الْآيَةُ الْخَامِسَة : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } .
فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ ؛ فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا ، وَقَالَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا . فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت : بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ ) . فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى مِثَالِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ طَالَبْنَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ . وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانِيَّةً . وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا . وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبِيبَةَ ثَوْبًا سُحُولِيًّا . وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَطِيفَةً خَيْبَرِيَّةً . وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا ، إلَّا عَائِشَةَ ؛ فَأَمَرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ ، وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ : فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنْتُ خَارِجَةَ ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ . فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، كِلَاهُمَا يَقُولُ : تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ . ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ) .
فَقَدْ خَرَجَ من هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْهُ أَيْضًا . فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ النَّقَّاشِ . الرَّابِعُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ : نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ من الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ : لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ .
الْخَامِسُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ ، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا ، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عن الْمَرْأَتَيْنِ من أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَمَكَثْت سَنَةً مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ ، وَحَجَجْت مَعَهُ ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك ، فَقَالَ : أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ من مَاءٍ ، فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ ، ثُمَّ أَتَانِي ، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ ، فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ من أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عن هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك . فَقَالَ عُمَرُ : وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، لَا تَفْعَلْ ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا ، فَسَلْنِي عَنْهُ ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك . قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ . قَالَ : هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ . قَالَ : كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ من نِسَائِهِمْ . قَالَ : وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ لِي : لَوْ صَنَعْت كَذَا . فَقُلْت لَهَا : مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي ، فَقَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ . فَأَخَذْت رِدَائِي ، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي ، فَانْطَلَقْت ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ ، فَقُلْت لَهَا : يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، قَدْ بَلَغَ من شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : مَالِي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك . فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ ، فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ من شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : نَعَمْ . فَقُلْت : أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ ، فَقَالَتْ : نَعَمْ . قُلْت : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا ؛ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك ، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ . لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّك ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك ؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ . وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا ، فَقَالَتْ لِي : وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عن بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ . وَكَانَ لِي جَارٌ من الْأَنْصَارِ ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا ، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عَشِيًّا ، فَضَرَبَ بَابِي ، وَنَادَانِي ، فَخَرَجْت إلَيْهِ ، فَقَالَ : حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ . فَقُلْت : مَاذَا ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ ؟ فَقَالَ : بَلْ أَعْظَمُ من ذَلِكَ . فَقُلْت : مَا تَقُولُ ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ؟ فَقُلْت : قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ ، وَخَسِرَتْ ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي ، ثُمَّ نَزَلْت ، فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ ، وَهِيَ تَبْكِي . فَقُلْت : طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : لَا أَدْرِي ، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ . فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ من خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ . فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ . فَانْطَلَقْت ، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ ، فَجَلَسْت قَلِيلًا ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ . فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْت من أَجْلِ حَفْصَةَ ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا . قَالَ : وَرَفَعْت صَوْتِي ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ ، فَوَلَّيْت مُدْبِرًا ، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ : اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَك . فَدَخَلْت ، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ من أَدَمٍ ، حَشْوُهَا لِيفٌ . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك ؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك من أَمْرِ النِّسَاءِ ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ } . فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ : لَا . فَقُلْت : اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ من نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي ، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي . قَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك . فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ . فَقُلْت : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ . فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت : لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى ؛ وَإِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عن وَجْهِهِ وَكَشَّرَ ، وَكَانَ من أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا . فَقُلْت : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك ، قَالَ : نَعَمْ . فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً ، وَإِلَّا قَبْضَةً من شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ ، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ ، فَقَالَ : مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْت : وَمَا لِي لَا أَبْكِي ، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك ، وَهَذِهِ خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى ، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ ؟ وَقُلْت : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . فَاسْتَوَى جَالِسًا ، وَقَالَ : أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . فَقُلْت : اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ . وَإِنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ ، فَأَذِنَ لَهُ ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي : لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ من الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ . وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا ، يَعْنِي من أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ .
هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ الصَّحِيحِ يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ عَلَى أَزْوَاجِهِ من أَجْلِ سُؤَالِهِنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِحَفْصَةَ ، لَا تَسْأَلِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَك . وَسَبَبُ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ : مَنْ الْمَرْأَتَانِ من أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ ؟ وَقَوْلُهُ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } . وَذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ ؛ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا . وَفِيهِ الْإِشَارَةُ لِمَا فِيهَا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ من عَدَمِ قُدْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّفَقَةِ ، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بِمَا ظَهَرَ لِعُمَرَ من ضِيقِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاسِيَّمَا لَمَا اطَّلَعَ فِي مَشْرُبَتِهِ من عَدَمِ الْمِهَادِ ، وَقِلَّةِ الْوِسَادِ . وَفِيهِ إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ من أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُنَّ حَوْلِي ، كَمَا تَرَى ، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ يَجَأُ فِي عُنُقِهَا ، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا أَدَّبَهَا ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : ( قُلْ )
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ : ( قُلْ ) يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْإِبَاحَةَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ تَخْيِيرَ اللَّهِ لَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ ، فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ مَعَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ ، وَلِيَتَخَلَّقْنَ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ ، وَلِيَصُنَّ خَلَوَاتِهِ الْكَرِيمَةَ من أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَإِنْ كَانَ لِسُؤَالِهِنَّ الْإِنْفَاقَ فَهُوَ لَفْظُ إبَاحَةٍ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنْ ضَاقَ صَدْرُك بِسُؤَالِهِنَّ لَك مَا لَا تُطِيقُ فَإِنْ شِئْت فَخَيِّرْهُنَّ ، وَإِنْ شِئْت فَاصْبِرْ مَعَهُنَّ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِأَزْوَاجِك }
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَزْوَاجِ الْمَذْكُورَاتِ ؛ فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : كَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ سِوَى الْخَيْبَرِيَّةِ ؛ خَمْسٌ من قُرَيْشٍ : عَائِشَةُ ، وَحَفْصَةُ ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ . وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيّةُ ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، فَذَهَبَتْ ، وَكَانَتْ بَدَوِيَّةً .
قَالَ رَبِيعَةُ : فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ ؛ اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ ، فَذَهَبَتْ ، فَابْتَلَاهَا اللَّهُ بِالْجُنُونِ .
وَيُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا تَرَكَهَا تَرْعَى غَنَمًا لَهُ ، فَصَارَتْ فِي طَلَبِ إحْدَاهُنَّ ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَا كَانَ من أَمْرِهَا إلَى الْيَوْمِ . وَقِيلَ : إنَّهَا كِنْدِيَّةٌ . وَقِيلَ : لَمْ يُخَيِّرْهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمَعَاذٍ .
هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ بَيَانًا شَافِيًا ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَنَقُولُ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ، وَالْحَاضِرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ زَوْجَةً ، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ ، وَبَنَى بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، وَمَاتَ عن تِسْعٍ ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . الْمُخَيَّرُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ :
الْأُولَى : سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُؤَيٍّ . الثَّانِيَةُ : عَائِشَةُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ الثَّامِنِ . الثَّالِثُ : حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ التَّاسِعِ .
الرَّابِعَةُ : أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ السَّابِعِ .
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ من الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُخَيَّرَاتِ من أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ مِمَّنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّفَقَةَ ، وَنَزَلَ لِأَجْلِهِنَّ آيَةُ التَّخْيِيرِ .
وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ ، وَكَذَلِكَ إنَّمَا زَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيُّ بِالْيَمَنِ ، وَهُوَ أَصْدَقَ عَنْهُ ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ من الْيَمَنِ ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ .
وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَمْ يَبْنِ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَقَالَ لَهُ : إنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ قَطُّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لِهَذِهِ قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ) ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا ، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ : إنَّهَا كَانَتْ بَدَوِيَّةً ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَصِحَّ . وَقَوْلُ رَبِيعَةَ : إنَّهَا كَانَتْ أَلْبَتَّةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا بَنَاهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ رَبِيعَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَتَاتٌ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }
وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ، فَعَلَّقَ التَّخْيِيرَ عَلَى شَرْطٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَيْنِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحَانِ ، يَنْفُذَانِ وَيَمْضِيَانِ ، خِلَافًا لِلْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْمُنْجَزُ لَا غَيْرَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا }
مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُنَّ تَقْصِدْنَ الْحَالَةَ الْقَرِيبَةَ مِنْكُنَّ ؛ فَإِنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ : حَالَةٌ هُوَ فِيهَا تُسَمَّى الدُّنْيَا ، وَحَالَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَيْهَا وَهِيَ الْأُخْرَى ، وَتَقْصِدْنَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا ، وَالتَّزَيُّنَ بِمَحَاسِنِهَا ، سَرَحْتُكُنَّ لِطَلَبِ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَالَهُ فِي الْآخِرَةِ من نَصِيبٍ } .
وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ من أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ :
إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ ، وَيَجْمَعَ لَهَا ، وَيَنْظُرَ فِيهَا وَمِنْهَا . وَإِمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى حَالَتِهِ الْأُخْرَى ، فَإِيَّاهَا يَقْصِدُ ، وَلَهَا يَسْعَى وَيَطْلُبُ ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَالَةَ الْأُخْرَى ، فَقَالَ لَهُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } يَعْنِي رِزْقَهُ فِي الْآخِرَةِ ؛ إذْ الْمَرْءُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا طَلَبَهُ أَوْ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لَهُ طَلَبَ الْأَجَلِ . وَأَمَّا رِزْقُهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَأْتِيهِ إلَّا وَيَطْلُبُهُ ، فَخَيَّرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ فِي هَذَا لِيَكُونَ لَهُنَّ الْمَنْزِلَةُ الْعُلْيَا ، كَمَا كَانَتْ لِزَوْجِهِنَّ .
وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ إلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ : خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ لَوْ اخْتَارَتْ مِنْهُنَّ الدُّنْيَا مَثَلًا ، هَلْ كَانَتْ تَبِينُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا ؟
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تَبِينُ ، لِمَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِيَارَ الدُّنْيَا سَبَبُ الِافْتِرَاقِ ؛ فَإِنَّ الْفِرَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ إمْضَاؤُهُ ؛ أَصْلُهُ يَمِينُ اللِّعَانِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ بِنَفْسِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفِرَاقِ ، أَمْ لَا بُدَّ من حُكْمِ الْحَاكِمِ ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّانِي : أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : اخْتَارِي نَفْسَك وَنَوَى الْفِرَاقَ وَاخْتَارَتْ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ . وَالدُّنْيَا كِنَايَةٌ عن ذَلِكَ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ }
هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ ، وَهُوَ فِعْلُ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ ، من قَوْلِك " تَعَالَى " وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْإِقْبَالِ إلَيْهِ ، تَقُولُ : تَعَالَى بِمَعْنَى " أَقْبِلْ " وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَةٌ وَرِفْعَةٌ ، ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْضُوعًا لِكُلِّ دَاعٍ إلَى الْإِقْبَالِ .
وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْفَعِ رُتْبَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُمَتِّعْكُنَّ } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أُسَرِّحْكُنَّ } : مَعْنَاهُ أُطَلِّقُكُنَّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّرَاحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ مَقْصُودُ الْبَابِ وَتَحْقِيقُهُ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
الْأَوَّلُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، أَوْ الطَّلَاقِ . فَاخْتَرْنَ الْبَقَاءَ مَعَهُ ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَرَبِيعَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ ؛ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ إذًا قَبْلَ ثَلَاثٍ ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ ، وَقَدْ قَالَ : { سَرَاحًا جَمِيلًا } ؛ وَالثَّلَاثُ لَيْسَ مِمَّا يَجْمُلُ ؛ وَإِنَّمَا السَّرَاحُ الْجَمِيلُ وَاحِدَةٌ لَيْسَ الثَّلَاثُ الَّتِي يُوجِبُهُنَّ قَبُولُ التَّخْيِيرِ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهَا قَطُّ ، إنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهَا أَنَّ مَسْرُوقًا سَأَلَهَا عن الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ فَتَخْتَارُهُ ، أَيَكُونُ طَلَاقًا ؟ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ، أَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا ؟ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوِيَ ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا ، فَلَا وَجَدُوا لَفْظَ ( خَيَّرَ ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَقَوْلُهَا : لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي ، فَقَالَ : إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ } . وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْيِيرٌ بِطَلَاقٍ كَمَا زَعَمُوا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا ، فَيُوقَعُ الطَّلَاقُ ؛ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْإِمْسَاكُ ؛ وَلِهَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ إلَى آيَةِ التَّخْيِيرِ ، وَقَوْلُهَا ، خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ، أَوْ أُمِرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ ، فَإِنَّمَا يَعُودُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ من التَّخْيِيرِ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَمَّى - كَمَا تَقَدَّمَ - آيَةَ التَّخْيِيرِ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } .
وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى . الثَّانِي : أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ ؛ وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْآخِرَةِ ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ ؛ وَبَيْنَ الدُّنْيَا ، فَيَكُونُ الْفِرَاقُ ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ من نَصِّ الْآيَةِ ، وَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ من أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ : إنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ ، وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ قَالَ : سَرَاحًا جَمِيلًا . وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً ؛ بَلْ هِيَ مِمَّا يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَسَمَّى الثَّلَاثَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا .
قُلْنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ . وَإِنَّمَا الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ من غَيْرِ ضَرَرٍ ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : ( ابْعَثِي إلَى أَبَوَيْك . فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ . فَقَالَتْ : إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ . فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً ؛ لَا تُخَيِّرْ من نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي ، فَخَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا ، فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ ) .
قَالَتْ عَائِشَةُ : خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا .
وَفِي الصَّحِيحِ عن عَائِشَةَ : لَمَّا نَزَلَتْ : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدَأَ بِي ، فَقَالَ : ( يَا عَائِشَةُ ؛ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَلَّا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك . قَالَتْ : وَقَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ، فَقَرَأَ عَلَيَّ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } . فَقُلْت : أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ! فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ) .
هَذِهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عن عُرْوَةَ عن الزُّهْرِيِّ عن عَائِشَةَ . قَالَ مَعْمَرٌ : وَقَالَ أَيُّوبُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي اخْتَرْتُك ؛ قَالَ : ( إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا ، إنَّمَا بَعَثَنِي مُبَلِّغًا ) .
وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الْآيَةَ وَيَقُولُ : ( قَدْ اخْتَارَتْنِي عَائِشَةُ ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ ) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : لَمَّا خَيَّرَهُنَّ اخْتَرْنَهُ ، فَقَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ ، وَنَزَلَتْ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزْوَاجٍ } . وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ ، لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِالتَّطْوِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، فَنُشِيرُ مِنْهُ الْآنَ إلَى طَرَفَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ .
الثَّانِي : إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا .
أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ زَيْدٍ ، وَعَلِيٍّ ، إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ . وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَالْحَسَنُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ : " اخْتَارِي " كِنَايَةٌ عن إيقَاعِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَيْهَا وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ، كَقَوْلِهِ ، أَنْتِ بَائِنٌ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ عَائِشَةَ : خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ . أَفَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا ! فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قُلْتُمْ : إنَّ تَخْيِيرَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفِرَاقِ ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فَيُمْسِكُ ، وَبَيْنَ الْفِرَاقِ فَيَسْتَأْنِفُ إيقَاعَهُ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَكُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَيْنَا مِنْكُمْ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ . وَقَوْلُكُمْ : لَا حُجَّةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّهَا كِنَايَةٌ ، فَكَانَ من حَقِّكُمْ أَنْ تَقُولُوا : إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا أَيْضًا .
فَإِذَا قُلْتُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ : إنَّهُ لَا يَقَعُ ، كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ ، فَلَوْ لَزِمَ الطَّلَاقُ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَ بِالْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِسِعَةِ عِلْمِهَا ، وَعَظِيمِ فِقْهِهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا إيقَاعٌ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ ، وَهُمَا ضِدَّانِ ، لَيْسَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلثَّانِي بِحَالٍ .
وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي : وَهُوَ إذَا اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا ثَلَاثٌ من غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا بَيْنُونَةٍ . فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ مَا نَوَى . هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الثَّانِي : رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ من غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا مَبْتُوتَةٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَيَاهُ جَمِيعًا ، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَمِيعًا ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَقَعَ الْأَقَلُّ ، وَبَطَلَ الْأَكْثَرُ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَوْلِهِ : " اخْتَارِي " أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا شَيْئًا ؛ إذْ قَدْ جَعَلَ إلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهَا عَنْهُ أَوْ تُقِيمَ مَعَهُ ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْبَعْضَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ غَيْرَهُمَا .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِخَبَرٍ من جِهَتِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّتِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ .
الْجَوَابُ : إنَّا نَقُولُ : أَمَّا اعْتِبَارُ نِيَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَنِيَابَةٌ ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمُعْتِقَةِ فَلَا نُسَلِّمُهُ ، بَلْ هُوَ ثَلَاثٌ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ وَلَا نِيَّتُهَا .
الْجَوَابُ : إمَّا نَقُولُ : قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ .