قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبيِلِ اللهِ فَتَبَينوا وَلاََ تَقُولُوا لَمن أَلْقَى إلَيْكُم السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً } الآية [ 94 ] :
روي أن سبب نزول الآية ، أن سرية للنبي صلى الله عليه وسلم ، لقيت رجلاً ومعه غنيمات له ، فقال : السلام عليكم ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فقتله رجل من القوم ، فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : لم قتلته وقد أسلم ؟ فقال : إنما قالها متعوذاً ، فقال : هلا شققت عن قلبه ؟ وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم دينه إلى أهله ورد عليهم غنيماته{[1006]} . وهذا مما يحتج في قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام ، لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام .
ومقتضى الإطلاق ، أن من قال لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أو قال إني مسلم ، يحكم له بحكم الإسلام ، لأن قوله تعالى : { لمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً } ، إنما معناه لمن استسلم ، فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام ، فإذا قرئ السلام وهو إظهار تحية الإسلام ، فلا جرم قال علماؤنا : إنما نحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي سائر اعتقاده ، فإذا قال اليهودي أو النصراني : أنا مسلم لم يصر مسلماً ، لأنهم كلهم يقولون نحن مسلمون ، فهو كما قال أنا على الدين الحق .
نعم ، المشركون قالوا : لا نقول نحن مسلمون ، فحالهم في هذا خلاف حال اليهود والنصارى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها{[1007]} " ، وإنما عنى به المشركين ، لأن اليهود والنصارى يطلقون قول لا إله إلا الله ولا يتمانعون منه ، وإن لزمهم الشرك في التفصيل .
فقول : لا إله إلا الله ، إنما كان على إسلام مشركي العرب ، لأنهم كانوا لا يعترفون به إلا استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد بين الله تعالى ذلك فقال : { إنهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهَ يَسْتَكْبِرُون{[1008]} } ،
واليهود والنصارى يوافقون على إطلاق هذه الكلمة ، وإنما يخالفون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمتى أظهر مظهر منهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو مسلم ، حتى قال قائلون من أصحابنا : وإن هو قال محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحكم بإسلامه ، لإمكان أن يكون من العيسوية ، حتى يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكافة .
وقال قائلون : ولا بذلك أيضاً يصير مسلماً ، لأن فيهم من يقول محمد رسول الله إلى كافة الناس ، ولكنه سيبعث وما بعث بعد .
وإذا تبين ذلك ، فما لم يقل أنا بريء من اليهودية والنصرانية ، لا يصير مسلماً .
ومن أجل هذه الاعتبارات والشرائط ، صار من صار إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ، لأنا لم نعرف في حقه علماً يظهر به مخالفة مقتضى اعتقاده ، لأن دينه الذي يعتقده أن يدخل مع كل قوم فيما يهوونه ، وأن كل دين على اختلاف الأديان كلها ينجر باطنه إلى المخازي التي يعتقدونها ، فلم يظهر لنا منه ما يخالف مقتضى اعتقاده ، فكان كاليهودي إذا قال لا إله إلا الله .
وهذا دقيق حسن ، وقد شرحنا هذه المسألة من الأصول ومسائل الخلاف .
واعلم أن في الآية إشكالاً ، من حيث إن الله تعالى قال : { إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلاَ تَقُولُوا لَمنْ أَلْقَى إليكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً } .
قوله تعالى : { إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلاَ تَقُولُوا لَمنْ أَلْقَى إليكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً } . الآية [ 94 ] : وذلك يمنع جزم الحكم بإسلامه ، والتشكك من أمره ، من غير أن يحكم له بالكفر ولا الإيمان ، كالذي يخبر بالخبر ولا يعلم صدقة من كذبه ، فلا يجوز لنا تكذيبه ، وليس ترك تكذيبه مما يقتضي تصديقه ، كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية : ليس فيه إثبات الإيمان ولا الكفر إنما فيه الأمر بالتثبت حتى يتبين حاله ، إلا أن الآثار التي ذكرناها قد أوجبت الحكم بإسلامه ، فإنه عليه السلام قال : أقتلت مسلماً ؟ أو قتلته بعد ما أسلم .
وفيه أيضاً سرٌّ آخر ، وهو أنا ربما نقول إنا لا نعلم إسلامه الذي هو إسلام حقيقة عند الله تعالى ، وربما غلب على ظننا كذبه ، ولكن تجرى عليه أحكام الإسلام .