قوله عز وجل : { وَمَا كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ، الآية :[ 15 ] :
يدل على صحة قول أهل الحق في أنه لا تكليف قبل السمع ، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل ، ولا يقبح ولا يحسن بالعقل ، خلافاً لمن عدا أهل الحق ، في كون العقل طريقاً إلى معرفة وجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، وإباحة المباحات ، ثم الأكثرون منهم على أنه يجوز أن يقتصر ببعض المكلفين على دليل العقل دون السمع ، إذا كانت مصلحته فيما دل عليه العقل ، وأنه يقع في علم الله أنه ينهض بما كلفه دليل العقل ، والغرض بالشرائع المصلحة ، وإذا كان المعلوم من حال بعضهم نهوضه بالتكاليف العقلية تلقياً من دليل العقل ، لم يكن لإرسال الرسل إليهم فائدة ، وإنما يرسل الله تعالى عندهم الرسول إلى من وقع في المعلوم أن تمسك المتمسك بالشريعة داعي إلى المصلحة في التكاليف العقلية ، فيرسل الرسول إليه بأمور سمعية يعلم الله تعالى كونها داعية إلى المستحسنات العقلية ، ويحرم عليه من السمعيات ما يعلم كونه داعياً إلى المستقبحات العقلية .
فإذا لم يقع في المعلوم كون فعل من الأفعال داعياً إلى الواجب العقلي ، ولا ناهياً عن القبيح العقلي ، لم يكن للإرسال فائدة ، وليس يجب أن يعلم الله تعالى ذلك من أحوال المكلفين جملة ، وربما علم من أحوال بعضهم ، فيجب إرسال الرسول إليه ، وربما لا يعلم ذلك ، فلا يجب إرسال الرسول إليه .
وفيهم من يقول : يجب على الله تعالى إرسال الرسل ، لأن ذلك أقرب إلى مظاهرة الحجة وأقوى في معنى اللطف .
وهذا الإخفاء ببطلانه ، إذ يلزم منه إبقاء الرسول أبداً أو توالي الرسل ، لأن ذلك أقرب إلى اللطف ، ولا شك أن إبقاء إبليس في الدنيا مع أعوانه أبعد عن اللطف من توالي الرسل ، ومظاهرة الحجة بهم .
وربما قالوا : العبد لا يعرى من مصالح في دينه لا يعلمها إلا بالسمع ، كما لا يعرى عن مصالح في الدنيا لا تعلم إلا بالخبر . وهذا تحكم ، ومن أين وجد ذلك ؟
وإذا ثبت أن الأصح من قول المعتزلة المذهب الأول ، فقال للمعتزلة : فما معنى قوله تعالى : { وَمَا كُنّا مُعّذِّبِينَ حَتّى نَبْعثَ رسُولاً } ؟ وعندكم يجوز في المعلوم أن ينهض العبد بالمصالح العقلية ، من غير افتقار إلى أفعال تكون لطفاً في تلك المصالح وتعلم بالسمع ، وقد قال تعالى : { وَمَا كُنّا مُعّذِّبِينَ حَتّى نبعثَ رسُولاً } ، وعندكم في تلك الحال يجب أن لا يبعث رسولاً ويعذب أن نبعث رسولاً لا يجوز لنا بعثه في بعض الأحوال .
وهم اختلفوا في الجواب عن الآية ، فقال قائلون : المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا ، كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهلِكَ القُرَى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رسُولاً{[1491]} } . وهذا بعيد ، فإن عذاب الاستئصال على حسب ما يقع في المعلوم كونه مصلحة ، وإن كان الاستئصال مصلحة دون ابتعاث الرسل ، وجب عندهم ذلك ، فإن عذاب الاستئصال إنما استحقه من استحقه لمخالفة التكاليف ، فإذا حصلت المخالفة قبل الرسل ، فأي معنى لترك ذلك ؟ وإن لم يكونوا مستحقين ، فلا استئصال ، لا بعد الرسل ولا قبلهم ، وهذا بين حسن .
وأجابوا من وجه آخر فقالوا : وما كنا معذبين فيما طريقه السمع ، حتى نبعث رسولاً ، فأما ما كان طريقه العقل فلا ، وهذا بعيد ، فإن التكاليف إذا كانت منقسمة ، وأقوى القسمين التكاليف العقلية ، والسمعية مبنية عليها ، لكونها داعية إليها ولطفاً بها ، فلا يجوز أن يقول : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً .
وعندهم أنه يجب العذاب على ترك التكاليف العقلية ، فتقدير الكلام : وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله حتى نبعث رسولاً ، ولا شك أن ذلك من الله تعالى إبانة عن وجه العدل في أفعاله ، أو القهر وإنفاذ المشيئة ، وذلك عندهم على إطلاق قبيح ، وهو على أصلهم مثل قول القائل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ، ويعني بذلك بعض السمعيات دون بعض ، مع أن ذلك وغيره بمثابة .
واستدل به المعتزلة على رد قول بعض أصحابنا في أن الله سبحانه لا يعذب أطفال المشركين ، لأنه إذا كان لا يعذب قبل إرسال الرسل ، فهؤلاء الأطفال ثم يعلموا الرسل ولا لهم مكنة في معرفتهم ، فكيف يعذبون بذنوب آبائهم ؟
وهذا من المحتج به جهل ، وذلك أن الله تعالى إنما عنى بقوله : { ومَا كُنا معذِّبين نبعثَ رسُولاً } ، من يجوز إنفاذ الرسل إليهم ، فيعذب على ترك ما كلف ، فأما الأطفال فلا يعذبون عندنا على ترك ما كلفوا ، وإنما جعل الله تعالى ذلك العذاب حكماً منه نافذاً ، وقضاء ماضياً ، كما يؤلم الأطفال والبهائم في الدنيا ، فسقط ما قالوه جملة .
واستدل قوم بهذا في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام فآمنوا ، فلا تكليف عليهم فيما مضى ، وهذا صحيح . ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق العذاب من جهة العقل عندنا . وهو مضمون على قائله عندنا .
ولأبي حنيفة في ذلك خلاف ، وله مأخذ فيه يستقيم على نظر الفقهاء من غير استمداد من أقوال المعتزلة ، حتى لا يتوهم متوهم أن أبا حنيفة بنى تلك المسألة على أصول المعتزلة ، فإنه بعيد منها ، وذكرنا ذلك المأخذ في مسائل الخلاف في الكتاب الذي أفردناه للروايا .
ثم أبان الله تعالى أنه لم يهلك القرى قبل انبعاث الرسل ، فليس لأنه يقبح ذلك منه إن فعل ، ولكنه وعيد منه ولا خلف في وعده ، فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده ، كان على ما قاله تعالى : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَرْنَاهَا تَدْمِيراً{[1492]} } ، ليعلم أن من هلك إنما هلك بإرادته ، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ، ليحق القول السابق من الله تعالى .