الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد } :قِيلَ : إنَّهُمَا كَانَا إنْسِيَّيْنِ ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ . وَقِيلَ : مَلَكَيْنِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ .
وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ ، فَقَالُوا : إنَّهُمَا كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ ، بَيْدَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْغَرَضِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِحْرَابَ دَاوُد كَانَ من الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْقَى إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ إلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسْبِ طَاقَتِهِ ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ .
وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يُوصَلُ إلَيْهِ من بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ : { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ؛ إذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إلَيْهَا من دَرَجِهَا ، وَجَاءَهَا من أَسْفَلِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا . وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ ؛ لِأَنَّهَا من الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إلَّا عُلْوِيٌّ ، وَلَا نُبَالِي مَنْ كَانَا فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُك بَيَانًا ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } :
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ فَزِعَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ من الْمَنْزِلَةِ ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ من الْآيَاتِ ؟
قُلْنَا : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْعِصْمَةَ ، وَلَا أَمِنَ من الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ ، وَمِنْهُمَا . كَانَ يَخَافُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا تَخَفْ . وَقَبْلَهُ قِيلَ ذَلِكَ لِلُوطٍ ؛ فَهُمْ فَزِعُونَ من خَوْفٍ مَا لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُمْ [ فِيهِ ] : إنَّكُمْ مِنْهُ مَعْصُومُونَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } :
أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ . وَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمْ إذْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمْ ، وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَهَلَّا أَدَّبَهُمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ ؟
فَالْجَوَابُ عَنْهُ من أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى حَسْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ . وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ .
الثَّانِي : إنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى أَحْكَامِ الْحِجَابِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ .
الثَّالِثُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا ، أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ عَنْهُ .
وَكَانَ من آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ من أَنَّهُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ ، وَأَدَبٌ وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ .
الرَّابِعُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا إذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ ، وَلَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ .