قوله تعالى : { إنَّ عِدَّةَ الشهُورِ عِندَ اللهِ اثنَا عَشَرَ شَهراً في كِتَابِ اللهِ } . الآية :[ 36 ] :
وظاهر ذلك يدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور والسنين ، من عبادات وغيرها ، بالأشهر العربية دون الشهور التي يعتبرها العجم والروم ، وإن شهور الروم وإن لم تزد على اثني عشر ، ولكنها مختلفة الأعداد ، منها ما يزيد على ثلاثين ، ومنها ما ينقص . وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين ، ومنها ما ينقص ، والذي ينقص لا يتعين له شهر ، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب سير القمر في البروج ، ثم قال تعالى : { مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ، ولا خلاف أن هذه الأربعة الحرم لها ضرب من الاختصاص ، وأنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
وإذا خصها الله تعالى بأنها حرم ، فلا بد أن يكون لهذا الاختصاص معنى ، وليس يظهر ذلك المعنى في حكم سوى المقابلة ، وقد نسخ ذلك ، أو تحريم القتل ، حتى إن الدية تتغلظ بالأشهر الحرم ، فهذا وجه التخصيص .
قوله تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم } ، على قول ابن عباس هو راجع إلى الجميع ، على قول بعضهم هو راجع إلى الأشهر الحرم خاصة ، ومن يخصص بالأربعة يقول لأنها إليها أقرب ولها مزية تعظيم الظلم .
قوله تعالى : { يَوْمَ خَلَقَ السّمَواتِ والأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } : فيه دليل على أن الله تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها ، على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض ، وأنزل الله ذلك على أنبيائه في الكتب المنزلة ، وهو معنى قوله تعالى : { إنَّ عدَّةَ الشهُورِ{[1422]} عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَّ شَهْراً } ، وحكمها باق على ما كانت عليه ، ثم نزلها عن مرتبتها تغير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر ، وتأخير المقدم ، في الاسم فيها ، والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى فيها ، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها ، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة : " أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض{[1423]} " .
وإن الذي تجعله الجاهلية ، من جعل المحرم صفراً وصفر محرماً ، ليس يغير ما وضعه الله تعالى ، والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهراً ، ليس على ما توهموه ، لأن الله تعالى لم يضع غير اثني عشر شهراً ، فهذا وجه .
ويحتمل أن يكون قوله في كتاب الله ، أن الله تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسماً ، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر ، قسماً منها ، فيكون قطعها للفلك في ثلث مائة وخمس وستين يوماً وربع يوم ، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام الثلاثين يوماً وكسر ، وقسم الأزمنة أيضاً على سير القمر ، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة ، وعشرين يوماً ونصف ، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وربع يوم ، واختلفت سنة الشمس والقمر ، مع اتفاق أعداد شهورها ، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوماً بالتقريب ، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين ، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوماً حكم ، وكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق ، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع ، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفاً وخريفاً وربيعاً ، فاقتضاهم ذلك أوضاعاً مختلفة ، فوضعت الروم اثني عشر شهراً ، بعضها ثمانية وعشرون ، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف ، وبعضها أحد وثلاثون ، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهراً واحداً ، وهو أبا زماه ، فإنه خمسة وثلاثون ، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهراً كاملاً ، فتصير السنة ثلاثة عشر شهراً ، فأما أشهر العرب ، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون ، وأبطل الله تعالى كبسه الفرس ، وجعلها ثلاثة عشر شهراً في بعض السنة ، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام ، وصارت الشهور التي لها أسامي لا تؤدي الأسماء معانيها ، لأنها تارة تكون في الصيف ، وتارة تكون في الشتاء ، وأراد الله تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة ، وفي التغليظ أخرى ، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف .