قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }{[954]} الآية [ 43 ] : اختلف العلماء في المراد بالسكر بالآية :
فقال قائلون : هو السكران الذي لا يعلم حقيقته ، وهذا معتل من وجه : فإن الذي لا يعقل كيف ينهى .
فقيل في ذلك : أراد به النهي عن التعرض للسكر ، إذا كان عليهم فرض الصلاة ، والنهي على أن يعيدوها ، وهذا بعيد من وجه ، وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب ، ينافي دوامه ، وهذا حسن في إبطال هذا القول ، إلا أن يقال : إن ذلك نهي عن السكر ، وإزالة العقل بشرب القدر المسكر ، حالة وجوب الصلاة ، وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية ، كأنه تعالى قال : " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ، أي في حالة سكركم ، فلا وجه للتأويل .
الوجه الآخر : قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ{[955]} نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ، بل هو فاهم للخطاب ، وهذا بعيد ، فإنه إن كان كذلك ، فلا يكون منهياً عن فعل الصلاة ، بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه .
ومن أجل ذلك قال الحسن ، وقتادة ، في هذه الآية : فإنها منسوخة الحكم .
وعلى الجملة ، اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي الله عنه : وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة ، فتقديره : لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى ، فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق ، وتلويث المسجد ، ولذلك قال : { حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } ، يعني أن السكران ربما نزق{[956]} ، فتكلم بما لا يجوز له ، كما قال علي : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى .
فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة .
وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول ، ومن أجله عطف عليه قوله تعالى : { وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِري سَبِيل } ، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد .
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به الصلاة ، ولذلك قال : { حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون } والذي ذكرتم يعلم ذلك .
فيقال : هذا في ضرب المثل ، كالذي يقول للغضبان : اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول ، إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة .
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به أيضاً ، إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله : إلا عابري سبيل ، على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء ، فإنه يتيمم ويصلي ، فيتعين إضمار عدم الماء فيه ، وإذا عدم الماء في الحضر ، كان كذلك .
وأحسبه يقول : بنى على الغالب ، في أن الماء لا يعدم في الحضر ، فيقال : فالذي يتيمم ليس جنباً عندكم حتى يصلي صلوات التيمم ، وأحسبه يمنع هذا أيضاً ويكابر ، فيقال له : إن تيمم الجنب ، قد ذكره الله تعالى بعد هذا ، بل فصل فقال : { وإنْ كُنْتمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَموا صَعِيداً طَيِّباً{[957]} } .
وكيف يذكر المسافر والسفر ، ثم يذكر بعده من غير فصل ؟ وهذا واضح في بطلان قوله : وأما إذا أراد التيمم ، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم ، فذكر المرض وذكر السفر ، وذكر المجيء من الغائط ، وعدم الماء مطلقاً في أي موضع كان ، فكيف عنى بعابر السبيل المسافر هاهنا ، ولم يذكر عدم الماء ، وهو الشرط لا السفر ؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه ، ولأن الله تعالى قال : { حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } ، فأحال المنع على عدم العلم بالقول ، والسكران الطافح في سكره المغشي عليه تمتنع الصلاة عليه ، لأنه لا يعلم ما يقول ، بل لأنه محدث غير طاهر ، ولا ساجد ولا راكع ولا ناوٍ ، فدل أن الامتناع إنما نشأ من القول فقط ، وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق ، ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم ، لأن النائم لا يصلي ، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم ، ولا طهارة مع النوم .
وبالجملة ، كل ما اعترضنا به على الفصل الأول ، فهو متوجه هاهنا فاعلم .
فإن قيل : سبب نزول هذه الآية ، ما روي عن علي رضي الله عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوماً فشربوا من الخمر ، فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ : " قل يا أيها الكافرون " فالتبس عليه فأنزل الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكارَى } . . والجواب أن المراد به ما قلناه ، فإنه إذن التبس عليه ، وتلا بداخل المسجد ، حتى تكلم بما لا يجوز ، وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعاً ، والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد ، عرفوا أن كثيراً من السلف حملوا الآية على ما قلناه ، وإن كان منهم من خالف .
قال : ومذاهب السلف مستقصاة في كتب الأئمة ، وليس ذكرها متعلقاً بغرضنا ، إلا أن منهم من تعلق بما روي عن جسرة بنت دجاجة أنها قالت : " سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ، فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل لهم رخصة ، فخرج إليهم بعد فقال : وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب{[958]} " .
قال : فأمرهم بتوجيه البيوت الشارعة في المسجد ، صيانة للمسجد عن اجتياز الجنب ، لأنه لو أراد القعود ، لم يكن لقوله " وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد الحائض ولا جنب " معنى ، لأنه القعود منهم بعد دخول المسجد ، لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه ، فدل أنه إنما أمر بتوجيه البيوت ، لئلا يضطروا عند الجنابة إلى الاجتياز في المسجد ، إذا لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد .
والاعتراض على هذا ، أن الخبر لا يجوز أن يثبت ، فإن الغالب من أحوالهم المنقولة ، أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم ، ولأن المنع من المرور لو كان المقصود ، ولم يتأت لهم الاغتسال في بيوتهم ، لقال لهم : اتخذوا أبوابا تجتازون منها للاغتسال ، ويدل عليه أنه لو كان باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأفضى إلى المسجد وأبواب حجر نسائه ، وباب أبي بكر ، وباب عليَّ ، وقال : " سدوا هذه الخوخات{[959]} غير خوخة أبي بكر وعليَّ " ، وعلى أن الذي ذكره هذا القائل ، تسليم منه لجواز ذلك من قبل ، ويدعى نسخاً لا يصح وقوع النسخ به .
قوله تعالى : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ{[960]} } : قوله : " إن كنتم مرضى " يمنع{[961]} من الوضوء ، وأن يكون من مساس الماء خطر الهلاك أو فساد عضو ، وليس المراد به مطلق المرض إجماعاً ، وقد أطلق الله المرض في مواضع من كتابه ، وباطنه رخصاً مختلفة ، والمراد به الأمراض المختلفة ، لا نوع واحد من المرض ، فقال تعالى في موضع : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَر{[962]} } ،
والمراد ما يظهر أثره في منع الصوم ، وقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أًوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ{[963]} } وعنى به نوعاً آخر ، وهاهنا عنى بالمرض ، القروح التي تمنع إيصال الماء إلى الأعضاء ، ويخشى منه فساد عضو وهلاك الجملة ، أو طول الضنا على ما اختلف العلماء فيه .
ثم قال تعالى : { أوْ عَلىَ سفرٍ } : وبناء على الغالب ، ولا يشترط فيه السفر الطويل ، بل ما يسمى سفراً ، فإن عموم كتاب الله تعالى يدل عليه .
وفي اللفظ أيضاً خلاف ، والفرق بينهما عند من فرق مأخوذ من السنة ، وورد في تيمم المجروح أخبار ذكرها الفقهاء في كتبهم ، وهي صحيحة ، دالة على أنه يتيمم .
قوله تعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ } : اعلم أولاً أنه روي عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، " قبل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ{[964]} " . وروى إبراهيم التيمي عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ ، ربما فعله بي{[965]} " . وعن شبابة مولى عائشة رضي الله عنها قالت : ربما يلقاني{[966]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو خارج إلى الصلاة ، فيقبلني ثم يأتي المسجد ، فيصلي ولا يتوضأ ، كل ذلك رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق بأسانيده المتصلة في كتاب أحكام القرآن . وروى بإسناده عن الشعبي قال : قال علي : اللمس الجماع ولكنه كنى عنه .
وروى بإسناده عن عاصم الأحوال ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : الملامسة والمباشرة الجماع . وروى بإسناده عن عاصم الأحوال ، عن بكر بن عبد الله قال : قال ابن عباس : أن الله حي كريم يكنى عما شاء ، وإن المباشرة والرفث والتغشي والإفضاء والمسيس عنى به الجماع ، قال : والتغشي قوله : { فَلَما تَغْشَاهَا } ، والإفضاء : قوله { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلىَ بَعْضٍ{[967]} } . وروى بإسناده عن سعيد بن جبير ، قال : كنا على باب ابن عباس واختلفنا في الملامسة باليد ، ومن كان عربياً قال الجماع ، فخرج ابن عباس فقال : فيم يختصمون ؟ قالوا في الملامسة ، فمن كان عربياً قال الجماع ، ومن كان مولى قال اللمس باليد ، فقال : هو من فريق الموالي إن الله حكيم يكني ما شاء ، فكنى الجماع ملامسة ، وكنى الجماع مباشرة .
وأكثر القاضي إسماعيل في هذه الرواية ، وأسندها كلها عن الصحابة والتابعين .
واعلم أنه روي في مقابلة ذلك بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن عمر أنه قال : قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة ، ومنها الوضوء . وحديث القبلة منكر : قال إسماعيل بن إسحاق : حديث حبيب بن أبي ثابت في القبلة عرضه على نصر بن علي وعيسى بن شاذان ، فعجبوا منه وأنكروه . وهو مما يعتد به على حبيب بن أبي ثابت ، ومن يحس أمره يقول : أراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ، فغلط بهذا ، فهذا غاية ما قاله .
والذي يحمل الملامسة على الجماع يقول : إن الله تعالى ذكر الأحداث كلها بألفاظ هي كناية{[968]} ، فإنه ذكر الغائط وهو كناية ، فيظهر أن يكون هذا أيضاً كناية عن الجماع . وهذا يجاب عنه بأن الغائط كناية مشهورة غالبة في عرف الاستعمال حتى لا يعرف من المتعارف سواه ، والكناية في الجنابة الجماع ، فالجماع كناية عن اللفظ الأصلي الذي يستحي عن ذكره ، مثل الغائط كناية عن الفضلة المستقذرة ، فالله تعالى لم يكن عن سبب الجنابة باللفظ الأصلي الموضوع للكناية ، وإنما ذكر الملامسة ، وما اشتهر في العرف أن يكنى بها عن سبب الجنابة ، فلو أراد الكناية ، لذكر اللفظ الموضوع للكناية ، وهذا بين ظاهر لا غبار عليه{[969]} .
ومن وجه آخر : وهو أنه ذكر الغائط وهو سبب الوضوء دون الغسل ، فيظهر أن يكون قرينه سبب الوضوء ، لأنه تعالى أفرد الجنابة فقال : { وَلاَ جُنُبَاً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتى تَغْتَسِلُوا{[970]} } ، وذكر في موضع : " فاطهروا " وهو يعني الغسل . والمخالف يقول : ذكر الله تعالى الجنابة ولم يذكر سببها ، ثم ذكر بعد ذلك سبب الحدث ، وهو المجيء من الغائط ، فيشبه أن يكون قد ذكر سبب الجنابة ، والسبب الأصلي في الحدث خروج الغائط ، والأصلي في الجنابة الجماع ، فيشبه أن يكون قد جمع الله بينهما .
ومن وجه آخر ، وهو أن الله تعالى وتقدس ، قد بين حكم طهارة الجنب والمحدث عند وجود الماء ، فيشبه أن يتبين طهارتهما من عدمه ، ولا يكون ذلك إلا بحمل الملامسة على الجنابة ، ليكون قد بين أحوالهما عند عدم الماء ووجوده ، فأما عند وجوده ، فهو أنه ذكر السكر الناقض للطهارة والجنابة ، ثم ذكر عند عدم الماء حكم المحدث ، فيشبه أن يكون قد ذكر حكم الجنب أيضاً .
هذا ما ذكروه وهو ضعيف جداً ، فإن الله تعالى ذكر حكم السكران لا لإيجاب الطهارة ، ولكن للمنع من دخول المسجد ، كما ذكرناه ، وذكر الجنب على هذا الوجه ، فلم يكن فيه تعرض للطهارتين ، إذا لم يذكر ما يحتاج فيه إلى الطهارتين ، فإن دخول المسجد لا يحتاج فيه إلى الطهارتين ، إنما يحتاج فيه إلى إحداهما ، فلما فرغ من بيان دخول المسجد قال : { وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطهرُوا ، وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ{[971]} } ، تعرض للتيمم في حق المحدث ، لبيان حكم طهارته بعد الفراغ من أمر المسجد ، فلم يكن الحكم الثاني متعلقاً بالأول .
والدليل على ذلك ، اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب : فقال بعضهم : لا يصلي ولا يتيمم حتى يجد الماء ، لأن التيمم إنما ذكره الله تعالى مع ما يكون منه الوضوء ، ولم يذكر في موضع الجنابة ، وذهب قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الجنب يتيمم للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهم أن يقولوا : يجوز أن يكون ذلك في القرآن ولكنه يستدرك بالاجتهاد والنظر ، مثل ما بينا وجهه ، وليس كل ما في القرآن يكون جلياً يدركه كل واحد ، ولذلك لم يفهم كثير من الناس أن الجنب يصح صومه إذا أصبح جنباً ، حتى احتج ابن عباس بقوله تعالى : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } إلى قوله { حتى يَتَبَينَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ، ثُمَّ أَتِموا الصِّيَامَ إلىَ الليْلِ{[972]} } ،
فإباحة المباشرة إلى الصبح تقتضي وقوع الغسل بعد الصبح ، وهذا لم يفهمه غيره ، وهو في القرآن تحقيقاً .
واستدل بالقرآن في أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، إلى غير ذلك من احتجاجات غامضة بالقرآن ، فيجوز أن يكون هذا أيضاً في القرآن ولكنه لا يعرف قبل إعمال الفكر وإجالة الاجتهاد ، وهذا بيِّنْ .
وبالجملة ، هذا أقرب من أن يقال : إن الله تعالى ذكر طهارة الجنب والمحدث عند وجود الماء ، ثم يذكر طهارة المحدث عند عدمه ولا يذكر طهارة الجنب ، مع أن الإشكال في تيمم الجنب أعظم ، فإن فيه تسوية بين المحدث والجنب في الطهارة عند عدم الماء ، مع افتراقهما عند وجوده .
وقد ذكر محمد بن مسلمة في الآية التي تقارب هذه في سورة المائدة{[973]} تقديماً وتأخيراً ، يقتضي اشتمال كتاب الله تعالى على تيمم الجنب . وإذا قررنا ذلك زال هذا الخيال .
فقال محمد بن مسلمة قال الله تعالى : { يَا أَيُهَا الذِينَ آمَنُوا إذا قمتُمْ إلىَ الصَّلاَةِ{[974]} } ، الآية ، فإنما نسقها وسياقها فيما يرى ، والله أعلم : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من نوم ، أو وجاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، إلى قوله : إلى الكعبين ، وإن كنتم جنباً فاطهروا ، يعني بالماء . وقد فسره في موضع آخر : حتى تغتسلوا ، وإن كنتم مرضى أو على سفر ، ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ، ليكون ذاكراً للطهارتين عند عدم الماء ووجوده ، وفي القرآن تأخير وتقديم في قوله : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذينَ يستَنْبطونهُ منهم } إلى قوله : { إلا قليلاً{[975]} } ،
وقال الله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدَاً }{[976]} : فعلى هذا ، لولا فضل الله عليهم لاتبعوا الشيطان إلا قليلا ، يرجع إلى ما قال قبلها مما أمرهم أن يردوه إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر منهم وأخبرهم أنه يعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا ، فكان الاستثناء إلى هاهنا . ويكثر في القرآن التقديم والتأخير في النسق .
وروى مالك عن زيد بن أسلم ، مما دل على التقديم والتأخير ، فقال : قوله تعالى : { إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ } : معناه من المضاجع ، فالنوم بسبب الحدث ، والغائط وملامسة النساء : سببان آخران للوضوء ، مثل القيام من المضاجع ، فهذه أسباب ثلاثة .
وقوله : { وأَرْجُلَكُمْ } : نسق الوجه واليدين ، ومنصوب على ما تقدم من الفعل الواقع عليه في قوله : { فاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ } فأضمر ذلك ، فقوله : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطهرُوا } ، له موجب آخر غير المذكور ، فلا يجوز أن يذكر غسل الوجه واليدين موجباً للغائط المذكور بعده ، فليكن الموجب مقدماً على الموجب ، وهذا بين ، ولأنا لو لم نقدر هذا ، عددنا السفر والمرض حدثاً ، والغائط ولمس النساء ، وليس المرض والسفر حدثاً ، ولا هماً من أسباب الحدث .
الاعتراض عليه أن المخالف يقول : لا يمكن أن تحمل الآية على وجه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير ، فإنه تعالى قال { إذَا قُمْتُم إلى الصَّلاَةِ } محدثين ، من غير أن يذكر سبب الحدث ، ذكر الطهارة الصغرى ، ثم قال مطلقاً : { وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطهرُوا } ، من غير أن يكون ذاكراً لسبب الجنابة ، ثم قال : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ } ، فذكر السبب بعد ذكر المسبب ، وأراد أن يتعرض للسببين الأصليين اللذين يحصل بهما الحدثان ، فقال : { أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } ، والسبب الأصلي للجنابة الجماع ، والحدث خروج الخارج من السبيلين والنوم وزوال العقل حدث ، بناء على توهم خروج الخارج ، فرجع إليه ، وفي حق الرجل ، السبب الأصلي الجماع ، وخروج المنى ملحق به ، فهذا لا يحتاج إلى تقديم وتأخير ، بل يكون الكتاب مبيناً حكم الطهارتين عند وجوب السبب المطلق ، ومبيناً تفصيل السببين على الوجه الأصلي ، وهذا حسن بين . ويدل على أنه لا حاجة إلى التقديم والتأخير ، أنه إذا أمكن التقديم والتأخير في آية الطهارة المذكورة في سورة المائدة ، فلا يمكن ذلك في قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً{[977]} } .
ثم قال :{ وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ } :
وليس الذي تقدم هاهنا مما سن به نسق الخطاب في التقديم والتأخير ، ولأجل ذلك روى الأعمش عن أبي وائل ، قال : كنت جالساً مع أبي موسى وعبد الله بن مسعود فقال أبو موسى : أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً ، يتيمم ثم يصلي ؟ فقال عبد الله : لا يتيمم ، وإن لم يجد الماء شهراً ، ثم ذكر له حديث عمار{[978]} فرجع عنه ، وذكر أنه لم يرجع ، وقال : إن عمر لم يقنعه قول عمار ، وذكر أنه لو رخصنا لهم في ذلك ، استثقلوا الاغتسال عند وجود الماء وقنعوا بالتيمم . وهذا يدل على أنهم لو يروا في كتاب الله تعالى تيمم الجنب ، ولم يرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عماراً ، لكنه كما أرشد عمر إلى الآية السيف مع ما فيها من الإشكال .