قوله تعالى : { وإذَا قُرِىءَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا } : الآية :[ 204 ] :
قد اختلف الفقهاء في القراءة خلف الإمام ، فقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح : لا يقرأ فيما جهر ولا فيما أسر .
وقال مالك : يقرأ فيما أسر ولا يقرأ فيما جهر ، وهو قول للشافعي ، رواه المزني عنه . وروى البويطي عنه ، أنه يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فيما يسر فيه ، ولا يقرأ فيما يجهر فيه إلا بفاتحة الكتاب .
وإذا ثبت ذلك ، كأن هؤلاء الفقهاء اتفقوا على أن الإنصات مأمور به ، فإنا رأيناهم يأمرون بالإنصات فيما يجهر ، ويتركون لأجله إما الفاتحة وإما السورة ، أما أبو حنيفة ليس يترك القراءة خلف الإمام لغرض الاستماع فإنه يقول فيما أسر فيه الإمام لا يقرأ المأموم ، ولأن عنده مقدار الواجب من القراءة آية حقيقة ، وذلك يمكن قراءته بعد الإنصات وسماع قراءة الإمام ، أو حال هوى الإمام إلى الركوع ، ولم يقل أحد إنه يترك دعاء الاستفتاح لقوله : { وأنصِتُوا } ، ولا يترك تكبيرات الصلاة لقوله : { أنصِتُوا } ، ولا أن أحداً يفهم من هذا ، أن الواحد منا إذا كان يقرأ القرآن ، فلا يجوز لغيره أن يقعد معه ويقرأ ، ولا يجوز في المجلس الواحد أن يقرأ جماعة ، كل واحد منهم يقرأ لنفسه ، فإذا لم يكن للآية تعلق لا يمنع الناس من قراءة القرآن ، لغرض استماع القرآن في غير الصلاة ، ولا للآية أيضاً دلالة على منع قراءة الأذكار ، لغرض استماع القرآن في الصلاة ، فمن أين دلت الآية على منع القراءة ، لا لغرض الاستماع مع إسرار الإمام في الصلاة ؟
وقد اعتقد كثير من الناس أن هذه الآية نصاً ، وقال عبد الجبار بن أحمد في كتاب فوائد القرآن ، وهو مشهور بانتحال مذهب الشافعي في الفروع : إن دلالة ظاهر الآية قوية ، وصرح بهذه العبارة التي ذكرناها في الفروع .
وعندنا أن من فهم معنى الآية ، وفهم الوجوه التي ذكرناها ، لا يرى للآية تعلقاً بما نحن فيه .
وللآية محامل : منها أن الناس كانوا يكثرون اللغط والشغب في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويمنعون الأحداث من سماعها تعنتاً وعناداً على ما حكى الله عن الكفار حيث قال : { وقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسمَعُوا لِهَذا القُرآنِ والغَوا فيهِ لَعَلّكُم تَغْلِبُونَ{[1332]} } ، فأمر الله تعالى المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا ، ومدح الله الجن على ذلك فقال : { وإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَراً مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآن فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنذِرِينَ{[1333]} } .
ويدل على ذلك أن الله تعالى أمر بالاستماع ، وأمرَ بالإنصات بعده ، فلا يخفى على عاقل أن الإنصات للاستماع ، وإنما يجب الاستماع متى وجب الإسماع والتبليغ ، وإنما وجب ذلك فيما ذكرناه من تبليغ الوحي ، فأما ما يقرؤه الإنسان لنفسه ، فلا تعلق له بذلك .
نعم ، يندب المأموم إلى أن لا يجهر بالقراءة خلف الإمام إذا جهر ، حتى لا تثقل عليه القراءة ، فهذا هو القدر المندوب إليه ، وإذا لم يجب على الإمام الإسماع ، وليس في الاستماع غرض لأجله يجب الإسماع ، فمن أين يجب الاستماع لما لا يجب إسماعه ؟
ولو قال قائل مطلقاً : لا يجب على المرء أن ينصت ويسمع قراءة القرآن ، كان صدقاً ، وإنما هذا الذي قالوه في الصلاة . ولئن قال قائل : إن الإنصات لتبليغ الوحي لا يختص بالقرآن ، وكذلك إن حمل حامل الآية على الخطبة ، فالاستماع للخطبة لا يختص بالقرآن ، فالذي ذكرتموه يختص بلا دليل .
فيقال لهم : وأنتم أيضاً خصصتم بلا دليل ، فإنه قال : وإذا قرىء القرآن ، وليس يجب الاستماع في غير الصلاة ، فالذي ذكرتموه يخصّصُ بلا دلالة .
وقال كثير من أصحاب الشافعي : إن المأموم يتحرى وقت سكتة الإمام ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان في صلاته ، فإن تعذر ذلك فيقرأ وقت قراءته سرّاً . وقال آخرون منهم : معنى الإنصات ، لا يجهر بالقراءة منازعاً للإمام ، وإذا أخفى ذلك لم يخرج عن الإنصات .
وقد قيل : المراد به السكوت ، حتى لا يقرأ البتة إلا عند فراغ الإمام .
وقال هؤلاء : لأجل ذلك أمر المأموم بتأخير القراءة عن حال الجهر أو تقديمه ، وذلك إجماع .
واعلم أن الذي يوجب تأخير القراءة ، ليس يوجب بدليل الآية على وجوب استماع قراءة القرآن مطلقاً ، فإن دلالة الآية في الصلاة وغيرها واحدة ، وإنما يقول ذلك ليجمع بين سماع المتدبرين وإنصات المعتبرين وقراءة المصلين ، وإذا لم تكن القراءة في حالة سكتة الإمام ، فالقراءة أولى ، كما يكبر ويقرأ دعاء الاستفتاح ، ولا يترك المفروض من القراءة لمكان فضيلة الجماعة ، فهذا هو التأويل الظاهر .
وبالجملة ، لا يخفى على عاقل أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالاستماع والإنصات ، فإنما أمر به ليكون داعياً إلى ترك باطل من اللهو والهزء وأشغال الدنيا ، لا ليكون ذلك داعياً إلى ترك مفروض عند الله تعالى عز وجل ، وهذا بين ، ويدل عليه ما روي عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه ، فإذا قال بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا مثل ما يقول ، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ، فنزل قوله تعالى : { وإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فاستَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُم تُرْحَمُونَ{[1334]} } ، وهذا يدل على أن المعين بالإنصات ، ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة في هذه الآية : كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيقول : كم صليتم ؟ كم بقي ؟ فأنزل الله تعالى : { وإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فاستَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُم تُرْحَمُونَ{[1335]} } .
وعن مجاهد قال : كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجاتهم فنزل قوله :
{ وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُم تُرْحَمُونَ{[1336]} } .