قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } ، الآية :[ 61 ] :
روى إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن المسيب ، أن هذه الآية نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيحهم مع الأعمى والأعرج وعند الأقارب ، وكانوا يأمرونهم بأن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك ، وكانوا يتقون الأكل خشية أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية{[1584]} . وروى أيضاً ، أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل ، عزلوا الأعمى والأعرج والمريض كراهة أن يصيبوا من الطعام ما يصيبون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وذكر الحسن أن المراد به رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في باب الجهاد ، وأن قوله : { وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُم } ، الآية :[ 61 ] . كلام مستأنف ، فقد كان أحجهم لا يحلب ناقة إلا أن يجد من يشرب من لبنها ، ولا يأكل في بيت أحد تكرماً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو الذي اختاره الأكثرون ، ويحمل قوله : { وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُم } على أن ذلك كان رخصة في الأول ، وأباح تعالى الأكل من مال من ذكره ، وأباح أن يأكلوا من البيوت التي مفاتيحها في أيديهم ، وبيوت أصدقائهم دون إذن ، حضروا أم غابوا ، ثم نسخ ذلك بما ظهر في الشرع ، من أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه ، ودل على ذلك بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيِّ إلاّ أَنْ يُؤذَنَ لَكُم إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنّاهُ{[1585]} } ، وقد كان في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من كان لهن الآباء والإخوان ، فلما عم بالنهي علم به النسخ .
فإن قيل : فما الذي يليق بالظاهر ؟ فجوابنا أنه يبعد أن يكون المراد به : ليس على الأعمى حرج ، إلا ما يتصل بالأداء ، لأنه رفع الحرج والجناح عنه ، ثم إنه ذكر بعد ذلك أمراً مخصوصاً ، فوجب حمله على ذلك الأمر ، فأما قوله تعالى : { وَلاَ على أَنْفُسِكُم أنْ تأكُلُوا مِن بُيُوتِكُم } ، فلعل الأولى من الأقوال ، أنه ورد فيمن كان يأذن ويشح من هذه الطائفة ، وكان القوم يتوقون لبعض هذه الوجوه التي رويناها ، فبين الله تعالى أن إباحة ذلك إن كان وارداً مع طيب النفس ، لا وجه للنسخ فيه .
فإذا قيل : فإن كان كذلك ، فلم إذا خصصهم بالذكر ، وعند الإذن وطيب النفس الكل سواء ؟ فالجواب أنهم خصوا بالذكر ، لأنهم كانوا يتقدمون عند السفر والغزوات إلى أقربائهم ، وإلى من خلفوهم من الزمنى والعرجى والعميان ، أن يأكلوا من منازلهم ، فنزلت الآية على هذا السبب ، فلذلك خصوا بالذكر . . فأما حمله على أن ذلك يحل بلا إذن فبعيد .
ودل بقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ اشْتَاتاً } على أمور : منها أنه يحل للجماعة أن يجتمعوا على طعامها ، وإن كان أكلها من ذلك الطعام يتفاضل ، وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم ، من حيث إنهم لا يستوون في قدر ما ظهر من الطعام ، ثم يتفاضلون في الأكل ، فأباح الله تعالى ذلك . ومنها : أن مؤاكلة من يقصر أكله عن أكل الباقين ، لأن الأعمى إذا لم يبصر ، فلا يمكنه أن يأكل أكل البصير ، فأباح الله تعالى ذلك ، وأباح انفراد المرء عن الجماعة في الأكل ، ويجوز أن يظن ذلك مستقبحاً في الشرع كما يستقبحه أهل المروءة .
قوله تعالى : { فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُم } ، الآية :[ 61 ] : حمله الحسن على سلام البعض على البعض ، لما فيه من البركة والدعاء الصالح وتآلف القلوب . وذكر إسماعيل بن إسحاق عن جماعة ، أن المراد به أن يسلم المرء على نفسه إذا لم يكن هناك غيره يسلم عليهم ، ومن السنة أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وهذا أليق بالظاهر .
ولا خلاف في أنه لو كان في الدار غيره ، صرف السلام إليه ، وليس في الظاهر تخصيص ، وذلك يقوي قول الحسن .
وفيه وجه آخر : وهو أن السلام بالشرع صار كالمخاطبة .
وقال الفقهاء في تسليم الرجل في الصلاة : أنه يجب أن ينوي من خلفه إن كان إماماً أو ينوي الملائكة أو الحفظة ، ومعلوم أن المرء قبل دخول البيت هو مندوب إلى أن يسلم على نفسه فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لأنه كالدعاء ، مما يجرى فيه الخطاب .