الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .
هَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ بِكْرٌ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ فِيهَا ذِكْرٌ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الْإِخْلَاصُ ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ .
وَالثَّانِي : النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ . فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَالسَّعْيِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَفِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } :
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى مَصْدَرًا ، كَالْبَلْوَى وَالْعَدْوَى ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُنْتَجِينَ كَمَا قَالَ : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } .
فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُنْتَجِينَ فَقَوْلُهُ : { إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } اسْتِثْنَاءُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ : إلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي صِفَةِ النَّجْوَى :
ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ » .
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ، وَهُوَ ضَرَرٌ ؛ وَالضَّرَرُ لَا يَحِلُّ بِإِجْمَاعٍ ، وَبِالنَّصِّ : «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ » .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَمُخْلِصٍ ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ يَتَوَقَّعُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ ؛ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ .
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ النَّهْيِ وَتَمَادِي الْأَمْرِ وَعُمُومُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ . «مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ » . وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَدَعَا رَابِعًا ، وَأَوْقَفَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ رَيْثَمَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ يَعْنِي أَرْبَعٌ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُلِمَتْ بِالنَّظَرِ اطَّرَدَتْ حَيْثُمَا وُجِدَتْ ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا أَيْنَمَا كَانَتْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَحْزِينُ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ كَانَ التَّحْزِينُ أَكْثَرَ ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ آكَدَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّلٌ بِتَحْزِينِ الْوَاحِدِ فَإِذَا اسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ . وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .