الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّك لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، أَيْ : فُرِضَ تَعْظِيمُ يَوْمِ السَّبْتِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ؛ هُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَغَ من خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ سَبَّتَ يَوْمَ السَّبْتِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ ، فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِ غَيْرِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَلُّوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَا الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ؟
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ ، وَحَرَّمَهُ آخَرُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : كَانُوا يَطْلُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَخْطَئُوهُ ، وَأَخَذُوا السَّبْتَ ، فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ .
وَقِيلَ : فِي الْقَوْلِ الرَّابِعِ : إنَّهُمْ أُلْزِمُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا ، فَخَالَفُوا وَقَالُوا : نُرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ فِيهِ من خَلْقِ السَّمَوَاتِ .
الْخَامِسُ : رُوِيَ أَنَّ عِيسَى أَمَرَ النَّصَارَى أَنْ يَتَّخِذُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا ، فَقَالُوا : لَا يَكُونُ عِيدُنَا إلَّا بَعْدَ عِيدِ الْيَهُودِ ، فَجَعَلُوهُ الْأَحَدَ .
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ : تَفَرَّغُوا إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ تَعْبُدُونَهُ ، وَلَا تَعْمَلُونَ فِيهِ شَيْئًا من أَمْرِ الدُّنْيَا ؛ فَاخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ ، فَأَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ ، فَأَبَوْا إلَّا السَّبْتَ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الَّذِي يُفَصِّلُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ) .
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَهَذَا الْيَوْمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ ) ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِمْ ، فَاخْتَارَ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ إلَيْهِ ، وَأَلْزَمْنَاهُ من غَيْرِ عَرْضٍ ، فَالْتَزَمْنَاهُ . وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : ( فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ) . وَفِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ : ( فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا ، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ ) . وَهَذَا مُجْمَلٌ ، فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : ( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ حِينَ اخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخِلْقَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَأَتَمَّهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَنَحْنُ نَتْرُكُ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ . فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } الْآيَةَ .
فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِالْتِزَامِهِمْ ، وَابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْفَائِلِ ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَعَاهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَرَمَهُ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَاخْتَارَ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقِبَلِنَا خِيرَةَ رَبِّنَا لَنَا ، وَالْتَزَمْنَا من غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ مَا أَلْزَمَنَا ، وَعَرَفْنَا مِقْدَارَ فَضْلِهِ ، فَقَالَ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : ( خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَم ، و فِيهِ أُهْبِطَ ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ مَاتَ ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَمَا من دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ من حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ، شَفَقًا من السَّاعَةِ ، إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ . . . ) فِي حَدِيثٍ طَوِيل هَذَا أَكْثَرُهُ .
وَجَمَعَ لَنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ : فَضْلَ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ ، وَجَوَازَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا ، وَخَشِيَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا جَرَى لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا من التَّنَطُّعِ فِي يَوْمِهِمْ الَّذِي اخْتَارُوهُ ، فَمَنَعْنَا من صِيَامِهِ ، فَقَالَ : ( لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ ، وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ ) . وَعَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ . وَرَأَى مَالِكٍ أَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ . وَقَالَ : إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَصُومُهُ ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ .
وَنَهْيُ النَّبِيِّ عَنْ تَخْصِيصِهِ أَشْبَهُ بِحَالِ الْعَالِمِ الْيَوْمَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَرِعُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُلْحِقُهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَ ، وَيَسْلُكُونَ بِهِ سُنَّتَهُمْ ؛ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ الصِّيَامَ ، وَشَرَعَ فِيهِ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ؛ فَوَجَبَ الِاقْتِفَاءُ لِسُنَّتِهِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَبَانَ من شِرْعَتِهِ ، وَالْفِرَارُ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ ، و الْخَشْيَةُ من الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : ( فِيهِ خُلِقَ آدَم يَعْنِي : جَمَعَ فِيهِ خَلْقَهُ ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ، وَهَذَا فَضْلٌ بَيِّنٌ . وَقَوْلُهُ : ( فِيهِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ) ، يَخْفَى وَجْهُ الْفَضْلِ فِيهِ ؛ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ أَشَارُوا إلَى أَنَّ وَجْهَ التَّفْضِيلِ فِيهِ أَنَّهُ تِيبَ عَلَيْهِ من ذَنْبِهِ ، وَهَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لِوَعْدِ رَبِّهِ ، حِينَ قَالَ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } . فَلَمَّا سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ حَقَّقَهُ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَنَفَاذُ الْوَعْدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ ، وَوَجْهُ الْفَضْلِ فِي مَوْتِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلِقَائِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقْتًا لِلِقَائِهِ .
قُلْنَا : يَكُونُ هَذَا أَيْضًا فَضْلًا ، يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَيَبْقَى لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَضْلُهُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَهُ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ ؛ وَمَنْ شَارِكْ شَيْئًا فِي وَجْهٍ ، وَسَاوَاهُ فِيهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَهُ فِي وُجُوهٍ أُخَرَ سِوَاهُ .
وَأَمَّا وَجْهُ تَفْضِيلِهِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ فِيهِ فَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ، فَجَعَلَ قُدُومَهُ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ ، وَتَكُونُ فَاتِحَتُهُ فِي أَكْرَمِ أَوْقَاتِ سَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَمِنْ فَضْلِهِ اسْتِشْعَارُ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَشَوُّقُهَا إلَيْهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ من قِيَامِ السَّاعَةِ ؛ إذْ هُوَ وَقْتُ فَنَائِهَا ، وَحِينِ اقْتِصَاصِهَا وَجَزَائِهَا ، حَاشَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ فِيهِمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا الْآدَمِيُّ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، وَهُمَا رُكْنَا التَّكْلِيفِ ، وَمَعْنَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، و فَائِدَةُ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَتَمَامُ الْفَضْلِ ، وَوَجْهُ الشَّرَفِ تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْشُرُ الْبَارِّي فِيهَا رَحْمَتَهُ ، وَيَفِيضُ فِي الْخَلْقِ نَيْلُهُ ، وَيَظْهَرُ فِيهَا كَرْمُهُ ؛ فَلَا يَبْقَى دَاعٍ إلَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ ، وَلَا كَرَامَةٌ إلَّا وَيُؤْتِيهَا ، وَلَا رَحْمَةٌ إلَّا يَبُثُّهَا لِمَنْ تَأَهَّبَ لَهَا ، وَاسْتَشْعَرَ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ غَافِلًا عَنْهَا .
وَلَمَّا كَانَ وَقْتًا مَخْصُوصًا بِالْفَضْلِ من بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَرَنَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْحَالَاتِ لِلْعَبْدِ ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّلَاةِ ، فَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَلَا حَالَةَ أَخَصُّ بِالْعَبْدِ من تِلْكَ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ ؛ إذْ مِنْهُمْ قَائِمٌ لَا يَبْرَحُ عَنْ قِيَامِهِ وَرَاكِعٌ لَا يَرْفَعُ عَنْ رُكُوعِهِ ، وَسَاجِدٌ لَا يَتَفَصَّى من سُجُودِهِ ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ ، يَقُولُ : يَا مَلَائِكَتِي ، اُنْظُرُوا عَبْدِي ، رُوحُهُ عِنْدِي ، وَبَدَنُهُ فِي طَاعَتِي » . وَصَارَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ فِي الْأَيَّامِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ من قَبْلُ فِي أَنَّ إبْهَامَهَا أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ من تَعْيِينِهَا لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ وَهَتَكُوا حُرْمَتَهَا مَا أُمْهِلُوا ، وَإِذَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِمْ عَمَّ عَمَلُهُمْ الْيَوْمَ كُلَّهُ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ ، كَمَا أُبْهِمَتْ الْكَبَائِرُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ ، وَهُوَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ ، لِيَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَخْلَصُ لَهُ ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَحْصِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَلْيَقُمْ الْحَوْلَ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَوْ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ ، أَوْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ .
وَلَقَدْ كُنْت فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، وَكَانَ بِهَا مُتَعَبِّدٌ يَتَرَصَّدُ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا خَلَا بِرَبِّهِ من طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الضُّحَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ خَلَا بِرَبِّهِ من الضُّحَى إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ خَلَا بِرَبِّهِ من زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْعَصْرِ ، ثُمَّ انْقَلَبَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الرَّابِعَةِ خَلَا بِرَبِّهِ من الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَتَحْصُلُ لَهُ السَّاعَةُ فِي أَرْبَعِ جُمَعٍ ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ .
وَقَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ : هَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ من الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَرْصُدُهَا من الزَّوَالِ إلَى الْعَصْرِ تَكُونُ من الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ من الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ يَتَرَصَّدُهَا هُوَ من طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الضُّحَى ؛ إذْ يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ؛ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ انْتِقَالُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِيِ الشَّهْرِ ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ ، لَا تَكُونُ فِيهَا فِي الْعَامِ الْآخَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً مَرَّةً ، فَوَجَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَةَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَسَأَلَهُ آخَرُ مَتَى يَنْزِلُ : فَإِنَّهُ شَاسِعُ الدَّارِ ؟ فَقَالَ لَهُ : انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَ عَلَامَةً فَلَا يَصْدُقُ ، وَمَا كَانَ أَيْضًا لِيَسْأَلهُ سَائِلٌ ضَعِيفٌ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَتُهُ عَنْ أَفْضَلِ وَقْتٍ يَنْزِلُ إلَيْهِ فِيهِ ، وَأَكْرَمِ لَيْلَةٍ يَأْتِيه فِيهَا ، لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُهُ ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى النَّاقِصِ عَنْ غَيْرِهِ ، الْمَحْطُوطِ عَنْ سِوَاهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ السَّاعَةِ عَمَرَ الْيَوْمَ كُلَّهُ بِالْعِبَادَةِ ، أَوْ تَحْصِيلَ اللَّيْلَةِ قَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ لَيَالِيِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْوُضُوءِ ، أَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ وَلَا سَائِلٍ ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ ؟
قُلْنَا : إذَا كَانَ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَعْمُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ ، فَجَاءَتْ وَقْتَ الْوُضُوءِ أَوْ الْأَكْلِ أُعْطِيَ طَلِبَتَهُ ، وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ ، وَلَمْ يُحَاسَبْ من أَوْقَاتِهِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، عَلَى أَنِّي قَدْ رَأَيْت من عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ أَكَلَ ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَدَنُهُ وَلِسَانُهُ ، فَلِيُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ بِقَلْبِهِ ، حَتَّى يَلْقَى تِلْكَ السَّاعَةَ مُتَعَبِّدًا بِقَلْبِهِ . وَهَذَا حَسَنُ ، وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ لَازِمٍ ؛ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْعِبَادَةِ ، مَا عَدَّا أَوْقَاتِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ ، فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهَا ، وَيُعْطَى عِنْدَهَا كُلَّ مَا سَأَلَ فِي غَيْرِهَا بِلُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ ، وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ ، وَعُمُومِ فَضْلِهِ ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ هَذَا الْخَفَاءِ ، فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ ( سُئِلَ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : هِيَ من جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ ) . وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَلَا يَصِحُّ .