الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } اعْلَمُوا - عَلَّمَكُمْ اللَّهُ عِلْمَهُ وَأَفَاضَ عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ - أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ : قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ ، وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ ، وَالْمَخْلُوقُ وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ : حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ . وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُكَلَّفٌ ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ . وَالْمُكَلَّفُ حَالَتَانِ : حَالَةٌ هُوَ فِيهَا ، وَحَالَةٌ هُوَ مَنْقُولٌ إلَيْهَا ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْحَالَةُ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا هِيَ الْحَبِيبَةُ إلَى اللَّهِ الْمَمْدُوحَةُ مِنْهُ ، وَالْحَالَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا هِيَ الْمُبْغَضَةُ إلَى اللَّهِ الْمَذْمُومَةُ عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ رَكَنَ إلَيْهَا ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا من الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ ، وَأَهْمَلَ الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَقِلُ إلَيْهَا ، وَهِيَ الْمَحْمُودَةُ ، هَلَكَ . وَإِنْ كَانَ مَقْصِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ تِلْكَ الْآخِرَةَ ، وَكَانَ لَهَا يَعْمَلُ ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ ، وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ إلَى مَقْصِدٍ ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَعْبُرُ ، وَعَلَى مَسَافَتِهِ يَرْتَحِلُ ؛ وَقَلْبُ الْأَوَّلِ مَعْمُورٌ بِذِكْرِ الدُّنْيَا ، مَغْمُورٌ بِحُبِّهَا ، وَقَلْبُ الثَّانِي مَغْمُورٌ بِذِكْرِ اللَّهِ ، مَعْمُورٌ بِحُبِّهِ ، وَجَوَارِحُهُ مُسْتَعْمَلَةٌ بِطَاعَتِهِ ، فَقِيلَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَتَقْصِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَثَوَابَهُ فِيهَا ، فَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ ثَوَابَكُنَّ وَثَوَابَ أَمْثَالِكُنَّ فِي أَصْلِ الْقَصْدِ لَا فِي مِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَاتَيْهِمَا ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَا فِيهَا من مَنْفَعَةِ الثَّوَابِ .
قَالَ قَوْمٌ : لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لِذَاتِهِ وَلَا رَسُولُهُ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ مِنْهُمَا ، الْعَائِدُ عَلَيْهِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْعَبْدَ يُحِبُّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عن الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَسْطُورِ فِيهَا . .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ }
الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ .
وَالثَّانِي : التَّمَادِي عَلَيْهِ من غَيْرِ رُجُوعٍ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ .
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } إلَى آخِرِ الْمَعْنَى . فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَجْرًا عَظِيمًا }
الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ .
أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا ، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا ، وَفِي ذَلِكَ من زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ .
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ ، وَمَنَعَهُ من الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ ، فَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ من بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ } .
وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ .
فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ من رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ من ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ . وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْنِ ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ ، من أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ ، وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي الْحَدِّ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ بِزِيَادَةٍ ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِنَقْصٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .