الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ من بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضٍ من أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ كَبِيرَةٌ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهَا إيمَانٌ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ، وَالْكَافِرُ أَوْ الْمُرْتَدُّ هُوَ الَّذِي جَرَى بِالْكُفْرِ لِسَانُهُ ، مُخْبِرًا عَمَّا انْشَرَحَ بِهِ من الْكُفْرِ صَدْرُهُ ، فَعَلَيْهِ من اللَّهِ الْغَضَبُ ، وَلَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ، إلَّا مَنْ أُكْرِهَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَذَكَرَ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ عَنْ إكْرَاهٍ ، وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَى ذَلِكَ قَلْبَهُ ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ ، مَعْذُورٌ فِي الدُّنْيَا ، مَغْفُورٌ فِي الْأُخْرَى .
وَالْمُكْرَهُ : هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَلَّ وَتَصْرِيفَ إرَادَتِهِ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا الْمُحْتَمِلَةِ لَهَا ، فَهُوَ مُخْتَارٌ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ فِي مَجَالِ إرَادَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُذِفَ لَهُ من مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَةِ مَا كَانَ تَصَرُّفُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ ، وَسَبَبُ حَذْفِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ ؛ فَالْقَوْلُ هُوَ التَّهْدِيدُ ، وَالْفِعْلُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ ، أَوْ الضَّرْبُ ، أَوْ السَّجْنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ من ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّهْدِيدِ ، هَلْ هُوَ إكْرَاهٌ أَمْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إكْرَاهٌ ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ الظَّالِمَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك ، أَوْ ضَرَبْتُك ، أَوْ أَخَذْت مَالَك ، أَوْ سَجَنْتُك ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ إلَّا اللَّهَ ، فَلَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ الْإِثْمَ فِي الْجُمْلَةِ ، إلَّا فِي الْقَتْلِ ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ ؛ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ ، فَإِنَّهُ أَلْزَمَهُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَةٌ خُلُقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا إكْرَاهٌ ، وَلَكِنَّهُ غَفَلَ عَن السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ ، فَلَمْ يَحِلَّ بِصَوَابٍ من عِنْدِهِ .
وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَلْفِظَ بِلِسَانِهِ ، وَقَلْبُهُ مُنْشَرِحٌ بِالْإِيمَانِ ، فَإِنْ سَاعَدَ قَلْبُهُ فِي الْكُفْرِ لِسَانَهُ كَانَ آثِمًا كَافِرًا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا سُلْطَانَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِنَّمَا سُلْطَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ من عُلَمَائِنَا : إنَّهُ إذَا تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا جَرَيَانَ الْمَعَارِيضِ ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا . وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ أَيْضًا لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا ، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : اكْفُرْ بِاَللَّهِ ، فَيَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ ، يُرِيدُ بِاللَّاهِي ، وَيَحْذِفُ الْيَاءَ كَمَا تُحْذَفُ من الْغَازِي وَالْقَاضِي وَالرَّامِي ، فَيُقَالُ : الْغَازِ وَالْقَاضِ والرام . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُ : اُكْفُرْ بِالنَّبِيِّ ، فَيَقُولُ : هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّبِيِّ الْمَكَانَ الْمُرْتَفِعَ من الْأَرْضِ .
فَإِنْ قِيلَ لَهُ : اُكْفُرْ بِالنَّبِيءِ مَهْمُوزًا ، يَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِالنَّبِيءِ بِالْهَمْزِ ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُخَبِّرَ أَيَّ مُخَبِّرٍ كَانَ ، أَوْ يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ :
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى *** مَكَانَ النَّبِيءِ من الْكَاثِبِ
وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ من زَمَنِ فِتْنَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ : الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ يُعَدِّدُهُنَّ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَخْلُوقَةٌ ، يَقْصِدُ هُوَ بِقَلْبِهِ أَصَابِعَهُ الَّتِي عَدَّدَ بِهَا ، وَفَهِمَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمُنَزَّلَةَ من اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، فَخَلَصَ فِي نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَضُرَّهُ فَهْمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ .
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ ، فَجَاءَ بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا ، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا من أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا ؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاقِعَ اعْتِدَاءً يُمَاثِلُ الْقَتْلَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَافِلَ عَنْ سَبَبِهِمَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاجُ فِي الْفَرْجِ عَنْ نِكَاحٍ ، يُمَاثِلُ الْإِيلَاجَ عَنْ سِفَاحٍ فِي اللَّذَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ ، إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِذْنُ ؛ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الَّذِي يَصْدُرُ عَن الْإِكْرَاهِ يُمَاثِلُ الصَّادِرَ عَن الِاخْتِيَارِ ؛ وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذْنُ الشَّرْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَحَجْرُهُ فِي الْآخَرِ ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ جَائِزًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يُفْتَتَنْ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَطُولُ سَرْدُهَا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِذْنُ وَخَصَّهُ من اللَّهِ رِفْقًا بِالْخَلْقِ ، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ ، وَلِمَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ من السَّمَاحَةِ ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَذْكُرَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ :
الْأُولَى : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَأُمِّهِ سُمَيَّةَ ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، وَقَوْمٍ أَسْلَمُوا ، فَفَتَنَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ ، فَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَافْتُتِنَ بَعْضُهُمْ ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يَصْبِرْ بَعْضٌ ، فَقُتِلَتْ سُمَيَّةُ ، وَافْتُتِنَ عَمَّارٌ فِي ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الثَّانِيَةُ : قَالَ عِكْرِمَةُ : نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَخْرَجَهُمْ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ كُرْهًا فَقُتِلُوا . قَالَ : وَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } .
الثَّالِثَةُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ ، وَصُهَيْبٌ ، وَسُمَيَّةُ ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ ، وَأَوْقَفُوهمْ فِي الشَّمْسِ ، فَبَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْدُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ ، من حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ ، فَلَمَّا كَانَ من الْعِشَاءِ أَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ ، وَمَعَهُ حَرْبَةٌ فَجَعَلَ يَشْتُمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ ، ثُمَّ أَتَى سُمَيَّةَ فَطَعَنَ بِالْحَرْبَةِ فِي قُبُلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ من فَمِهَا ، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اُسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : مَا سَأَلُوهُمْ إلَّا بِلَالًا ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ، فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ، وَهُوَ يَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ ، حَتَّى مَلُّوهُ ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ ، وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا من لِيفٍ ، وَدَفَعُوهُ إلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ ، حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ ، فَقَالَ عَمَّارٌ : كُلُّنَا قَدْ تَكَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالُوا لَهُ ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَنَا ، غَيْرَ بِلَالٍ ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ ، فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ ، حَتَّى تَرَكُوهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَؤُلَاءِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا سَمَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفْرِ بِهِ ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، عِنْدَ الْإِكْرَاهِ ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ ، حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : ( رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ) .
وَالْخَبَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ من الْعُلَمَاءِ ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلَ : مِنْهَا : قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي حَدِّ الزِّنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ فِيهِ أَكْثَرَ من الرِّضَا ، وَلَيْسَ وُجُودُهُ بِشَرْطٍ فِي الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ . وَهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ ، رَاضٍ بِهِ ، وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّلَاقِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ ظُلْمًا اسْتِبْقَاءً لِنَفْسِهِ ، فَقُتِلَ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ الْجَمَاعَةُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٌ : لَا يُقْتَلُ ، وَهِيَ عَثْرَةٌ من سَحْنُونٍ وَقَعَ فِيهَا بِأَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي تَلَقَّفَهَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ ، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ ، وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَثْلَمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ ) . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَكُفَّهُ عَن الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ ) .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : من غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَنَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ ، هَلْ يَقَعُ بِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عِرَاقِيَّةٌ سَرَتْ لَنَا مِنْهُمْ ، لَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَلَا كَانُوا هُمْ ، وَأَيُّ فَرْقٍ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَبَيْنَ الْحِنْثِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَاجِعُوا بَصَائِرَكُمْ ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا وَصْمَةٌ فِي الدِّرَايَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهِ لِمَا لَا يَحِلُّ أَسْلَمَهَا ، وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ دُونَهَا ، وَلَا احْتَمَلَ إذَايَةً فِي تَخْلِيصِهَا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَيُّوبَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَاجِبٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ أَبُو الزِّنَادِ عَن الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَاجَرَ إبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ ، وَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ من الْمُلُوكِ ، أَوْ جَبَّارٌ من الْجَبَابِرَةِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ بِهَا ، فَقَامَ إلَيْهَا ، فَقَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي ، فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت آمَنْت بِك وَبِرَسُولِك فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ ) .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ عِنْدَ الْإِبَايَةِ من الِانْقِيَادِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ شَرْعًا تَنْفُذُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا . وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( انْطَلِقُوا إلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ ، حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا . فَقَالُوا لَهُ : قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ . فَقَالَ : ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ ، فَقَالُوا : قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْض لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ من قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ ، وَمِنْ حُكْمِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمَلِهِ نَظَائِرُ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَيْعِ الْمُضْطَرِّ أَحْكَامٌ ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .