الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
فِيهَا اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ من أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَسَائِلَ وَأَكْثَرِهَا أَحْكَامًا فِي الْعِبَادَاتِ ، وَبِحَقِّ ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ ) ، فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ عَنْهُ . وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ فِيهَا أَلْفَ مَسْأَلَةٍ ، وَاجْتَمَعَ أَصْحَابُنَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فَتَتَبَّعُوهَا فَبَلَّغُوهَا ثَمَانَمِائَةِ مَسْأَلَةٍ ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَلِّغُوهَا الْأَلْفَ ، وَهَذَا التَّتَبُّعُ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ طُرُقِ اسْتِخْرَاجِ الْعُلُومِ من خَبَايَا الزَّوَايَا ، وَاَلَّذِي يَلِيقُ الْآنَ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ الِانْتِدَابُ إلَى انْتِزَاعِ الْجَلِيِّ وَأَنْ نَتَعَرَّضَ لِمَا يَسْنَحُ خَاصَّةً من ظَاهِرِ مَسَائِلِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا غَيْرُ مَتْلُوٍّ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْوُضُوءَ كَانَ بِمَكَّةَ سُنَّةً ، مَعْنَاهُ كَانَ مَفْعُولًا بِالسُّنَّةِ ، فَأَمَّا حُكْمُهُ فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا فَرْضًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِ فَغَمَزَ الْأَرْضَ بِعَقِبِهِ ، فَانْبَعَتْ مَاءً ، وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ ، وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ ، وَصَلَّى ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ السَّيِّدُ وَالْعُلَمَاءُ يَتَغَافَلُونَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، وَإِنْ ذَهَبَ . وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِذِكْرِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } : هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ دَاخِلُونَ فِيهِ ؛ لِمَا ثَبَتَ من أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا خَصَّ الْخِطَابَ الْمُلْزِمَ لِلْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ النَّازِلَةَ عَرَضَتْ لَهُ ، وَالْقِصَّةَ دَارَتْ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ لَنَا شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } : مَعْنَاهُ : إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ حَالَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ فِيهِ . وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ .
وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَهِيَ من طُيُولِيَّاتِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِيهِ .
وَالْأَصْلُ الْمُحَقَّقُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ ، وَالْعِبَادَاتُ لَا يُتَعَبَّدُ بِهَا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، وَيُخَالِفُ الشَّعْبِيُّ إلَّا الْجُمُعَةَ . فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ من النَّوْمِ ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ ، وَبِهِ قَالَ جُمْلَةُ الْأُمَّةِ ، سَمِعْت عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ حَدَثًا ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدِي عَنْهُ .
وَرُوِيَ لِي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ حَدَثًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا كَانَ الَّذِي أَثَارَهُمَا سَبَبًا فَلَا بُدَّ من دُخُولِ السَّبَبِ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ وَرَاءَ ذَلِكَ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِهِمَا أَمْ يَكُونَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا ؟
وَثَبَتَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ : ( أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا من جَنَابَةٍ ، وَلَكِنْ من بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَوْمٍ ) .
وَالْأَمْرُ أَظْهَرُ من ذَلِكَ ، وَلَكِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُعَرِّفَكُمْ وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي صَحِيحِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ صَفْوَانَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ فَهُوَ حَدَثٌ لِمَا يَصْحَبُهُ غَالِبًا من خُرُوجِ الْخَارِج . وَقَالَ الْمُزَنِيّ : هُوَ حَدَثٌ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَنَامُونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ . وَمِنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا . وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ . فَقَامَ رَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ ثُمَّ صَلَّوْا } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ من الْأَحْوَالِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ نَامَ عَلَى هَيْئَةٍ من هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ ، وَوَافَقَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { نَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى نَفَخَ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ؛ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّك قَدْ نِمْت . فَقَالَ : إنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد أَنْكَرَهُ ، فَقَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْفُوظًا ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي } .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا ؛ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ ) . وَهُوَ بَاطِلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَوْضَحْنَا خَلَلَهُ .
وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ فَإِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الرَّاكِعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْقِلَ نَوْمًا وَيَثْبُتَ رَاكِعًا ، فَدَلَّ أَنَّ نَوْمَهُ ثَبَاتٌ وَخُلَسٌ لَا شَيْءَ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ الْوُضُوءُ فِي النَّوْمِ فَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ ، وَإِيَّاهُمْ صَادَفَ الْخِطَابُ ، وَلَكِنَّا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ وَلَا يَرْبِطُ الْحُكْمَ بِالْأَسْبَابِ ، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ : إنَّ الْوُضُوءَ يَلْزَمُ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ ، إلَّا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى : { كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ . قُلْت : كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ ؟ قَالَ : كَانَ يَجْزِي أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ ) . خَرَّجَهُ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَعَلْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ . فَقَالَ : عَمْدًا فَعَلْته ) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِتَكَرُّرِهِ أَحَلْتُمْ ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَتَكَرَّرُ فَمَا وَجْهُهُ ؟
قُلْنَا : من الْمُتَعَجْرِفِينَ مَنْ تَكَلَّفَ فَقَالَ : إنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ ، وَهُوَ الْحَدَثُ . وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْحَدَثَ لَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُحْدِثًا ، فَالْحَدَثُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ لَا عِلَّتِهِ .
وَالْحُكْمُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ شَرْعًا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ . وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً شَنْعَاءَ ، فَقَالَ : إنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ ، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ ، وَعَلَيْهِ يُثَابُ ، وَعَلَيْهِ يُعَاقَبُ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ .
وَهَذَا خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَهَتْكٌ لِحِجَابِ الشَّرِيعَةِ . وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ التَّوْحِيدَ مُخَاطَبٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَوْحِيدِ الرَّبِّ ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاغْسِلُوا } :
الْفَاءُ حَرْفٌ يَقْتَضِي الرَّبْطَ وَالسَّبَبَ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْقِيبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ ، وَهِيَ هَاهُنَا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ رَبَطَتْ الْمَشْرُوطَ بِهِ وَجَعَلَتْهُ جَوَابَهُ أَوْ جَزَاءَهُ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ بَيْدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ من عُلَمَائِنَا فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ قَالَ : إنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ بِالْوَجْهِ ؛ إذْ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَرْتِيبَ الْوُضُوءِ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعْنًى وَاحِدًا ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ جُمَلاً كُلُّهَا جَوَابًا وَجَزَاءً لَمْ نُبَالِ بِأَيِّهِمَا بَدَأَتْ ؛ إذْ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلُهَا . وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ رَوْنَقٌ وَلَيْسَ بِمُحَقَّقٍ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ؛ فَبَدَأَ بِالْوَجْهِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ ، كَمَا ( قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَجَّ وَجَاءَ إلَى الصَّفَا : نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ) ، وَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا وَاجِبَةً .
وَيَعْضُدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ عُمْرَهُ كُلَّهُ مُرَتِّبًا تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ ، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانُ مُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَاغْسِلُوا } :
وَظَنَّ الشَّافِعِيُّ -وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ فِي الْفَصَاحَةِ بَلْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسِوَاهُ- أَنَّ الْغَسْلَ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ من غَيْرِ عَرْكٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْغَسْلَ مَرُّ الْيَدِ مَعَ إمْرَارِ الْمَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْيَدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : الْغَسْلُ يَقْتَضِي مَغْسُولًا مُطْلَقًا وَمَغْسُولًا بِهِ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
االْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وُجُوهَكُمْ } :
وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ : مَا بَرَزَ من بَدَنِهِ وَوَاجَهَ غَيْرَهُ بِهِ ، وَهُوَ أَبْيَنُ من أَنْ يُبَيَّنَ ، وَأَوْجَهُ من أَنْ يُوَجَّهَ ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ عُضْوٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ أَعْضَاءٍ ، وَمَحَلٌّ من الْجَسَدِ فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ لِلْعُلُومِ ، وَلَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ ، وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ إلَّا أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْهُ سِتَّةُ مَعَانٍ :
الْأَوَّلُ : إذَا اكْتَسَى الذَّقَنُ بِالشَّعْرِ ، فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَلَ الْفَرْضُ فِيمَا يُقَابِلُهُ إلَى الشَّعْرِ قَطْعًا وَنَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ من اللِّحْيَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اتَّصَلَ بِالْوَجْهِ وَوَاجَهَ كَمَا يُوَاجَهُ ، فَيَكُونُ فَرْضًا غَسْلُهُ مِثْلُ الْوَجْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا ، وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ ؛ لِمَا ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ لِحْيَتَهُ } . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَعُيِّنَ الْمُحْتَمَلُ بِالْفِعْلِ .
الثَّانِي : إذَا دَارَ الْعِذَارُ عَلَى الْخَدِّ ، هَلْ يَلْزَمُ غَسْلُ مَا وَرَاءَهُ إلَى الْأُذُنِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَنَا فِي أَنْفُسِنَا وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا غَيْرِنَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ لَا لِلْأَمْرَدِ وَلَا لِلْمُعْذِرِ .
الثَّالِثُ : الْفَمُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ : إنَّ غَسْلَهُ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ من الْوَجْهِ ؛ وَقَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ .
وَقَالَ : { إذَا تَمَضْمَضَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا من فِيهِ } .
الرَّابِعُ : الْأَنْفُ ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، فَقَالَ : ( إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ) .
وَقَالَ أَيْضًا : { فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا من أَنْفِهِ } .
الْخَامِسُ : الْعَيْنُ ، وَالْحُكْمُ فِيهَا وَاحِدٌ أَثَرًا وَنَظَرًا وَلُغَةً ، وَلَكِنْ سَقَطَ غَسْلُهَا لِلتَّأَذِّي بِذَلِكَ وَالْحَرَجِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا عَمِيَ يَغْسِلُ عَيْنَيْهِ إذْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ .
السَّادِسُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من غَسْلِ جُزْءٍ من الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ من غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِيهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ عُمُومِ مَسْحِ الرَّأْسِ من مَسْحِ جُزْءٍ مَعَهُ من الْوَجْهِ لَا يَتَقَدَّرُ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ مِثْلُهُ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَهَذِهِ تَتِمَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَالَ لَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } كَانَ مَعْنَاهُ ضَرُورَةَ اللُّغَةِ : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ؛ وَذَكَرَ أَمْثِلَةً بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَاقْتَضَى الْأَمْرُ بِظَاهِرِهِ غَسْلَ الْوَجْهِ لِلصَّلَاةِ ، فَمَنْ غَسَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، هَاهُنَا كَلَامًا مُخْتَلًّا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَنَصُّهُ : ( ظَنَّ ظَانُّونَ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ يُوجِبُونَ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَهُ لِأَجْلِهِ ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ النِّيَّةَ ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ وَبِنِيَّتِهَا لِأَجْلِهِ ) . . . إلَى تَخْلِيطٍ زِيدَ عَلَيْهِ لَا أَرْضَى ذِكْرَهُ .
قُلْنَا : قَوْلُهُ : ( ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا وُجِدَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِهِ ) . لَمْ يَظُنَّ أَحَدٌ ذَلِكَ ، إنَّمَا قُطِعَ الِاعْتِقَادُ بِهِ ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( إنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ النِّيَّةَ ) . قُلْنَا لَهُ : هَذَا تَلْبِيسٌ ؛ وُجُوبُهُ لِأَجْلِهِ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي النِّيَّةَ ضَرُورَةً فِيهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُمِرَ لِمَأْمُورٍ بِهِ لَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( هَذَا لَا يَصِحُّ ) .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ إلَّا هُوَ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ ) .
قُلْنَا : هَذَا هَوَسٌ ، لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ لِأَجْلِ الْحَدَثِ .
وَقَوْلُهُ : ( إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ ) .
قُلْنَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مَاذَا ؟ إنْ أَرَدْت الْحَدَثَ ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ بِهِ ؟ وَإِنْ أَرَدْت الصَّلَاةَ فَلَا يُعْطِي اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى إلَّا وُجُوبَ النِّيَّةِ لَهَا .
وَقَوْلُهُ : ( يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدٍ ) .
قُلْنَا : هَذَا لَا نُسَلِّمُهُ مُطْلَقًا إنْ أَرَدْت فِي الْعِبَادَاتِ فَلَا ، وَإِنْ أَرَدْت فِي غَيْرِهَا فَلَا نُبَالِي بِهِ . وَقَوْلُهُ : ( دُونَ قَصْدٍ ) .
إلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُهُ الْمَعْقُولُ لَفْظًا الْمُخْتَلُّ مَعْنًى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ فَكَلَامٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَفْظًا ، فَكَيْفَ مَعْنًى ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذَا الَّذِي زَمْزَمَ بِهِ أَنَا أَعْرِفُهُ .
قَوْلُهُ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } لَا يَخْلُو من سِتَّةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يَرْبِطُ غَسْلَ الْوَجْهِ وَمَا بَعْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَرْبِطُهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ الْحَدَثِ وَبِالصَّلَاةِ ، وَهُوَ : الثَّالِثُ ، أَوْ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ : الرَّابِعِ ، أَوْ بِالْكُلِّ وَهُوَ : الْخَامِسِ ، أَوْ بِبَعْضِهِ وَهُوَ : السَّادِسِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ نَرْبِطُهُ بِشَيْءٍ كَانَ مُحَالًا لُغَةً كَمَا تَقَدَّمَ ، مُحَالًا بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ قَدْ رُبِطَ بِمَا رُبِطَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَإِنْ رَبَطَهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَمُحَالٌ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَمُحَالٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقِيَامِ لَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ من الْوُضُوءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ ، وَنَفْسُ الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ .
وَأَمَّا إنْ أَرَدْت رَبْطَهُ بِالْحَدِيثِ فَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِهِ ، لَا من أَجْلِهِ . وَإِنْ قُلْتُمْ بِالصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ هُوَ . وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ } . وَإِذَا أَمَرَ بِغَسْلِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِ الْكُلِّ فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ ؛ وَهَذَا تَحْقِيقٌ من كَلَامِهِ فِي غَرَضِهِ بِعَيْنِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا وَجَبَتْ النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ ، أَيْ لِأَيِّ عِبَادَةٍ وَجَبَتْ ، فَمَحَلُّهَا أَنْ تَكُونَ مُقْتَرِنَةً مَعَ أَوَّلِهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْفِعْلِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا لَهُ ، فَنِيَّةُ الْوُضُوءِ مَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ ، بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا : إنَّ مَنْ خَرَجَ إلَى النَّهْرِ من مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُ ، [ ذلك ] وَإِنْ عَزَبَتْ [ نِيَّتُهُ ] فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ . وَإِنْ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ فَعَزَبَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَطَلَتْ النِّيَّةُ . فَرَكَّبَ عَلَى هَذَا سَفَاسِفَةُ الْمُفْتِينَ أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ تَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَأَوْرَدُوا فِيهَا نَصًّا عَمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ [ بِأَنَّهُ قَالَ ] : يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ النِّيَّةَ فِيهَا عَلَى التَّكْبِيرِ . وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْعَالَمِينَ من أُمَّةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً مُجْتَهِدَةً فَمَا وَفَّقَهَا اللَّهُ وَلَا سَدَّدَهَا ، اعْلَمُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ عَنْ مَرْتَبَةِ الِاتِّفَاقِ سُومِحَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا قَدْ لَا يَجِبُ . فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ من الْأَئِمَّةِ فِيهَا وَهِيَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْعِ التَّابِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ؟ هَلْ هَذَا إلَّا غَايَةَ الْغَبَاوَةِ ؟ فَلَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ عِنْدَ أَحَدٍ من الْأَئِمَّةِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهَا مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَفَعَ الْحَرَجَ فِيهِ ، لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَيْدِيَكُمْ } :
الْيَدُ : عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالظُّفْرِ ، وَهِيَ ذَاتُ أَجْزَاءٍ وَأَسْمَاءٍ ؛ مِنْهَا الْمَنْكِبُ ، وَمِنْهَا الْكَفُّ ، وَالْأَصَابِعُ ، وَهُوَ مَحَلُّ الْبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ الْعَامِّ فِي الْمَنَافِعِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْيَدِ ، وَغَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَوَّلِ مُحَاوَلَةِ الْوُضُوءِ وَهُوَ سُنَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ ، وَهُوَ فَرْضٌ .
