إياها ، فالأخذ المباح ثانياً هو غير المحظور أولاً .
وقد اخْتُلف في معنى قوله تعالى : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، فروى أبو زميل عن ابن عباس قال : " سبقت لهم الرحمة قبل أن يعملوا المعصية " ، ورُوي مثله عن الحسن روايةً . وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة ، وقد وعد ا لله غفرانها باجتنابهم الكبائر وكتب لهم ذلك قبل عملهم للمعصية الصغيرة . ورُوي عن الحسن أيضاً ومجاهد : " أن الله تعالى كان مطعماً لهذه الأمّة الغنيمة ، ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحلّ لهم الغنيمة " . قال أبو بكر : حُكْمُ الله تعالى بأنه ستحلُّ لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم حكم الحظر قبل إحلالها ولا يخفّف من عقابه ، فلا يجوز أن يكون التأويل أن إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده . ورُوي عن الحسن أيضاً وعن مجاهد قالا : " سبق من الله أن لا يعذب قوماً إلا بعد تقدمه ولم يكن تقدّم إليهم فيها " . وهذا وجه صحيح ؛ وذلك لأنهم لم يعلموا بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين وبقاء هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فاستباحوها على ظنٍّ منهم أنها مباحة ، ولم يكن قد تقدم لهم من النبي صلى الله عليه وسلم قول في تحريمها عليهم ولا إخبارٌ منه إياهم بتحريمها على الأمم السالفة ، فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب .