الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { لَا تَقْفُ } : تَقُولُ الْعَرَبُ : قَفَوْته أَقْفُوهُ ، وَقَفْته أَقُوفُهُ ، وَقَفَّيْته : إذَا اتَّبَعْت أَثَرَهُ ، وَقَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ ؛ وَمِنْهُ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقَفَّى ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْيَرُهُمْ . وَمِنْهُ الْقَائِفُ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُ أَثَرَ الشَّبَهِ ، يُقَالُ قَافَ الْقَائِفُ يَقُوفُ ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ : وَلَا تَقُفْ ، مِثْلَ تَقُلْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ :
لِلنَّاسِ فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَا تَسْمَعُ وَلَا تَرَ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا رُؤْيَتُهُ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا تَتَّبِعُ مَا لَا تَعْلَمُ وَلَا يَعْنِيَك .
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : لَا تَقُلْ رَأَيْت مَا لَمْ أَرَ ، وَلَا سَمِعْت مَا لَمْ أَسْمَعْ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ : هُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ .
الْخَامِسُ : قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ لَا تَقْفُ لَا تَقُلْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ؛ وَبَعْضُهَا أَقْوَى من بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مَا لَا يَحِلُّ ، وَلَا يَقُولَ بَاطِلًا ، فَكَيْفُ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الزُّورُ .
وَيَرْجِعُ الْخَامِسُ إلَى الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمُفْتِيَ بِالتَّقْلِيدِ إذَا خَالَفَ نَصَّ الرِّوَايَةِ فِي نَصِّ النَّازِلَةِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقِيسُ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ ، لَا فِي قَوْلِ بَشَرٍ بَعْدَهُمَا .
وَمَنْ قَالَ من الْمُقَلِّدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ من قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتَ تَقُولُهَا وَكَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ قَبْلَك .
قُلْنَا : نَعَمْ ؛ نَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ فِي تَفْرِيعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْتِزَامِ الْمَذْهَبِ بِالتَّخْرِيجِ ، لَا عَلَى أَنَّهَا فَتْوَى نَازِلَةٌ تَعْمَلُ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ ، حَتَّى إذَا جَاءَ سَائِلٌ عُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَصْلِيِّ ؛ لَا عَلَى التَّخْرِيجِ الْمَذْهَبِيِّ ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُ الْجَوَابُ كَذَا فَاعْمَلْ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا قَوْلُ النَّاسِ : هَلْ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ أَوْ الْمِيزَانُ قَبْلَهُمَا أَمْ الْحَوْضُ ؟ فَهَذَا قَفْوُ مَا لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ ، وَلَا بِنَظَرِ السَّمْعِ ، وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ . وَمِثْلُهُ : كَيْفَ كِفَّةُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ من الْمُؤْمِنِينَ ؟ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابَهُ ؟ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } :
يُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَيُسْأَلُ الْفُؤَادُ عَمَّا افْتَكَرَ وَاعْتَقَدَ ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَمَّا رَأَى من ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنْكِرُ ، فَتَنْطِقُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ ، فَإِذَا شَهِدَتْ اسْتَوْجَبَتْ الْخُلُودَ الدَّائِمَ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ صَحِيحٌ ، فَهُوَ مِثَالٌ رَابِعٌ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَةِ تَقْوِيمِ الْفَتْوَى عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى .