قوله تعالى : { واعلَمُوا أَنّما غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ } ، الآية :[ 41 ] ، وقال في آية أخرى : { فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً{[1349]} } :
قال ابن عباس ومجاهد : إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : { قُلِ الأَنْفَالُ للهِ والرَّسُولِ } ، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام ، جعل ينفل ما أحرزوه بالقتال لمن شاء ، ولم يكن لأحد فيه حق ، إلا من جعله الرسول له ، وذلك كان في يوم بدر ، وقد روينا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقال : إنك سألتني هذا السيف ، وليس هو لي ولا لك ، ثم نزل : { قُلِ الأَنْفَالُ للهِ و الرَّسُولِ } ، فدعاه فقال : " إنك سألتني هذا السيف ، وما كان لي ولا لك ، وإن الله تعالى جعله لي وجعلته لك{[1350]} " .
وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال : لما كان يوم بدر ، تعجل ناس من المسلمين ، فأصابوا من الغنائم ، فقال رسول الله عليه وسلم : " لم تبح الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم ، كان النبي إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم ، فتنزل نار من السماء فتأكلها " فأنزل الله تعالى : { لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُم فِيمَا أَخّذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ ، فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً{[1351]} } : يقتضي ظاهره أن تكون الغنيمة للغانم فقط ، وأن يكونوا مشتركين فيها على سواء ، إلا أن قوله تعالى : { واعلَمُوا أَنّمَا غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ } ، بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة ، ثم بعده يخلص للقائمين بعد الصفي والسلب والعطايا المتقدمة ، ولولا الأخبار المأثورة لكان الفارس كالراجل ، والعبد كالحر ، والصبي كالبالغ .
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله : { غَنِمْتُم مِنْ شَيءٍ } : مال الكفار ، إذا ظهر به المسلمون على وجه الغلبة ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص ، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع : وسمى الشرع الواصل إلينا من الكفار من الأقوال باسمين : أحدهما : الفيء ، وهو الذي يصل إلينا من الكفار من غير حرب ، كالجزية والخراج الحق ، ثم إن الله تعالى كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين ، أضاف الفيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهلِ القُرَى{[1352]} } ،
فاقتضى ظاهر الآية ، أن يجعل بعد إخراج الخمس أربعة أخماس ، والفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يختص الغانمون بأربعة أخماس الغنيمة ، فإنه تعالى قال : { مَا غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ } ، وقال : { فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً } ، فاقتضى ظاهره أن يكون كله له ، خص منه البعض ، بقي الثاني على مقتضى الإضافة ، وهذا حسن بين .
ومن جملة الفيء ، مال المرتد إذا قتل على الردة ، ومال الكافر غنيمة إن كان وصوله إلينا بقهره وقتله ، فإن مات من غير قتال ، فوجدنا ماله فهو فيء .
وإذا ثبت القول في أربعة أخماس الفيء والغنيمة فنقول : أما الخمس ، فإن الذي لا خلاف فيه ، أن لليتامى والمساكين وابن السبيل حقاً باقياً في خمس الغنيمة .
واختلف الناس بعد الثلاثة في قوله : { للهِ ولِلرَّسُولِ ولِذي القُرْبَى{[1353]} } ، فأما قوله : { فَأَنَّ للهِ خُمسَهُ } : فأكثر العلماء على أنه استفتاح كلام ، وأن لله تعالى الدنيا والآخرة ، وروى الطحاوي عن أبي العالية ، أن سهم الله تعالى مصروف في نفقات الكعبة ، والذي ذكره بعيد ، فإنا إن أقررنا سهماً لله تعالى ، أدى ذلك إلى أن يكون الخمس مقسوماً على ستة ، فعلى هذا يجب أن نقول : فأن لله سدسه ، ولأنه ليس بأن يجب صرفه إلى بيت الله تعالى بأولى من صرفه إلى أولياء الله . . نعم قد قال تعالى : { فَأنّ للهِ خُمسَهُ } ، يعني كل ذلك الخمس يصرفه فيما شاء ، وأراد لا أن له البعض دون البعض ، ولا يجوز أن يعتقد من الإطلاق ، كون مال الفيء مشتركاً بين الله وبين غيره .
وأما سهم الرسول ، فقد كان له الخمس من خمس الغنيمة ، فيصرفه في كفاية أولاده ونسائه ، ويدخر من ذلك قوت سنة ، وما يفضل يصرفه إلى الكراع والسلاح وغير ذلك من المصالح . وقال الشعبي : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من الغنائم لنفسه شيئاً قط ، إلا الصفي من المغنم ، وهو ما كان يتناوله من عبد أو أمة أو فرس ، حكى الطحاوي ذلك عن الشعبي ، وذكر عنه أن سهمه من الغنيمة ، كان كسهم رجل من المسلمين وراء ما خص به من الصفي .
والظاهر يدل على أن الخمس مشترك بين رسول الله وبينهم ، ولا يمكن أن يقال إن الصفي من جملة ذلك ، فإن الصفي كان يتناوله من جملة الغنيمة قبل القسمة ، فهو حق ، سوى هذا الخمس المذكور ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضر الوقعة ما لسائر من حضرها من أربعة أخماس الغنيمة .
واختلفوا في سهمه ، فقال الطحاوي : إن طائفة قالت : هو للخليفة بعده ،
وقالت أخرى : يصرف في الحمل والعدة في سبيل الله ، وطائفة قالت : بل زال بموته .
ولا يدل الظاهر على أكثر من استحقاقه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يدل على مصرف من هذه المصارف بعده ، وقد دل الدليل على أن ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم المستقر في حالة حياته لا يورث عنه ، فلأن لا يورث عنه ما يتجدد من الغنيمة ولا يوجد سبب ملكه أولى .
ولا دليل على قيام الإمام مقامه بعده ، لأنه اختص به لمنصب النبوة ، كما اختص بالصفي من المغنم ، وأقرب شيء يتخيل فيه صرفه في الكراع والسلاح ، بدلالة أنه عليه السلام كان يصرف الفاضل من الخمس في هذا الوجه .
والجواب : أنه كان يصرفه اختياراً لا استحقاقاً ، ولو ثبت أنه كان يصرفه إلى هذا الوجه استحقاقاً ، لقرب أن يقال : إن الأولى بهذا السهم هذا الوجه ، فعلى هذا الأقرب ، أنه يصرف خمس الخمس إلى الباقين ، قياساً على الصدقة الواجب صرفها إلى الأصناف ، إذا تعذر صنف وجب صرفه إلى الباقين .
فعلى هذا قال الشافعي : يقسم الخمس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة ، وهذا مذهب الشافعي ، فإنه قال : إن لبني هاشم وبني عبد المطلب سهماً من الخمس . وقال أبو حنيفة : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم : على اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وخالفه أبو يوسف . وقال قائلون : هو لفقرائهم عوضاً عما حرموا من الصدقة . وقال آخرون : هو للفقراء والأغنياء منهم .
ثم إن الذين أثبتوا لهم الاستحقاق اختلفوا : فمنهم من قال : يقسم قسمة الغنيمة على التساوي ، ومنهم من قال : يقسم كقسمة المواريث ، فإنه مال مستحق بالقرابة .
والظاهر تعلق الاستحقاق بالقرابة ، إلا أن القرآن ورد بذكر ذي القربى ، وقد صار بعض السلف لأجله ، إلى أنه لجميع قريش ، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط من ذلك من انتمى إليه بالقرابة مطلقاً ، والمراد به الخصوص ، وليس يتأتى تعليله بالقرابة المطلقة ، لأن سعيد بن المسيب ، روى عن جبير بن مطعم ، أنه وعثمان جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمانه فيما قسمه من خمس الخمس بين بني هاشم وبني المطلب ، فقالا : يا رسول الله ، قسمت لإخواننا بني المطلب وقرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال : " إنما أرى هاشماً والمطلب شيئاً واحداً{[1354]} " ،
وروى أنه قال : " إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام{[1355]} " .
فلم يعط لبني أمية ولا لبني نوفل شيئاً ، وقرابتهم كقرابة بني المطلب ، وهذا يدل على التخصيص . فعلى هذا ، رأى أبو حنيفة استحقاقهم بالنصرة في حياة رسول الله .
وقال آخرون : لا بل لا استحقاق لهم إلا بالفقر ، إلا أن ذكر ذوي القربى مع أن الفقر مستقل ، كذكر اليتامى ، ولا يصرف إلى اليتامى إلا إذا كانوا فقراء ، ولا فرق . . . ولا معنى لقول من يقول : إن اليتم عبارة عن الحاجة ، فإن اليتم عبارة عن الحاجة إلى الكافل لا إلى المال ، وليس في اسم اليتم ما يدل على عدم المال ، ولعلهم يقولون : إنما ذكر ذوي القربى مع أن الفقر شرط ، حتى لا يتوهم متوهم ، أنهم كما فارقوا الفقراء من المسلمين في أن لا تصرف الصدقات إليهم مع الفقر ، فكذلك الخمس ، فقطع الشرع هذا الاحتمال ، وهذا محتمل ، ويصرف إلى اليتامى مع أن الفقر شرط ، والمقصود من ذكره أن الخمس يقسم على أربعة أسهم عند الشافعي ، وعلى ثلاثة عند أبي حنيفة ، ولا بد من الصرف إلى هذه الأجناس .
والمقصود من ذكرها مع اشتراط الفقر فيها ، تعديد جهات الحاجات واستيعابها ، فأما الأربعة أخماس ، فظاهر القرآن يقتضي أنها لمن غنمه .
وقوله : { مَا غَنِمتُم } : يشتمل الرقاب والعقار ، إلا أن الرقاب الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف ، وفي الديار اختلف العلماء فيها وليس في كتاب الله تعالى تفضيل للفارس على الراجل ، بل فيه أنهما على سواء .
وفي المأخوذ على جهة التلصص ، اتفق العلماء على أنه لا تخميس ، وظاهر القرآن يقتضي تخميس كل مغنوم ، وذلك يستوي فيه هذا وما سواه . وظاهر اللفظ أيضاً يقتضي التسوية فيه بين الصبي والبالغ ، إلا أن الدليل قام على أن الصبي يرضخ له .
واعلم أن ظاهر قوله : { واعْلَمُوا أن مَا غَنِمْتُم مِنْ شيءٍ } ، ربما لا يظهر عند الناس في تعارف اللغة ، أن من استولى على مثله فقد غنمه ، وأنه يصرف خمسه إلى كذا وكذا ، في أن الحرية تسلب عن المسترق ، وإنما ظهر ذلك بعرف الشرع ، وعرف الشرع دل على أن الغنيمة اسم للمأخوذ من الكفار بطريق القهر ، ولا يدل على أخذ أنفسهم من حيث عرف اللغة ، وفي الشرع ، الإمام على التخيير بين الخلال التي بينها الفقهاء .