وقوله : { إنَّ في خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ } [ 164 ] : بيان توحده في أفعاله وأمر لنا بالاستدلال بها ، رداً على من نفى حجج العقول . .
واعلم أن الدلالة الأصلية على الصانع إثبات حدوث الأجسام والجواهر ، أما قوله تعالى على التفصيل : { إنَّ في خَلقِ{[74]} السّمَواتِ والأَرْضِ } فهو من جهة وقوف السماء على غير عمد ، ودلالة ذلك من جهة السكون أو الحركة ، وفيه شيء آخر ، وهو أن وقوف الثقيل بلا مساك{[75]} يقله تتعجب منه العامة ، مع أن الثقل لا معنى له إلا اعتمادات يخلقها الله تعالى ، وليس يجب هُوِيُّ الجِرم وذهابه في جهة دون جهة من جهة كثرة الأجزاء وقلتها ، غير أن وقوف العظيم غير هاوٍ مُتَعَجّبٌ منه عند من لا يعرف السبب فيه ، ولا سبب للسكون إلا خلق الله تعالى السكون فيه ، ولا يقف حجر في الهواء من غير علاقة{[76]} ، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة : ولو جاء نبي وتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزاً . . .
وأما اختلاف الليل والنهار فلتعاقبهما ، وتعاقبهما على سنن واحد يدل على أول ، لاستحالة حوادث لا أول لها . . ودل اتساق هذه الأفعال وحركات الفلك على أن لها صانعاً عالماً قادراً يدبرها ويديرها .
ودلالة الفلك من جهة أن الجسم السيال كيف يحمل الثقل العظيم ، وكيف صار الفُلْك على عظمه وثقل ما فيه مسخراً للرياح ، وذلك يقتضي مسخِّراً يسخِّر الفلك والماء والرياح . والماء المنزل من السماء فيه دليل من جهة أن الماء شابه السيلان ، فارتفاعه عجب ، ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى الموضع الذي يريده بالسحاب المسخرة لنقله فيه ، فجعل السحاب مركباً للماء ، والرياح مركباً للسحاب ، حتى يسوقه من موضع إلى موضع ، ليعم نفعه سائر خلقه ، كما قال الله تعالى :{ أَوَ لَمْ يَرَوا أنّا نَسُوق المَاءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ{[77]} } ، ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة ، لا تلتقي واحد مع صاحبتها في الجو مع تحويل الرياح لها ، حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض ، فلولا أن مدبراً دبره على هذا الوجه كيف كان يجوز أن ينزل الماء من السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا الترتيب والنظام ، فلو اجتمع القطر وائتلف في الجو لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها عند نزولها إلى الأرض ، فيؤدي ذلك إلى هلاك الحرث والنسل .
واعلم أن من عرف حدوث العالم لأمر مرَّ ، يعلم أن فعل الله تعالى في جميع ما ذكرناه لا بآلة ، فلا العلاقة ماسكة ، ولا الماء حامل ، ولا الريح ولا السحاب مركب ، ولا الرياح سابقة ، فإنها جمادات لا أفعال لها ، وإنما هذه عادات أجراها الله تعالى وليست موجبة ، وكذلك حياة الأراضي بالمياه ، وخروج أنواع النبات منها ليس بالمياه ، ولعل إجراء العادة في إنشاء الخلق على النظام المعلوم تنبيه للعباد عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته ، وليشعرهم في كل وقت بما أغفلوه ، ويحرك خواطرهم للفكر فيما أهملوه ، فخلق الأرض والسماء ثابتين لا يزولان إلى الوقت المقدر ، ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض ، ثم أنشأ للجميع رزقاً منها ، وأقواتاً تبقى حياتهم بها . ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا ، بل جعل لهم قوتاً معلوماً في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ، ويكونوا مستشعرين بالافتقار إليه في كل حال . ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ، ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر ، فيكون ذلك باعثاً لهم إلى فعل الخير ، ليجتنوا ثمرته ، واجتناب الشر ليسلموا من مغبته ، فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله . ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا ، وجعل أخلاقهم متفاوتة ليختلف بذلك صناعاتهم ويختلف درجاتهم في المهن والأعمال ، وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة ، ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله ، حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولاً فأولاً على مقدار الحاجة ، كما قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَسَلَكهُ يَنَابِيعَ في الأَرْضِ{[78]} } ، وقال :{ وأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأسْكَنّاهُ في الأرْضِ وإنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ{[79]} } . .
ولو كان اقتصر على ما ينزل من السماء من غير حبس له في الأرض إلى وقت الحاجة لكان قد سال كله ، وكان في ذلك هلاك الحيوانات كلها ، فجعل الأرض بمثابة بيت يأوي إليه الإنسان ، والسماء بمنزلة السقف ، وجعل ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان والملابس والمطاعم ، بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه . ثم سخر هذه الأرض لنا ، وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها ، ومكننا من الانتفاع بها في بناء الدور والبيوت للسكن من المطر والحر والبرد ، وتحصيناً من الأعداء ، ولم يحوجنا إلى غيرها ، وأي موضع أردنا منها بالانتفاع بها{[80]} في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين ، ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك وسهل علينا ، سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعها من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك ، كما قال تعالى : { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَة أيّامٍ{[81]} } . . فهذه كلها وما يكثر تعداده ، ولا يحيط به علمنا من بركات الأرض ومنافعها . .
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد أن تكون متناهية ، جعلها كفاتاً لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة ، فقال :{ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً ، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً{[82]} } ، وقال : { إنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَها }{[83]} الآية . .
ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم ، ولا على الغذاء دون السم ، ولا على الحلو دون المر ، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه الدار ، لئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن الدار الآخرة التي خلقنا لها ، فكان النفع في خلق الدواب المؤذية كالنفع في اللذة السارة ، ليشعرنا في هذه الدار كيفية الآلام ، ليتضح الوعيد بألم الآخرة ، وينزجر عن القبائح ، فإذا رأى حرّاً مفرطاً تذكر نار جهنم فيتعوذ بالله منها ، وإذا رأى برداً مفرطاً تذكر برد الزمهرير فيتعوذ منه ، واستدل بالقليل الفاني على الكثير الباقي ، وانزجر عن القبائح طلباً لنعيم محض لا يشوبه كدر .
وفي قوله تعالى : { وَالفُلْكِ الّتيِ تَجْرِي في البَحْرِ } [ 164 ] : دلالة على إباحة ركوب البحر تاجراً وغازياً وطالباً صنوف المآرب ، وقال في موضع آخر :{ هُوَ الّذِي يُسَيِّرُكُمْ في البَرِّ والبَحْرِ{[84]} } ، وقال :{ رَبكُمُ الّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فيِ البَحْرِ لتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ{[85]} } . .
فقد انتظم{[86]} التجارة وغيرها ، كقوله تعالى : { فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأرْضِ{[87]} } ، { أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ{[88]} } .