الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ ، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ خَاصَّةً مُنْتَزِعًا بِهَا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ : { الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } وَهَذَا أَخْذٌ مِنْ لَفْظِهِ ، لَا مِنْ مَعْنَاهُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ ، لَا بِمَا جَعَلَ إلَيْهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ . وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إنَّهُ وَكَالَةٌ فِي أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَدَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ ، وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَلَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِالْأَلْفَاظِ ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصِدُهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } .
وَلَا يُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَيْنِ مُخْتَلِفَانِ . وَهَذَا غَرَضٌ شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ ، فَإِذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا جَوْبَهُ ، وَلَا وُجِدَ امْرُؤٌ مِنْهُمْ جَيْبَهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُشْكَلَيْنِ ، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فِيهَا عَنْ الْإسْفَرايِينِيّ ، مِنْ طَرِيقِ الشَّهِيدِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِكُلِّ فِعْلٍ ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ ، وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ مُحَالُونَ ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ ، وَفِي كِتَابِهِ مَكْتُوبٌ ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْتِ ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ ، وَاسْتِلَالَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَإِخْرَاجَهَا مِنْهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَخَلَقَ جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ مَثْنَى وَفُرَادَى . وَالْبَارِي تَعَالَى خَالِقُ الْكُلِّ ، فَأَخْبَرَ عَنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ ، فَقَالَ : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ، إخْبَارًا عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ .
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } خَبَرًا عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ الَّذِي نِيطَ بِهِ ، وَخَلَقَ فِعْلَهُ فِيهِ .
وَقَالَ : { وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ خَبَرًا عَنْ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُبَاشِرُ فِيهَا ذَلِكَ . فَالْأُولَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ .
وَقَالَ : مَلَكُ الْمَوْتِ إنْ بَاشَرَ مِثْلَهَا وَإِنْ أُمِرَ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ : حَدَّ الْأَمِيرُ الزَّانِيَ وَعَاقَبَ الْجَانِيَ . وَهَذِهِ نِهَايَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّسَوُّرِ عَلَى الْمَعَانِي ، وَدَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَقَاصِدِ فِي ذَلِكَ ، فَيُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ .
وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاضِرُ الْآنَ ، وَتَمَامُهُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ . .