الآية الأولى : قوله تعالى : { إنّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللهِ ويقتلون النبيِّين بغير حقّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
قال بعض علمائنا : هذه الآية دليلٌ على الأمْرِ بالمعروف والنهْيِ عن المنكر ، وإنْ أدَّى إلى قَتْلِ الآمِرِ به .
وقد بينّا في كتاب " المشكلين " الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر وآياته وأخباره وشروطَه وفائدتَه . وسنشيرُ إلى بعضه هاهنا فنقول :
المسلمُ البالغ القادِرُ يلزمه تغييرُ المنكر ؛ والآياتُ في ذلك كثيرة ، والأخبارُ متظاهرة ، وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة ، وهي ولايةُ الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروطُ المتقدمة .
وليس من شرطه أن يكونَ عَدْلاً عند أهل السنة . وقالت المبتدعة : لا يغيِّر المنكرَ إلاَّ عَدْل ، وهذا ساقط ؛ فإن العدالة محصورة في قليل من الْخَلْق والنهيُ عن المنكر عامٌّ في جميع الناس .
فإن استدلُّوا بقوله : { أتأمرون الناسَ بالبِرِّ } [ البقرة :44 ] . وقوله تعالى : { كَبُر مَقْتاً عند الله أنْ تقولُوا ما تفعلون } [ الصف :3 ] ونحوه .
قلنا : إنما وقع الذمّ هاهنا على ارتكاب ما نُهِي عنه ، لا عن نَهْيه عن المنكر .
وكذلك ما رُوِي في الحديث من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تُقْرَض شِفَاهُهم بمقاريض من نار ، فقيل له : هم الذين يَنْهَوْن عن المنكر ويأتونه ، إنما عوقبوا على إتيانهم .
ولا شكَّ في أن النهْيَ عنه ممَّن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه عند فاعله فيبعد قبولُه منه .
وأما القدرة فهي أصلٌ ، وتكون منه في النفس وتكون في البدن إن احتاج إلى النهْي عنه بيده ، فإن خاف على نفسه من تغييره الضربَ أو القتل ، فإن رجا زوالَه جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغَرَر ، وإن لم يَرْجُ زوالَه فأيّ فائدة فيه ؟
والذي عنده : أنَّ النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يُبالي .
فإن قيل : هذا إلقاء بيده إلى التَّهْلُكة .
قلنا : قد بينا معنى الآية في موضعها ، وتمامها في شَرْح المشكلين ، والله أعلم .
فإن قيل : فهل يَسْتَوي في ذلك المنكر الذي يتعلَّق به حقُّ الله تعالى مع الذي يتعلَّق به حقُّ الآدمي ؟
قلنا : لم نر لعلمائنا في ذلك نصّاً . وعندي أنَّ تخليص الآدمي أوجب من تخليص حَقِّ الله تعالى ؛ وذلك ممهَّد في موضعه .