وَمَعْنَى غَسْلِهِمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ تَنْظِيفُ الْيَدَيْنِ لِإِدْخَالِهَا [ فِي ] الْإِنَاءِ وَمُحَاوَلَةُ نَقْلِ الْمَاءِ بِهِمَا ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ من النَّوْمِ ، فَقَدْ رَوَى جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ من نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } .
وَرَوَى عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ صِفَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّهُمْ ذَكَرُوا ( أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ) ، حَتَّى بَلَغَ مَكَانَهُمَا من عُلَمَائِنَا أَنْ جَعَلُوهُمَا من سُنَنِ الْوُضُوءِ . فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ ثُمَّ تَمَادَى فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ غَسْلَ يَدَيْهِ كَمَا يُعِيدُ مَا سَبَقَ من الْوُضُوءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَى الْمَرَافِقِ } :
فَذَكَرَهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ إدْخَالِهِمَا فِي الْغَسْلِ . وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ ، وَذَكَرَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ { إلَى } بِمَعْنَى مَعَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ { إلَى } حَدٌّ ، وَالْحَدُّ إذَا كَانَ من جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ ، تَقُولُ : بِعْتُك هَذَا الْفَدَّانَ من هَاهُنَا إلَى هَاهُنَا ، فَيَدْخُلُ الْحَدُّ فِيهِ . وَلَوْ قُلْت : من هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا دَخَلَ الْحَدُّ فِي الْفَدَّانِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمَرَافِقَ حَدُّ السَّاقِطِ لَا حَدُّ الْمَفْرُوضِ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ . وَمَا رَأَيْته لِغَيْرِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَأَيْدِيَكُمْ } يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ من الظُّفْرِ إلَى الْمَنْكِبِ ، فَلَمَّا قَالَ : { إلَى الْمَرَافِقِ } أَسْقَطَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْمِرْفَقِ ، وَبَقِيَتْ الْمَرَافِقُ مَغْسُولَةً إلَى الظُّفْرِ ؛ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ يَجْرِي عَلَى الْأُصُولِ لُغَةً وَمَعْنًى .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ { إلَى } بِمَعْنَى مَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى وَضْعِ حَرْفٍ مَوْضِعَ حَرْفٍ ، إنَّمَا يَكُونُ كُلُّ حَرْفٍ بِمَعْنَاهُ ، وَتَتَصَرَّفُ مَعَانِي الْأَفْعَالِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِيهَا لَا فِي الْحُرُوفِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { إلَى الْمَرَافِقِ } عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ : فَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُضَافَةً إلَى الْمَرَافِقِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } مَعْنَاهُ مُضَافَةً إلَى أَمْوَالِكُمْ .
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ ) .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَامْسَحُوا } :
الْمَسْحُ : عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً ، وَهُوَ فِي الْوُضُوءِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْآلَةِ الْمَمْسُوحِ بِهَا ، وَالْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْمَغْسُولِ ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ من ضَرُورَةِ اللُّغَةِ ، وَبَيَانُهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { بِرُءُوسِكُمْ } :
وَالرَّأْسُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا النَّاسُ ضَرُورَةً ، وَمِنْهَا الْوَجْهُ ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْوُضُوءِ وَعَيَّنَ الْوَجْهَ لِلْغَسْلِ بَقِيَ بَاقِيهِ لِلْمَسْحِ . وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْغَسْلَ أَوَّلًا فِيهِ لَلَزِمَ مَسْحُ جَمِيعِهِ : مَا عَلَيْهِ شَعْرٌ من الرَّأْسِ ، وَمَا فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ ؛ وَهَذَا انْتِزَاعٌ بَدِيعٌ من الْآيَةِ .
وَقَدْ أَشَارَ مَالِكٌ إلَى نَحْوِهِ ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ بَعْضَ وَجْهِهِ أَكَانَ يُجْزِئُهُ ؟ وَمَسْأَلَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ مُعْضِلَةٌ ، وَيَا طَالَمَا تَتَبَّعْتهَا لِأُحِيطَ بِهَا حَتَّى عَلَّمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ إيَّاهَا ؛ فَخُذُوهَا مُجْمَلَةً فِي عِلْمِهَا ، مُسَجَّلَةً بِالصَّوَابِ فِي حُكْمِهَا ؛ وَاسْتِيفَاؤُهَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ إنْ مَسَحَ مِنْهُ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ .
الثَّانِي : ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ .
الثَّالِثُ : مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ . ذَكَرَ لَنَا هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
الرَّابِعُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْسَحُ النَّاصِيَةَ .
الْخَامِسُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَمْسَحَ الرُّبْعَ .
السَّادِسُ : قَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ الثَّالِثَةِ : لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ النَّاصِيَةَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعٍ .
السَّابِعُ : يَمْسَحُ الْجَمِيعَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّامِنُ : إنْ تَرَكَ الْيَسِيرَ من غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ ؛ أَمْلَاهُ عَلَيَّ الْفِهْرِيُّ .
التَّاسِعُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ : إنْ تَرَكَ الثُّلُثَ أَجْزَأَهُ .
الْعَاشِرُ : قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : قَالَ أَشْهَبُ : إنْ مَسَحَ مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ .
فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا ، وَمَنْزِلَةُ الرَّأْسِ فِي الْأَحْكَامِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْأَبْدَانِ ، وَهُوَ عَظِيمُ الْخَطَرِ فِيهِمَا جَمِيعًا ؛ وَلِكُلِّ قَوْلٍ من هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَطْلَعٌ من الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ :
فَمَطْلَعُ الْأَوَّلِ : أَنَّ الرَّأْسَ وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْعُضْوِ فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّعْرِ بِلَفْظِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { احْلِقْ رَأْسَك } ، وَالْحَلْقُ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّعْرِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا تَرَكَّبَ عَلَيْهِ :
الْمَطْلَعُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الرَّأْسِ يَنْقَسِمُ فِي الْعُرْفِ وَالْإِطْلَاقِ إلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الِاسْمِ .
وَالثَّانِي : يَقْتَضِي بَعْضَهُ ؛ فَإِذَا قُلْت : ( حَلَقْت رَأْسِي ) اقْتَضَى فِي الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ الْجَمِيعَ .
وَإِذَا قُلْت : مَسَحْت الْجِدَارَ أَوْ رَأْسَ الْيَتِيمِ أَوْ رَأْسِي اقْتَضَى الْبَعْضَ ، فَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ :
الْمَطْلَعُ : الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّ الْبَعْضَ لَا حَدَّ لَهُ مُجْزِئٌ مِنْهُ مَا كَانَ ، قَالَ لَنَا الشَّاشِيُّ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } وَكَانَ مَعْنَاهُ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ ، وَكَانَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثًا .
قُلْنَا : إنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ مَسَحَهَا أَجْزَأَهُ ، وَالْمَسْحُ أَظْهَرُ ، وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَقَلُّهُ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ .
الْمَطْلَعُ الرَّابِعُ : نَظَرَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَبْدُو من الْأَعْضَاءِ فِي الْغَالِبِ ، وَاَلَّذِي يَبْدُو من الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ النَّاصِيَةُ ، وَلَا سِيَّمَا وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ .
الْمَطْلَعُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَسْحُ النَّاصِيَةِ فَلَا يُتَيَقَّنُ مَوْضِعُهَا ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعَلُّقُ الْعِبَادَةِ بِالرَّأْسِ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ مَسْحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاصِيَةَ ، وَهِيَ نَحْوُ الرُّبْعِ فَيَتَقَدَّرُ الرُّبْعُ مِنْهُ أَيْنَ كَانَ ، وَمَطْلَعُ الرُّبْعِ بِتَقْدِيرِ الْأَصَابِعِ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمَطْلَعُ الْجَمِيعِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ عِبَادَةَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ ، كَمَا عَلَّقَ عِبَادَةَ الْغَسْلِ بِالْوَجْهِ ؛ فَوَجَبَ الْإِيعَابُ فِيهِمَا بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ فِي الْمَسْحِ لَا يَقْتَضِي الْإِيعَابَ عُرْفًا ، فَمَا عُلِّقَ بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ ، تَقُولُ : مَسَحْت الْجِدَارَ ، فَيَقْتَضِي بَعْضَهُ من أَجْلِ أَنَّ الْجِدَارَ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَسْحِ حِسًّا ، وَلَا غَرَضَ فِي اسْتِيعَابِهِ قَصْدًا ، وَتَقُولُ : مَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ ، فَيُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّهُ بِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ . وَتَقُولُ : مَسَحْت الدَّابَّةَ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا جَمِيعُهَا ؛ لِأَجْلِ مَقْصَدِ النَّظَافَةِ فِيهَا ، فَتَعَلُّقُ الْوَظِيفَةِ بِالرَّأْسِ يَقْتَضِي عُمُومَهُ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : مَسَحْت رَأْسِي كُلَّهُ فَتُؤَكِّدُهُ ، وَلَوْ كَانَ يَقْتَضِي الْبَعْضَ لَمَا تَأَكَّدَ بِالْكُلِّ ؛ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ لِرَفْعِ الِاحْتِمَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَى الظَّاهِرِ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ .
وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ إنَّ تَرْكَ الْيَسِيرِ من غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ : أَنَّ تَحَقُّقَ عُمُومِ الْوَجْهِ بِالْغَسْلِ مُمْكِنٌ بِالْحِسِّ ، وَتَحَقُّقَ عُمُومِ الْمَسْحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ فَسُومِحَ بِتَرْكِ الْيَسِيرِ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ مُرُورَ الْيَدِ عَلَى الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ تَحْصِيلُهُ حِسًّا وَعَادَةً . وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ : إنَّ تَرْكَ الثُّلُثِ من غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ : قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى الثُّلُثَ يَسِيرًا ، فَجَعَلَهُ فِي حَدِّ الْمَتْرُوكِ لَمَّا رَأَى الشَّرِيعَةَ سَامَحَتْ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَغَيْرِهِ .
وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ : إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الْكَثِيرِ عَلَى الثُّلُثِ فِي قَوْلِهِ من حَدِيثِ سَعْدٍ : ( الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ) .
وَلُحِظَ مَطْلَعُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّاصِيَةِ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي تَعَلُّقِ الْعِبَادَاتِ بِالظَّاهِرِ .
وَمَطْلَعُ قَوْلِ أَشْهَبَ فِي أَنَّ مَنْ مَسَحَ مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ إلَى نَحْوٍ من ذَلِكَ تَنَاصُفٌ لَيْسَ يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ عِنْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَنْحَاءِ والْمُطَلَّعَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْرُجْ اجْتِهَادُهُمْ عَنْ سَبِيلِ الدَّلَالَاتِ فِي مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا جَاوَزُوا طَرَفَيْهَا إلَى الْإِفْرَاطِ ؛ فَإِنَّ لِلشَّرِيعَةِ طَرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : طَرَفُ التَّخْفِيفِ فِي التَّكْلِيفِ . وَالْآخَرُ : طَرَفُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ . فَمَنْ احْتَاطَ اسْتَوْفَى الْكُلَّ ، وَمَنْ خَفَّفَ أَخَذَ بِالْبَعْضِ .
قُلْنَا : فِي إيجَابِ الْكُلِّ تَرْجِيحٌ من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهُمَا : الِاحْتِيَاطُ .
الثَّانِي : التَّنْظِيرُ بِالْوَجْهِ ، لَا من طَرِيقِ الْقِيَاسِ ؛ بَلْ من مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ ، وَذِكْرِ الْمَحَلِّ ؛ وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ الرَّأْسُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْبَعْضِ ؟
قُلْنَا : بَلْ هُوَ نَصٌّ عَلَى الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْجَمِيعُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعِمَامَةِ وَالرَّأْسِ . فَلَمَّا مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ من رَأْسِهِ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاقِيهِ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْحَائِلِ من جَبِيرَةٍ أَوْ خُفٍّ ، وَنَقَلَ الْفَرْضَ إلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ فِي هَذَيْنِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَزْكُومًا فَلَمْ يُمْكِنْهُ كَشْفُ رَأْسِهِ ؛ فَمَسَحَ الْبَعْضَ وَمَرَّ بِيَدِهِ عَلَى جَمِيعِ الْبَعْضِ ، فَانْتَهَى آخِرُ الْكَفِّ إلَى آخِرِ النَّاصِيَةِ ، فَأَمَرَّ الْيَدَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَصَدَ مَسْحَ الْعِمَامَةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَسْحَ النَّاصِيَةِ بِإِمْرَارِ الْيَدِ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً ، وَلِهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْهُ قَطُّ شَيْءٌ من ذَلِكَ فِي أَطْوَارِهِ بِأَسْفَارِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَحَشْوِيَّةُ النَّحْوِيَّةِ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ ، وَلَمْ يَبْقَ ذُو لِسَانٍ رَطْبٍ إلَّا وَقَدْ أَفَاضَ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْكَلَامُ فِيهَا إجْلَالًا بِالْمُتَكَلِّمِ ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ شَدَا طَرَفًا من الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْبَاءِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرِدُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيهِ لِرَبْطِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمَعْنًى ؛ تَقُولُ : مَرَرْت بِزَيْدٍ ، فَهَذَا لِإِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ ، ثُمَّ تَقُولُ : مَرَرْت زَيْدًا فَيَبْقَى الْمَعْنَى . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيَانُهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ ، وَقَدْ طَالَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَتَرَامَتْ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فِي الْمُخْتَصَرِ حَتَّى أَفَادَنِي فِيهِ بَعْضُ أَشْيَاخِي فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُطَالَعَةِ فَائِدَةً بَدِيعَةً :
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَامْسَحُوا } يَقْتَضِي مَمْسُوحًا ، وَمَمْسُوحًا بِهِ . وَالْمَمْسُوحُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا كَانَ . وَالْمَمْسُوحُ الثَّانِي هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَاسِحِ وَالْمَمْسُوحِ ، كَالْيَدِ وَالْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ من الْمَسْحِ ، وَهُوَ الْمِنْدِيلُ ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ قَالَ : امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ لَأَجْزَأَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ إمْرَارًا من غَيْرِ شَيْءٍ عَلَى الرَّأْسِ لَا مَاءَ وَلَا سِوَاهُ ، فَجَاءَ بِالْبَاءِ لِتُفِيدَ مَمْسُوحًا بِهِ ، وَهُوَ الْمَاءُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الْمَاءَ ، من بَابِ الْمَقْلُوبِ ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ ، وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
كَنُوَاحِ رِيشِ حَمَامَةٍ نَجْدِيَّةٍ *** وَمَسَحْت بِاللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الْإِثْمِدِ
مِثْلُهُ : ( مِثْلُ الْقَنَافِذِ ) . وَمِثْلُهُ : { مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } . وَاللِّثَةُ : هِيَ الْمَمْسُوحَةُ بِعَصْفِ الْإِثْمِدِ ، فَقَلْبٌ . وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْفَصَاحَةَ قَائِمَةٌ ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَرْطِهِ الرَّابِعِ بِالثَّلَاثَةِ الْأَصَابِعِ أَوْ الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَمْسُوحٌ بِهِ لِأَجْلِ الْبَاءِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : فَامْسَحُوا بِأَكُفِّكُمْ رُءُوسَكُمْ . وَالْكَفُّ خَمْسُ أَصَابِعَ وَمُعْظَمُهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ ، وَالْمُعْظَمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَفَطِنَ أَنَّ إدْخَالَ الْبَاءِ لِمَعْنًى ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ يَقْتَضِي الْيَدَ لُغَةً وَحَقِيقَةً ؛ فَجَعَلَ فَائِدَةَ الْبَاءِ التَّعَلُّقَ بِالْيَدِ .
وَهَذِهِ عَثْرَةٌ لِفَهْمِهِ لَا يُقَالُهَا ، وَوَفَّقَ اللَّهُ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي أَفَادَنِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ فِيهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنِي وَإِيَّاكُمْ [ بها ] بِرَحْمَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : من أَغْرَبِ شَيْءٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَأَى مَسْحَ شَعْرِ الْقَفَا ؛ وَلَيْسَ من الرَّأْسِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ ؛ فَإِنَّ الرَّأْسَ جُزْءٌ من الْإِنْسَانِ ، وَالْيَدَ جُزْءٌ ، وَالْبَدَنَ جُزْءٌ ، وَالْعَيْنَ جُزْءٌ ، وَالْعُنُقَ جُزْءٌ ، وَمُقَدَّمَ الرَّقَبَةِ الْعُنُقُ ، وَمُؤَخَّرَهَا الْقَفَا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ قَفَاهُ ) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَفَاهُ ) .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) : ثُمَّ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ، فَنَقَلَ أَصْحَابُهُ مَا شَاهَدُوا من صِفَةِ وُضُوئِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِكَيْفِيَّةِ الْمَغْسُولِ صِفَةً ، وَنَقَلُوا كَيْفِيَّةَ مَسْحِ رَأْسِهِ بِاهْتِبَالٍ كَثِيرٍ ، وَتَحْصِيلٍ عَظِيمٍ ؛ وَاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ مُتَفَاوِتٍ ، نَشَأَتْ مِنْهُ مَسَائِلُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ من الْإِشَارَةِ إلَى مُعْظَمِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُبْهَمًا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } : وَقَالَ الرَّاوِي : إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ ، فَلَوْ غَسَلَهُ الْمُتَوَضِّئُ بَدَلَ الْمَسْحِ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ ، إلَّا مَا أَخْبَرَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْقَاصِّ من أَصْحَابِهِمْ قَالَ : لَا يُجْزِئُهُ . وَهَذَا تَوَلُّجٌ فِي مَذْهَبِ الدَّاوُدِيَّةِ الْفَاسِدِ من اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ الْمُبْطِلِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا من الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } . وَكَمَا قَالَ : { أَمْ بِظَاهِرٍ من الْقَوْلِ } ؛ وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْغَاسِلُ لِرَأْسِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ زِيَادَةٌ خَرَجَتْ عَنْ اللَّفْظِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ .
قُلْنَا : وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَاهُ فِي إيصَالِ الْفِعْلِ إلَى الْمَحَلِّ وَتَحْقِيقِ التَّكْلِيفِ فِي التَّطْهِيرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ :
وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : ( أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ يَدَهُ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى ( النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ مَاءِ فَضْلِ يَدَيْهِ ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ مُطْلَقًا ) . وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، وَرَدَتْ مُقَيَّدَةً ، وَالْمُقَيَّدُ أَوْلَى من الْمُطْلَقِ ؛ لِاحْتِمَالِ الْمُطْلَقِ وَتَنْصِيصِ الْمُقَيَّدِ .
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ من أَصْحَابِنَا : يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ .
وَالثَّانِي : وُجُوبُ نَقْلِ الْمَاءِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : نَشَأَ من أَصْحَابِنَا مَنْ يَرَى نَفْسَهُ من أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَلَيْسَ مِنْهُ ، من قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ من بَلَلِ لِحْيَتِهِ نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ ، وَلَيْسَ فِيهِ من الْفِقْهِ أَكْثَرُ من أَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ ؛ فَيَكْفِي مِنْهُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ ؛ فَأَمَّا نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ :
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ كَمَا وَصَفَ أَصْحَابُهُ ، فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ كُلُّهَا حَيْثُمَا وَرَدَتْ فَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُ وُضُوئِهِ فِيهَا وَكَثْرَةُ الْأَعْدَادِ فِي الْأَعْضَاءِ وَقِلَّتُهَا حَاشَا الرَّأْسِ ، وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ : ( تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا ) . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً . وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ : ( أَنَّهُ أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ) .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : ( فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ } ؛ وَهُمَا صَحِيحَانِ مُتَوَافِقَانِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ من أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَسْمِيَةِ الْفِعْلِ بِابْتِدَائِهِ وَبِغَايَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحُ لِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ ، فَلَوْ مَسَحَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ ، قَالَ ابْنُ سُفْيَانَ : حَتَّى لَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ لَأَجْزَأَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَيْئَةَ الْأَفْعَالِ فِي الْعِبَادَاتِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ فِيهَا أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعِبَادَةِ كَأَصْلِهَا . وَالثَّانِي : كَوَضْعِ الْإِنَاءِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُتَوَضِّئِ . وَالثَّالِثُ : كَاغْتِرَافِ الْمَاءِ بِالْيَدِ وَغَسْلِ الْأَعْضَاءِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ . وَالْمَقْصُودُ من الْهَيْئَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْحِ تَفْسِيرُ الْأَمْرِ ، وَهُوَ أَوْلَى فِي التَّعْمِيمِ ، وَأَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّ مَا فَاتَهُ فِي الْإِقْبَالِ أَدْرَكَهُ فِي الْإِدْبَارِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَمَّا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ جَمِيعَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي إيجَابِ عُمُومِهِ ، وَكَانَتْ الْجَبْهَةُ خَارِجَةً عَنْهُ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْخِلْقَةِ ، نَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْأَصْلَعِ وَالْأَنْزَعِ من الْأَغَمِّ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ ؛ وَحُكْمُهُ الْأَظْهَرُ أَنْ يَمْسَحَ من الرَّأْسِ مِقْدَارَ الْعَادَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّعْمِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ بِالْعِبَادَةِ ، كَمَا هُوَ لِلرَّجُلِ فِي الْوُضُوءِ ، حَتَّى فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ؛ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ تَمَيَّزَتْ عَنْ الرَّجُلِ بِاسْتِرْسَالِ الدَّلَّالَيْنِ ، فَاخْتَلَفَ آرَاءُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ من الْجِلْدَةِ ، وَبِهِ تَعَلُّقٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَمْسَحُ مِنْهُ مَا يُوَازِي الْفَرْضَ من مِقْدَارِ الرَّأْسِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي اللِّحْيَةِ آنِفًا ، وَكَمَا يَلْزَمُ فِي الْخُفَّيْنِ مَسْحُ مَا يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ من غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْقَوْلُ فِي الْأُذُنَيْنِ : وَهُمَا إنْ كَانَتَا من الرَّأْسِ فَإِنَّهُمَا فِي الْإِشْكَالِ رَأْسٌ ، وَقَدْ تَفَاقَمَ الْخَطْبُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِمَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ فِي التَّفْرِيعِ ، وَفِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فِي الْآثَارِ .
وَاَلَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْك الْخَطْبَ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى قَالَ : { بِرُءُوسِكُمْ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْأُذُنَيْنِ ، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ مَا أَهْمَلَهُمَا ، وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا . وَقَدْ رَوَى صِفَةَ وُضُوءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ الْأُذُنَيْنِ فِيهَا إلَّا الْيَسِيرَ من الصَّحَابَةِ ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ؛ قَالَ : رَأَيْت ( رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَأَخَذَ مَاءً لِأُذُنَيْهِ خِلَافَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ ) .
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، رَوَى : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا بِالسِّبَابَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ ) ؛ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَمِنْهُمْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ ؛ قَالَتْ : رَأَيْت ( رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ ، وَمَسَحَ صُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ) . صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ الْوُضُوءَ لِمَنْ سَأَلَهُ بِأَنْ تَوَضَّأَ لَهُ ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا ) .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ الْأُذُنَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمَا من الرَّأْسِ حُكْمًا ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا من الْوَجْهِ ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : يَغْسِلُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مَعَ الْوَجْهِ ، وَيَمْسَحُ مَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مَعَ الرَّأْسِ ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ .
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا من الرَّأْسِ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تَذْكُرْهُمَا فِي الْوُضُوءِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا ذَكَرَتْهُمَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمَا من الْوَجْهِ فَنَزَعَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُجُودِهِ : ( سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ) وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهِهِ جُمْلَتَهُ ، وَالسَّمْعُ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ ، وَالْبَصَرُ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْهِ فَالْكُلُّ مُضَافٌ إلَى الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ وَلِلْقَصْدِ ، فَأَضَافَهُ إلَى الِاسْمِ الْعَامِّ لِلْمَعْنَيَيْنِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ لَا تَعْضُدُهُ لُغَةٌ ، وَلَا تَشْهَدُ لَهُ شَرِيعَةٌ . وَالصَّحِيحُ أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِمَا ، هَلْ هُمَا من الرَّأْسِ أَوْ من الْوَجْهِ ؟ وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَهُمَا ، فَبَيَّنَ مَسْحَ الرَّأْسِ ، وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ كَمَا يُمْسَحُ الرَّأْسُ ، وَهُمَا مُضَافَانِ إلَيْهِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ ، حَتَّى تَخْرُجَ من أُذُنَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالرَّأْسِ الْخَالِي من الشَّعْرِ : اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ؛ هَلْ يُمْسَحُ أَمْ لَا ؟ وَلَيْسَ عِنْدِي بِمَقْصُودٍ ، لَا فِي الرَّأْسِ ، وَلَا فِي الْأُذُنَيْنِ ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتْرُكَهُ مَنْ يَسْتَوْثِقُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْصِدَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَرْجُلَكُمْ } :
ثَبَتَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ : الرَّفْعُ ، قَرَأَ بِهِ نَافِعٌ ، رَوَاهُ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ . وَالنَّصْبُ ، رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ : قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ أَوْ الْحُسَيْنُ فَقَرَأَ قَوْلَهُ : -{ وَأَرْجُلَكُمْ } فَسَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ ، فَقَالَ : وَأَرْجُلَكُمْ- بِالنَّصْبِ ، هَذَا من مُقَدَّمِ الْكَلَامِ وَمُؤَخَّرِهِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ .
وَقَرَأَ أَنَسٌ وَعَلْقَمَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالْخَفْضِ .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ لِأَنَسٍ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ، إنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا بِالْأَهْوَازِ وَنَحْنُ مَعَهُ ، فَذَكَرَ الطَّهُورَ ، فَقَالَ : اغْسِلُوا حَتَّى ذَكَرَ الرِّجْلَيْنِ وَغَسَلَهُمَا وَغَسَلَ الْعَرَاقِيبَ وَالْعَرَاقِبَ ، فَقَالَ أَنَسٌ : صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحُجَّاجُ . قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } -قَالَ : فَكَانَ أَنَسٌ إذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهُمَا وَقَالَ : نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْغَسْلِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ افْتَرَضَ اللَّهُ مَسْحَيْنِ وَغَسْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ . وَقَالَ : مَا كَانَ عَلَيْهِ الْغَسْلُ جُعِلَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْحُ أُسْقِطَ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْخَبَرِ يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لَمْ يَتَنَاقَضَا .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ ، فَقَدْ يُنْصَبُ عَلَى خِلَافِ إعْرَابِ الرَّأْسِ أَوْ يُخْفَضُ مِثْلُهُ ؛ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، وَأَصْحَابِهِ رُءُوسُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ لُغَةً وَشَرْعًا . وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ ؛ فَدَلَّ [ عَلَى ] أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُحْتَمَلَةٌ لُغَةً مُحْتَمَلَةٌ شَرْعًا ، لَكِنْ تُعَضَّدُ حَالَةُ النَّصْبِ عَلَى حَالَةِ الْخَفْضِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ وَمَا مَسَحَ قَطُّ ، وَبِأَنَّهُ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ ، فَقَالَ ( وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ ) ، ( وَوَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ من النَّارِ ) . فَتَوَعَّدَ بِالنَّارِ عَلَى تَرْكِ إيعَابِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ [ من الصحابة ] إنَّ الرِّجْلَيْنِ مَمْسُوحَتَانِ لَمْ يَعْلَمْ بِوَعِيدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَرْكِ إيعَابِهِمَا .
وَطَرِيقُ النَّظَرِ الْبَدِيعِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَتَانِ ، وَأَنَّ اللُّغَةَ تَقْضِي بِأَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ ، فَرَدَّهُمَا الصَّحَابَةُ إلَى الرَّأْسِ مَسْحًا ، فَلَمَّا قَطَعَ بِنَا حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَوَقَفَ فِي وُجُوهِنَا وَعِيدُهُ ، قُلْنَا : جَاءَتْ السُّنَّةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ النَّصْبَ يُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، وَدَخَلَ بَيْنَهُمَا مَسْحُ الرَّأْسِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَظِيفَتُهُ كَوَظِيفَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ لَا بَعْدَهُمَا ، فَذُكِرَ لِبَيَانِ التَّرْتِيبِ لَا لِيَشْتَرِكَا فِي صِفَةِ التَّطْهِيرِ ، وَجَاءَ الْخَفْضُ لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ يُمْسَحَانِ حَالَ الِاخْتِيَارِ عَلَى حَائِلٍ ، وَهُمَا الْخُفَّانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، فَعَطَفَ بِالنَّصْبِ مَغْسُولًا عَلَى مَغْسُولٍ ، وَعَطَفَ بِالْخَفْضِ مَمْسُوحًا عَلَى مَمْسُوحٍ ، وَصَحَّ الْمَعْنَى فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَنْتُمْ وَإِنْ قَرَأْتُمُوهَا بِالنَّصْبِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى الرُّءُوسِ مَوْضِعًا ، فَإِنَّ الرُّءُوسَ وَإِنْ كَانَتْ مَجْرُورَةً لَفْظًا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهَا مَفْعُولَةٌ ، فَكَيْفَ قَرَأْتهَا خَفْضًا أَوْ نَصْبًا فَوَظِيفَتُهَا الْمَسْحُ مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : يُعَارِضُهُ أَنَّا وَإِنْ قَرَأْنَاهَا خَفْضًا ، وَظَهَرَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَدْ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ بِفِعْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا ، كَقَوْلِهِ :
عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا *** . . .
وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى *** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
فِعْلًا فَرُوعَ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ *** بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنِعَامُهَا
وَكَقَوْلِهِ :
شَرَّابُ أَلْبَانٍ وَتَمْرٍ وَأَقِطٍ *** . . .
تَقْدِيرُهُ : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَسَقَيْتهَا مَاءً . وَمُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا ، وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَفَرَّخَتْ نِعَامُهَا . وَشَرَّابُ أَلْبَانٍ وَآكِلُ تَمْرٍ وَأَقِطٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَاهُنَا عَطَفَ وَشَرَكَ فِي الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولًا اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِلْحَقِيقَةِ .
قُلْنَا : وَهَا هُنَا عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرُّءُوسِ وَشَرَكَهُمَا فِي فِعْلِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولُهُ ، تَعْوِيلًا عَلَى بَيَانِ الْمَبْلَغِ ، فَقَدْ بَلَغَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ مَمْسُوحَةً تَحْتَ الْخُفَّيْنِ ؛ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْبَيَانِ ؛ وَقَدْ أَفْرَدْنَاهَا مُسْتَقِلَّةً فِي جُزْءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا ثَبَتَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَامَةٌ مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ، وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ . فَإِنْ قِيلَ : هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ بَاطِلٌ .
قُلْنَا : خَبَرُ الْوَاحِدِ أَصْلٌ عَظِيمٌ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا زَائِغٌ ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ ، وَقَدْ جَمَعْنَاهُ فِي جُزْءٍ .
الْجَوَابُ الثَّانِي : إنَّهَا مَرْوِيَّةٌ تَوَاتُرًا ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ ، وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى آحَادٍ ، كَمَا أُضِيفَ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ . وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } : اُخْتُلِفَ فِيهِمَا ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجَمَاعَةُ : إنَّهُمَا الْعَظْمَان النَّاتِئَانِ فِي الْمِفْصَلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالرِّجْلِ .
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : إنَّهُمَا الْعَظْمَانُ النَّاتِئَانِ فِي وَجْهِ الْقَدَمِ ؛ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ : الْكَعْبُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ . وَالْعَقِبُ هُوَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ ، وَتَقْتَضِي لُغَةُ الْعَرَبِ أَنَّ كُلَّ نَاتِئٍ كَعْبٌ ، يُقَالُ : كَعْبُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ إذَا بَرَزَ عَنْ صَدْرِهَا .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّرَاكُ ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ بِهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَايَةٍ لَهُمَا وَلَا بِبَعْضِ مَعْلُومٍ مِنْهُمَا ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْمَجْهُولِ فِي التَّكْلِيفِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْبَيَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَلَا من النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ ؛ فَبَطَلَ ؛ بَلْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِضِدِّهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ من النَّارِ ) . وَهَذَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ حِذَاءَهُ لَا فَوْقَهُ ، يَعْضُدُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَوْ قَالَ : أَرَادَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ لَقَالَ إلَى الْكِعَابِ ، كَمَا قَالَ : ( إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْكَعْبَيْنِ كَالْقَوْلِ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي السَّاقِ ، كَمَا أَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الْعَضُدِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّك إذَا غَسَلْت السَّاعِدَ إلَى الْمِرْفَقِ فَالْمِرْفَقُ آخِرُ الْعَضُدِ ، وَإِذَا غَسَلْت الْقَدَمَ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَالْكَعْبَانِ آخِرَ السَّاقَيْنِ ، فَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ وَافْهَمْهُ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ :
وَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ؛ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ فِي الرِّجْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ .
وَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْجَمِيعِ ، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ( خَلِّلُوا بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تَتَخَلَّلُهَا النَّارُ ) .
وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ ) .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالدَّلْكِ ، غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الرِّجْلَيْنِ ، لِأَنَّ تَخْلِيلَهَا بِالْمَاءِ يُقَرِّحُ بَاطِنَهَا ، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ ، وَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ من حَرَجٍ فِي أَقَلَّ من ذَلِكَ ، فَكَيْفَ فِي تَخْلِيلٍ تَتَقَرَّحُ بِهِ الْأَقْدَامُ !
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : نَزَعَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، لِأَنَّهُ قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } ؛ تَقْدِيرُهُ كَمَا سَبَقَ : وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ، فَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِنْجَاءَ ، وَذَكَرَ الْوُضُوءَ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ أَوَّلَ مَبْدُوءٍ بِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا لَا ذَاكِرًا وَلَا نَاسِيًا ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ وَتَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ إذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ -يُرِيدُ الْكَبِيرَ الَّذِي هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الْمِثْقَالِ- قِيَاسًا عَلَى فَمِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ وَتَفْرِيعُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ . وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ . وَلَا حُجَّةَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا بَيَّنَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ صِفَةَ الْوُضُوءِ خَاصَّةً ، وَلِلصَّلَاةِ شُرُوطٌ : من اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَبَيَانُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبَهَا وَأَمَرَ بِغَسْلِهَا مُعَقَّبَةً ، فَهَلْ يَلْزَمُ كُلَّ مُكَلَّفٍ أَنْ تَكُونَ مَفْعُولَةً مَجْمُوعَةً فِي الْفِعْلِ كَجَمْعِهَا فِي الذِّكْرِ ، أَوْ يُجْزِئُ التَّفْرِيقُ فِيهَا ؟
فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ : إنَّ التَّوَالِيَ سَاقِطٌ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ فَرَّقَهُ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَيُجْزِيهِ نَاسِيًا . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا يُجْزِيهِ نَاسِيًا وَلَا مُتَعَمِّدًا .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ : يُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُولِ وَلَا يُجْزِيهِ فِي الْمَمْسُوحِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : يُجْزِيهِ نَاسِيًا وَمُتَعَمِّدًا .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ الْأَصْلُ فِيهَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ أَمْرًا مُطْلَقًا فَوَالِ أَوْ فَرِّقْ ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَوْرِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوْرِ الْأَمْرُ بِأَصْلِ الْوُضُوءِ خَاصَّةً .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّوَالِي كَالصَّلَاةِ ، وَبِهَذَا نَقُولُ : إنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَالَاةُ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ كَالصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا ، فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَإِنَّ التَّوَالِيَ صِفَةٌ من صِفَاتِ الطَّهَارَةِ ، فَافْتَرَقَ فِيهَا الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ ، كَالتَّرْتِيبِ . وَاعْتِبَارُ صِفَةٍ من صِفَاتِ الْعِبَادَةِ بِصِفَةٍ أَوْلَى من اعْتِبَارِ عِبَادَةٍ بِعِبَادَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنًى لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ أَحَدٌ حَاشَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، لِعَظِيمِ إمَامَتِهِ ، وَسَعَةِ دِرَايَتِهِ ، وَثَاقِبِ فِطْنَتِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } الْآيَةَ . ( وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَمَرَّتَيْنِ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ وَثَلَاثًا فِي بَعْضِهَا فِي وُضُوءٍ وَاحِدٍ ) ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ -بَلْ كُلُّهُمْ- أَنَّ الْوَاحِدَةَ فَرْضٌ ، وَالثَّانِيَةَ فَضْلٌ ، وَالثَّالِثَةَ مِثْلُهَا ، وَالرَّابِعَةَ تَعَدٍّ ، وَأَعْلَنُوا بِذَلِكَ فِي الْمَجَالِسِ ، وَدَوَّنُوهُ فِي الْقَرَاطِيسِ ؛ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا وَإِنْ كَثُرُوا ، فَالْحَقُّ لَا يُكَالُ بِالْقُفْزَانِ ، وَلَيْسَ سَوَاءً فِي دَرْكِهِ الرِّجَالُ وَالْوِلْدَانِ .
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي : إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا أَنَّهُ أَوْعَبَ بِوَاحِدَةٍ ، وَجَاءَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ زَائِدَةً فَإِنَّ هَذَا غَيْبٌ لَا يُدْرِكُهُ بَشَرٌ ؛ وَإِنَّمَا رَأَى الرَّاوِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ غَرَفَ لِكُلِّ عُضْوٍ مَرَّةً ، فَقَالَ : تَوَضَّأَ مَرَّةً ، وَهَذَا صَحِيحٌ صُورَةً وَمَعْنًى ؛ ضَرُورَةً أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوعِبْ الْعُضْوَ بِمَرَّةٍ لَأَعَادَ ؛ وَأَمَّا إذَا زَادَ عَلَى غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْعُضْوِ أَوْ غَرْفَتَيْنِ فَإِنَّنَا لَا نَتَحَقَّقُ أَنَّهُ أَوْعَبَ الْفَرْضَ فِي الْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَجَاءَ مَا بَعْدَهَا فَضْلًا ، أَوْ لَمْ يُوعِبْ فِي الْوَاحِدَةِ وَلَا فِي الِاثْنَتَيْنِ حَتَّى زَادَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْمَاءِ وَحَالِ الْأَعْضَاءِ فِي النَّظَافَةِ وَتَأْتِي حُصُولُ التَّلَطُّفِ فِي إدَارَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَيْهَا ، فَيُشْبِهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِهِ بِأَنْ يُكَرِّرَ لَهُمْ الْفِعْلَ ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوعِبَ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَجَرَى مَعَ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ لَهُمْ بِأَدْنَى أَحْوَالِهِمْ إلَى التَّخَلُّصِ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُوَقِّتْ مَالِكٌ فِي الْوُضُوءِ مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا إلَّا مَا أَسْبَغَ .
قَالَ : وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فِي التَّوْقِيتِ ، يُرِيدُ اخْتِلَافًا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَعْنَى الْإِسْبَاغِ لَا صُورَةُ الْأَعْدَادِ ، وَقَدْ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ ، وَيَدَهُ بِغَرْفَتَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَجْهَ ذُو غُضُونٍ وَدَحْرَجَةٍ وَاحْدِيدَابٍ ، فَلَا يَسْتَرْسِلُ الْمَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ من مَرَّةٍ بِخِلَافِ الذِّرَاعِ فَإِنَّهُ مُسَطَّحٌ فَيَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَاءِ وَإِسَالَتُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : ( فَقَدْ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً ، وَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ ) . ( وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَقَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ ) . ( ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَقَالَ : هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ من قَبْلِي ، وَوُضُوءُ أَبِي إبْرَاهِيمَ ) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَعْدَادٌ مُتَفَاوِتَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْبَاغِ ، يَتَعَلَّقُ الْأَجْرُ بِهَا مُضَاعَفًا عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهَا .
قُلْنَا : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ تَصِحَّ ، وَقَدْ أَلْقَيْت إلَيْكُمْ وَصِيَّتِي فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَجْلِسٍ أَلَّا تَشْتَغِلُوا من الْأَحَادِيثِ بِمَا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ ، فَكَيْفَ يَنْبَنِي مِثْلُ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى أَخْبَارٍ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ؛ عَلَى أَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا ، وَهُوَ أَنَّهُ ( تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ ) ، فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ ، وَهُوَ الْإِيعَابُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَالِهَا . ثُمَّ تَوَضَّأَ بِغَرْفَتَيْنِ وَقَالَ : لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ تَكَلُّفِ غَرْفَةٍ ثَوَابٌ . وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا وَقَالَ : هَذَا وُضُوئِي ؛ مَعْنَاهُ الَّذِي فَعَلْته رِفْقًا بِأُمَّتِي وَسُنَّةً لَهُمْ ؛ وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى ثَلَاثٍ ؛ لِأَنَّ الْغَرْفَةَ الْأُولَى تَسُنُّ الْعُضْوَ لِلْمَاءِ وَتُذْهِبُ عَنْهُ شُعْثَ التَّصَرُّفِ . وَالثَّانِيَةُ تَرْحَضُ وَضَرَ الْعُضْوِ ، وَتُدْحِضُ وَهَجَهُ . وَالثَّالِثَةُ تُنَظِّفُهُ ، فَإِنْ قَصَّرْت دُرْبَةُ أَحَدٍ عَنْ هَذَا كَانَ بَدَوِيًّا جَافِيًا فَيُعَلَّمُ الرِّفْقَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ ، وَيُشْرَعُ لَهُ سَبِيلُ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَنْهَضَ إلَيْهَا ، وَيَتَقَدَّمَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : ( فَمَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ) .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَسْلَ الْوَجْهِ مُطْلَقًا ، وَتَمَضْمَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ وَجْهَ النَّظَافَةِ فَتَعَيَّنَ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ ، ثُمَّ لَازَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّوَاكَ فِعْلًا ، وَنَدَبَ إلَيْهِ أَمْرًا ، حَتَّى قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : ( لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ ) . وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( أَنَّهُ إذَا قَامَ من اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ ) ، وَمَا غَفَلَ عَنْهُ قَطُّ ؛ بَلْ كَانَ يَتَعَاهَدُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَمِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ ، لَا من فَضَائِلِهِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } :
فِي التَّيَمُّمِ ، فَأَدْخَلَ الْبَاءَ فِيهِ ، كَمَا أَدْخَلَهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { بِرُءُوسِكُمْ } ؛ وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ الْمَمْسُوحِ بِهِ ؛ وَأَكَّدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { مِنْهُ } وَقَدْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ .
وَزَعَمَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَوْلَهُ { مِنْهُ } إنَّمَا جَاءَ لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ نَقْلِ التُّرَابِ إلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْحِجَارَةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَفَادَتْ { مِنْهُ } وُجُوبَ ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ ، فَلَوْلَا ذَلِكَ وَتَرَكْنَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَجَازَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الصَّعِيدِ وَضَرْبِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدَيْنِ إلَى الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهُ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ { مِنْهُ } لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ تَعَبُّدًا ، ثُمَّ ضَرَبَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ الصَّعِيدَ وَجْهُ الْأَرْضِ كَيْفَمَا كَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : فَإِنْ قِيلَ : فَبَيِّنُوا لَنَا بَقِيَّةَ الْآيَةِ .
قُلْنَا : أَمَّا قَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَحُكْمُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْمَجِيءِ من الْغَائِطِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ وَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ ، وَالْقَوْلُ فِيهَا وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَيَنْتَظِمُ الْمَعْنَى بِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَنِظَامِهَا :
رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، تَقْدِيرُهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ من نَوْمٍ ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ ، أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا .
الثَّانِي : تَقْدِيرُهَا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا تِلَاوَةً وَتَقْدِيرًا إلَى آخِرِهَا .
الثَّالِثُ : تَقْدِيرُهَا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ . وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ .