الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ من الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ من الْخَاسِرِينَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ } :
قَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بِالْمَدِينَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى الْآنَ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ الْيَوْمَ كَذَا بِمَعْنَى الْآنَ ، كَأَنَّهُ وَقْتُ الزَّمَانِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ :
وَبَيَانُهُ أَنَّ كَوْنَهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضَعِيفٌ . وَأَمَّا كَوْنُهُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ فَصَحِيحٌ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ غَيْرَهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ } هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِعُمَرَ : لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةُ لَاِتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِيدًا . فَقَالَ عُمَرُ : ( قَدْ عَلِمْت فِي أَيِّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ) . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ ، فَرَاجَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ مَا رَاجَعَهُ عُمَرُ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ رَاجِعَةً إلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيَّامًا سِوَاهَا ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ :
وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ فِي سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ ، أَرَادَ : ( الْيَوْمَ عَرَّفْتُكُمْ بِنَفْسِي بِأَسْمَائِي وَصِفَاتِي وَأَفْعَالِي فَاعْرِفُونِي ) .
الثَّانِي : الْيَوْمَ قَبِلْتُكُمْ وَكَتَبْت رِضَائِي عَنْكُمْ لِرِضَائِي لِدِينِكُمْ ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الدِّينِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ .
الثَّالِثُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ ؛ أَيْ اسْتَجَبْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ ، وَدُعَاءَ نَبِيِّكُمْ لَكُمْ . ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ( أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ) .
الرَّابِعُ : الْيَوْمَ أَظْهَرْتُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَمْعِ الْحَرَمَيْنِ لَهُ أَوْ بِتَعْرِيفِ ذَلِكَ فِيهِ . الْخَامِسُ : الْيَوْمَ طَهَّرْت لَكُمْ الْحَرَمَ عَنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ مَعَكُمْ ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ ، وَلَا كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ فِي مَوْقِفِهِمْ ؛ بَلْ وَقَفُوا كُلُّهُمْ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ .
السَّادِسُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ الْفَرَائِضَ وَانْقَطَعَ النَّسْخُ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ بِكَمَالِ الدِّينِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ يُصَرِّفُ نَبِيَّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَرَجَاتِ الْإِسْلَامِ وَمَرَاتِبِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً حَتَّى أَكْمَلَ شَرَائِعَهُ وَمَعَالِمَهُ وَبَلَغَ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ تَمَّتْ بِهِ النِّعْمَةُ وَرَضِيَهُ دِينًا ، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ ؛ يُرِيدُ : فَالْزَمُوهُ وَلَا تُفَارِقُوهُ وَلَا تُغَيِّرُوهُ ، كَمَا فَعَلَ سِوَاكُمْ بِدِينِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ من هَذِهِ الْأَقْوَالِ : كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ، وَقَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّ جَمِيعَهَا مُرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ آيَةٌ وَلَا ذُكِرَ بَعْدَهُ حُكْمٌ لَا يَصِحُّ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ قَالَ : ( آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ { يَسْتَفْتُونَك } وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ( آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا ) . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَسِيرٍ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي تَارِيخِهِ حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ } أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، فَهَذَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } :
فِي ذِكْرِ الطَّعَامِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَطْعُومٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُ الِاشْتِقَاقِ . وَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي أَلَّا يُؤْكَلَ طَعَامُهُمْ لِقِلَّةِ احْتِرَاسِهِمْ عَنْ النَّجَاسَاتِ ، لَكِنَّ الشَّرْعَ سَمَحَ فِي ذَلِكَ ؟ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا يَتَوَقَّوْنَ الْقَاذُورَاتِ ، وَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ مُرُوءَةٌ يُوصِلُونَهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسَ الَّذِينَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ لَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ وَيُسْتَقْذَرُونَ وَيُسْتَنْجَسُونَ فِي أَوَانِيهِمْ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ . فَقَالَ : أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا } . وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ ، وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ قَالَ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ } . قَالَ : وَهُوَ صَحِيحٌ ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَغَسْلُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ فَرْضٌ ، وَغَسْلُ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَضْلٌ وَنَدْبٌ ؛ فَإِنَّ أَكْلَ مَا فِي آنِيَتِهِمْ يُبِيحُ الْأَكْلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ ( أَنَّ عُمَرَ تَوَضَّأَ من جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ ) ، وَصَحَّحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرَاجِمِ .
وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْلَ طَعَامِهِمْ رُخْصَةٌ ، فَإِذَا احْتَجْت إلَى آنِيَتِهِمْ فَغَسْلُهَا عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلرُّخْصَةِ .
قُلْنَا : رُخْصَةُ أَكْلِ طَعَامِهِمْ حِلٌّ تَأَصَّلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاسْتَقَرَّ ، فَلَا يَقِفُ عَلَى مَوْضِعِهِ ؛ بَلْ يَسْتَرْسِلُ عَلَى مَحَالِّهِ كُلِّهَا ، كَسَائِرِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ ، وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طَعَامِهِمْ : قَالَ لِي شَيْخُنَا الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّابُلُسِيُّ فِي ذَلِكَ كَلَامًا كَثِيرًا ، لُبَابُهُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَذِنَ فِي طَعَامِهِمْ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ غَيْرَهُ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَلَقُوا بِذَيْلِ نَبِيٍّ جُعِلَتْ لَهُمْ حُرْمَةً عَلَى أَهْلِ الْأَنْصَابِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : ( تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ الْمُطْلَقَةُ إلَّا مَا ذَبَحُوا يَوْمَ عِيدِهِمْ أَوْ لِأَنْصَابِهِمْ . وَقَالَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ : تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ غَيْرِ الْمَسِيحِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ نَذْكُرُ لَكُمْ مِنْهَا قَوْلًا بَدِيعًا :
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ من الذَّبَائِحِ ، وَأَذِنَ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَقُولُونَ : [ إنَّ ] اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَإِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أُكِلَ طَعَامُهُمْ ، وَإِنْ ذَكَرُوا فَقَدْ عَلِمَ رَبُّك مَا ذَكَرُوا ، وَأَنَّهُ غَيْرُ الْإِلَهِ ، وَقَدْ سَمَحَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ لَهُ .
وَقَدْ قُلْت لِشَيْخِنَا أَبِي الْفَتْحِ الْمَقْدِسِيِّ : إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ غَيْرَ اللَّهِ . فَقَالَ لِي : هُمْ من آبَائِهِمْ ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَبَعًا لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ .
وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ قَالَ : لَوْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ الْإِلَهَ حَقِيقَةً لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى شَرْطِ الْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَعْبُودَ ، فَلَيْسَتْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ ، وَاشْتِرَاطُهُمْ التَّسْمِيَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ .
قُلْنَا : تُعْقَلُ صُورَةُ التَّسْمِيَةِ ، وَلَهَا حُرْمَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسَمِّي مَنْ يُسَمِّي . وَلَوْ شَرَطْنَا الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مَا جَازَ أَكْلُ كَثِيرٍ من ذَبْحِ مَنْ يُسَمِّي من الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ ذَبْحًا يُذْكَرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَصْرِيحًا . فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيُصِيبُ قَصْدَهُ فَهُوَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ . وَأَمَّا الَّذِي يُسَمِّيهِ فَيُخْطِئُ قَصْدَهُ فَذَلِكَ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ ؛ فَإِذَا قَالَ " اللَّهُ " وَهُوَ يَقْصِدُ الْمَسِيحَ ، أَوْ الْمَسِيحُ وَهُوَ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَكِنَّهُ ضَلَّ عَنْ الطَّرِيقِ وَسَمَحَ لَك فِيهِ الْإِلَهُ الَّذِي ضَلَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْهُ ، وَخَفَفَ حَالُهُمْ بِهَذِهِ الشُّعْبَةِ الْخَفِيَّةِ من الْقَصْدِ إلَيْهِ ، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ .
[ فَإِنْ قِيلَ : فَمَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ ، وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَإِنْ أَكَلُوهَا فَلَا نَأْكُلُهَا نَحْنُ كَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ ، وَمِنْ طَعَامِهِمْ ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا ، فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ] .
وَأَمَّا ذَبَائِحُ الْكِتَابِيِّينَ فَقَدْ سُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَمَّا يُذْبَحُ لِكَنِيسَةٍ اسْمُهَا سَرْجِسُ ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ : تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَإِنْ ذُكِرَ غَيْرُ اللَّهِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسَمِ الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ ، وَسَنُشِيرُ إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } تَضَمَّنَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ ، فَهَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ من أُصُولِ الْفِقْهِ -وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ النَّبِيُّ فَاتَّبَعَهُ ، هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ من دُعَائِهِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوْضِعِهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْعٍ دَخَلَ فِي حُكْمِهِمْ ، أَوْ كَانَ عَلَى شَرْعٍ دُرِسَ عَنْهُ . إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ من الْعَرَبِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَأَلْحَقَهُمْ بِالْكِتَابِيِّينَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ . وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ : { وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا } . وَقَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ ، وَقَالَ : لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إشَارَةً إلَى مَا قُلْنَاهُ من تَعَلُّقِهِمْ بِاللَّفْظِ ؛ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ . وَعَنْ عُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا مَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِيَةُ : لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ . وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَعَلِيٌّ . وَقَالَ : لِأَنَّهُمْ لَا يُحَلِّلُونَ مَا تُحَلِّلُ النَّصَارَى وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ . وَهَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْهُمْ ، وَلَا دَانُوا بِدِينِهِمْ ، وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِهِ لَوَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَالِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِمَا قَدَّمْنَاهُ من الْأَدِلَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ } ، إلَى قَوْلِهِ : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } .
دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ من الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيَرْفَعَ الشُّكُوكَ وَيُزِيلَ الِاعْتِرَاضَاتِ [ وَلَكِنَّ الْخَوَاطِرَ الْفَاسِدَةَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِرَاضَاتِ ] ، وَيَخْرُجَ إلَى تَطْوِيلِ الْقَوْلِ . وَلَقَدْ سُئِلْت عَنْ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا : هَلْ يُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ طَعَامًا مِنْهُ ؟ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَقُلْت : تُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ ذَكَاةً عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا ، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَه فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا فِي دِينِنَا ، إلَّا مَا كَذَّبَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ .
وَلَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهُمْ يُعْطُونَنَا أَوْلَادَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ مِلْكًا فِي الصُّلْحِ فَيَحِلُّ لَنَا وَطْؤُهُنَّ ، فَكَيْفَ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَالْأَكْلُ دُونَ الْوَطْءِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ من الْمُؤْمِنَاتِ } قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ وَاحْتِمَالَ اللَّفْظِ لَأَنْ يَكُونَ الْمُحْصَنَاتُ من الْمُؤْمِنَاتِ الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي قَصَصٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ مِنْهَا أَنَّ امْرَأَةً من هَمْدَانَ يُقَالُ لَهَا نُبَيْشَةُ بَغَتْ ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَذْبَحَ نَفْسَهَا فَأَدْرَكُوهَا فَقَدُّوهَا ، فَذَكَرُوهُ أَيْضًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ : ( انْكِحُوهَا نِكَاحَ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ ) .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : ( إحْصَانُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ من الْجَنَابَةِ وَتُحْصِنَ فَرْجَهَا من الزِّنَا ) . وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَقَالَ : من نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَحِلُّ لَنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَحِلُّ لَنَا ، ثُمَّ تَلَا : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } . قَالَ : فَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ حَلَّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَحِلَّ لَنَا نِسَاؤُهُ .
وَمِنْ هَاهُنَا يَخْرُجُ أَنَّ نِكَاحَ إمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُنَّ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ . فَإِنْ قِيلَ : وَكَذَلِكَ الْحَرَائِرُ .
قُلْنَا : حَلُّوا بِدَلِيلٍ آخَرَ . وَقِيلَ : عَنَى بِذَلِكَ نِسَاءَ بَنْيِ إسْرَائِيلَ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ دَانُوا بِدِينِ بَنِي إسْرَائِيلَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ لِقَوْلِهِ : فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } هَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نَفْسُ الْإِعْطَاءِ وَالِالْتِزَامِ ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ؟
قُلْنَا : أَمَّا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَقَدْ تَلَوْته عَلَيْكُمْ . وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَيَقُولُونَ : إنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ } . وَذِكْرُ الْجِزْيَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِتَالِ لَا فِي النِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ كَرِهُوا نِكَاحَ الْحَرْبِيَّةِ لِئَلَّا يُولَدَ لَهُ فِيهِمْ فَيَتَنَصَّرُوا وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } :
قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَأَرَادَ بِهِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا غَيْرَ مُتَعَالِنِينَ بِالزِّنَا كَالْبَغَايَا ، وَلَا مِمَّنْ يَتَّخِذُ أَخْدَانًا ، مَعْنَاهُ يَخْتَصُّ بِزَانٍ مَعْلُومٍ وَبِزَانِيَةٍ مَعْلُومَةٍ . وَفِي هَذَا تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . . } الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .