الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إذَا وُجِدَ الْفِعْلُ فِي الْآدَمِيِّ مَعَ خَلْقِ الْإِرَادَةِ فِيهِ كَانَ طَوْعًا ، وَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ كَانَ كَرْهًا ، وَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَقْوَالٍ ، جُمْهُورُهَا أَرْبَعَةٌ :
الْأَوَّلُ : الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا ، وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ خَوْفَ السَّيْفِ ؛ فَالْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ آمَنَ طَوْعًا من غَيْرِ لَعْثَمَةٍ .
وَالثَّانِي : الْكَافِرُ يَسْجُدُ لِلَّهِ ، إذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } يُرِيدُ عَنْهُ وَعَبَدْتُمْ غَيْرَهُ .
الثَّالِثُ : قَالَ الصُّوفِيَّةُ : الْمُخْلِصُ يَسْجُدُ لِلَّهِ مَحَبَّةً ، وَغَيْرُهُ يَسْجُدُ لِابْتِغَاءِ عِوَضٍ ، أَوْ لِكَشْفِ مِحْنَةٍ ، فَهُوَ يَسْجُدُ كَرْهًا .
الرَّابِعُ : الْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاجِدٌ ، إلَّا أَنَّهُ مَنْ سَجَدَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ طَوْعٌ ، وَمَنْ سَجَدَ بِحَالِهِ فَهُوَ كَرْهٌ ؛ إذْ الْأَحْوَالُ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ ذِي الْحَالِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا مَنْ سَجَدَ لِدَفْعِ شَرٍّ فَذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ ، هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالطَّاعَةِ ، وَوَعَدَنَا بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا ، وَنَهَانَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَأَوْعَدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا حَالُ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يَتَكَلَّفُ فِيهَا تَعْلِيلًا إلَّا نَاقِصُ الْفِطْرَةِ قَاصِرُ الْعِلْمِ ؛ وَغَرَضُ الصُّوفِيَّةِ سَاقِطٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَمَا عَبَدَ اللَّهَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، وَلَا وَلِيٌّ مُكَمَّلٌ إلَّا طَلَبَ النَّجَاةَ .