/م96
قوله تعالى : { وللهِ عَلى النّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ استَطاعَ إليهِ } الآية [ 97 ] :
والاستطاعة وردت مطلقة ، وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالزاد والراحلة ، لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها ، فإن المريض ، والخائف ، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة ، والزمن ، وكل من تعذر عليه والوصول ، فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج ، وإن كان واجداً للزاد والراحلة ، فدل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " الاستطاعة الزاد والراحلة " ، إبانة أن من أمكنه المشي إلى البيت ولم يجد زاداً أو راحلة ، لا يلزمه الحج ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ، أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي ، وأن من لا يمكنه الوصول اليه إلا بالمشي الذي يشق عليه ويعسر ، فلا حج عليه ، وذلك تنبيه على أن كل من لا يصل إلى البيت إلا بمشقة شديدة ، فقد سقط عنه الحج ، وقد قال الله تعالى : { وَما جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّينِ مِنْ حَرَج{[607]} } .
والمرأة لما كانت كلحم على عظم ، وكان ما يتوق{[608]} - من خروجها دون محرم ونسوة ثقات - من الضرر على نفسها ، أعظم من ضرر المشي في حق القادر عليه ، فعلم بسقوط فرض المشي لما فيه من المشقة ، سقوط ما فوقه ، وهذا بالغ حداً .
نعم هذا الذي قلناه من المنصوص عليه ، ودلالته في سقوط الحج ، لضرر يعود إلى من عليه الحج ، مع أنه قد ورد في منع وجوب الحج على المرأة{[609]} ، وعلى الزمن الذي لا يستطيع ركوب الراحلة إلا بمشقة شديدة أخبار خاصة{[610]} .
وقد يمتنع وجوب الحج لضرر يرجع إلى الغير ، إلى الحاج ، كأن يكون عليه دين ، أو يكون{[611]} أجيراً ، والمرأة إذا أرادت حجة الإسلام وهي منكوحة .
والاستطاعة تنعدم بهذه الجهات والأسباب ، إذا امتنعت الاستطاعة ، لضرر يرجع إلى الماشي ، فلأن تمتنع بحق الغير أولى ، فإن الماشي إن تكلف المشقة ربح الثواب ، وأما من له الحق فإنه يتضرر من غير نفع يحصل له في مقابلته ، وذلك يدل على أن الأمر فيه أعظم .
مع أنه يمكن أن يذكر فيه معنى آخر ، وهو أن الحج قد ثبت بالدليل أنه على التراخي ، وهذه الحقوق على الفور ، والحج لا يفوت ، وهذه الحقوق تفوت ، والحج حق الله ، وهذه الحقوق للآدمي ، فربما يجري فيها زيادة مضايقة لحاجة الآدمي ، وليس الشروع في هذه المعاني من مقصودنا إنما مقصودنا : اقتباس هذه الأحكام من هذه الآية الواردة في معنى الاستطاعة .
وهاهنا نوع آخر من الكلام ، وهو أن الذين لا استطاعة لهم من المكلفين قسمان : أحدهما : إذا تكلف المشقة وحج وقع عن فرض حجة الإسلام ،
والآخر : إذا حج لم تقع عن حجة الإسلام : فالقسم الأول كالمرأة إذا سافرت دون محرم أو نسوة ثقات ، أو تكلف الماشي المشي ، أو المريض تكلف المشقة ، والقسم الآخر كالعبد يحج دون إذن مولاه ، فإنه لا يقع عن حجة الإسلام ، حتى إذا عتق وجبت حجة الإسلام ، مع أن القسمين على سواء في سقوط خطاب الأداء فيهما{[612]} .
وقد خالف في العبد قوم من السلف ، وحكى الرازي هذا المذهب عن الشافعي ، وهو منه غلط ، ولم يختلف قول الشافعي في هذا المعنى ، ولا عن أصحابه وجه على ما رواه عنه الرازي .
والفارق بين القسمين : إن كان من وصل إلى البيت ولزمه الحج ، كالفقير والمريض الذي سهل عليه ذلك العذر من العمل ، أو بسقط صاحب{[613]} الحق ، مثل المديون والأجير والزوج ، أو لصاحبه المحرم مثل المرأة ، فيلزمهم الحج ، فإذا حجوا بأنفسهم وقع الموقع ، فإنه يعلم بوجوب الحج عليهم عند حضور البيت ، أو رصا من له الحق أن امتناع الأداء عارض ، وأن الوجوب لولا العارض ثابت ، وإذا أدى{[614]} الحج ، فليس في منع الاعتداد به عن حجة الإسلام إضرار بالغريم ، فلا حج عليه ، فدل أن المانع في الخطاب ، وأن الخطاب قاصر عنه لنقص فيه ، بالإضافة إلى الحج ، فلا جرم لا يقع عن حجة الإسلام بحال .
فإن قال قائل : ولو وقع السؤال عن هذا وقيل : العبد إذا كان حاضراً في المسجد الحرام وأذن له السيد ، فلم لا يلزمه الحج ؟ قلنا هذا سؤال على الإجماع ، وربما لا يعلل ذلك ، ولكن إذا ثبت هذا الحكم بالإجماع ، استدللنا به على أنه لا يعتد بحجة في حال الرق على حجة الإسلام ، ولعل المعنى فيه : أن الرق ضرب على الكافر في الأصل ، ولم يكن حج الكافر معتداً به ، ولما ضرب عليه الرق ، ضرب عليه ضرباً مؤبداً ، فلم يكن في حالة الكفر أهلاً لأداء عبادة الحج ، ولما ضرب الرق المؤبد عليه ، تقاصر عنه الخطاب أبداً ، فلم يدخل تحت خطاب الحج بوجه .
وأما الفقر فعارض لا يدوم ، والمرض كمثل ، وقد سبق الخطاب ، وكذا المنكوحة ، فهذا هو السبب فيه .
نعم العبد لا جمعة عليه ، وإذا أداها سقط الفرض ، لأن عليه الظهر ، والجمعة قائمة مقامه ، وليس عليه شيء يقوم الحج مقامه ، وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما صبي حج ثم أدرك ، فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما أعرابي حج ثم هاجر ، فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم أعتق ، فعليه أن يحج حجة أخرى{[615]} " .
وهذا إذا صح أغنى عن تكلف كل معنى .
وظاهر قوله : { وللهِ عَلى النّاسِ حجُّ البَيْتِ } : الاكتفاء بحجة واحدة{[616]} .