الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { الطَّيِّبَاتُ } :
رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ : { جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ ، وَقَالَ :
قَدْ أَذِنَّا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : أَجَلْ ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ : فَأَمَرَ أَنْ نَقْتُلَ الْكِلَابَ بِالْمَدِينَةِ ، فَقَتَلْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا ، فَتَرَكْته وَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْته ، فَأَمَرَنِي فَرَجَعْت إلَى الْكَلْبِ فَقَتَلْته ، فَجَاءُوا فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا يَحِلُّ لَنَا من هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْت بِقَتْلِهَا ، فَسَكَتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : { الطَّيِّبَاتُ } :
وَهِيَ ضِدُّ الْخَبِيثَاتِ ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَالطَّيِّبُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُلَائِمُ النَّفْسَ وَيُلِذُّهَا .
وَالثَّانِي : مَا أَحَلَّ اللَّهُ . وَالْخَبِيثُ : ضِدُّهُ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } قِيلَ : مَعْنَاهُ الْكَوَاسِبُ ، يُقَالُ : جَرَحَ إذَا كَسَبَ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } فَكُلُّ كَاسِبٍ جَارِحٌ إذَا كَسَبَ كَيْفَمَا كَانَ ، وَمِمَّنْ كَانَ ، إلَّا أَنَّ هَاهُنَا نُكْتَةً ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } . فَنَحْنُ فَرِيقٌ وَالطَّيِّبَاتُ فَرِيقٌ ، وَمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ فَرِيقٌ غَيْرُ الِاثْنَيْنِ ، وَذَلِكَ من الْبَهَائِمِ الَّتِي يَعْلَمُهَا بَنُو آدَمَ ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَعْلُومَةً وَهِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي أَكْلِ مَا صِيدَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا ؟ قُلْنَا : يُبَيِّنُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ؛ أَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ : { مُكَلِّبِينَ } ، كَلَّبَ الرَّجُلُ وَأَكْلَبَ إذَا اقْتَنَى كَلْبًا . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ من أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } . وَالضَّارِي : هُوَ الَّذِي ضَرَّى الصَّيْدَ فِي اللُّغَةِ .
وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ ، وَأَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى . فَقَالَ : إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك [ الْمُعَلَّمَ ] وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك ؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ قَتَلَ ، مَا لَمْ يُشْرِكْهُ كَلْبٌ آخَرُ . قَالَ : وَإِنْ أَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ [ مِنْهُ ] ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ . وَعِنْدَ جَمِيعِهِمْ : { فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ }
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ؟ قَالَ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ . وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْهُ نَحْوَ الْأَوَّلِ عَنْ عَدِيٍّ . وَفِيهِ : { فَإِنْ صِدْت بِكَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ . فَقَدْ فَسَّرَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ التَّكْلِيبَ وَالتَّعْلِيمَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك } . وَالْمُعَلَّمُ : هُوَ الَّذِي إذَا أَشْلَيْتَهُ انْشَلَى ، وَإِذَا زَجَرْته انْزَجَرَ ، فَهَذَا رُكْنُ التَّعْلِيمِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ . فَلَوْ اسْتَرْسَلَ عَلَى الصَّيْدِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَغْرَاهُ صَاحِبُهُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يُؤْكَلُ بِهِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُؤْكَلُ ؛ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَكْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الِانْشِلَاءُ وَانْزَجَرَ عِنْدَ الِانْزِجَارِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الصَّيْدِ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) . فَاعْتَبَرَ الِاسْتِرْسَالَ مِنْهُ وَالذِّكْرَ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَغَرِيَ فِي سَيْرِهِ : إنَّهَا نِيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْكَلْبِ ، فَإِنَّهُ عَادَ إلَى رَأْيِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَرَجَ لِنَفْسِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إنْ أَكَلَ الْكَلْبَ : فَفِيهَا رِوَايَتَانِ :
إحَدَاهُمَا : أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِثْلُهُ ، وَالثَّانِي : يُؤْكَلُ . وَالرِّوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى حَدِيثَيْ عَدِيٍّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ . وَحَدِيثُ عَدِيٍّ أَصَحُّ ، وَهُوَ الَّذِي يَعْضُدُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ ؛ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ يُحْمَلُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ : { فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } . فَجَعَلَهُ خَوْفًا ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْأَصْلُ فِي الْحَيَوَانِ التَّحْرِيمُ ، لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّكَاةِ وَالصَّيْدُ ، وَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَوْلَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَمَا جَازَ الْبِدَارُ إلَى هَجْمِ الصَّيْدِ من فَمِ الْكَلْبِ ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَأْكُلَ ، فَيَجِبُ إذًا التَّوَقُّفُ حَتَّى نَعْلَمَ حَالَ فِعْلِ الْكَلْبِ بِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلْبَ قَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ نِسْيَانٍ ، وَقَدْ يَذْهَلُ الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ ، فَكَيْفَ بِالْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ أَنْ تَسْتَقْصِيَ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْتِقْصَاءَ ! وَقَدْ أَخَذْنَا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } :
عَامٌّ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ . وَقَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ : إنَّ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ لَا يُؤْكَلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ ) . وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مِثْلَهُ لَقَالَهُ ، وَنَحْنُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَأْتِيَ من النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظٌ يَقْتَضِي صَرْفَنَا عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنْ أَدْرَكْت ذَكَاةَ الصَّيْدِ فَذَكِّهِ دُونَ تَفْرِيطٍ ، فَإِنْ فَرَّطْت لَمْ يُؤْكَلْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْك ، وَفِي قَوْلِهِ : { إنْ وَجَدْت مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْهُ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ } ، نَصٌّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الذَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ صَاحِبُهُ إلَيْك وَتَجْتَمِعَا فَيَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا : قَدْ سَمَّيْت ؛ فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { فَإِنْ أَرْسَلْت كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ } ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ ، إنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى الْعَبَثِ لَا عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْأَكْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَدْرِي أَنَّا إذَا أَرْسَلْنَا غَيْرَ الْمُعَلَّمِ هَلْ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ أَمْ يَعْقِرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا الْفَهْدُ وَنَحْوُهُ إذَا عُلِّمَ فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ صَادَ عَلَيَّ ابْنُ عُرْسٍ لَأَكَلْته ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلْبٌ [ كُلُّهُ ] فِي مُطْلَقِ اللُّغَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ، فَأَمَّا جَوَارِحُ الطَّيْرِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَة : فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ : ( أَنَّ الْبَازِيَ وَالصَّقْرَ وَالْعُقَابَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ من الطَّيْرِ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا يَفْقَهُ مَا يَفْقَهُ الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ صَيْدُهُ ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ . وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ عَلِيٍّ لَا نُبَالِي بِهِ ) . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا ؛ هَلْ يُؤْخَذُ صَيْدُهَا من ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ من الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يُؤْخَذُ من ظَاهِرِ الْقُرْآنِ من قَوْلِهِ : { مُكَلِّبِينَ } . وَالتَّكْلِيبُ هُوَ التَّضْرِيَةُ بِالشَّيْءِ وَالتَّسْلِيطُ عَلَيْهِ لُغَةً ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مُعَلَّمٍ مُكَلَّبٍ ضَارٍ . وَقَالَ : أُخِذَ من الْحَدِيثِ ، وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي ، فَقَالَ : مَا أَمْسَكَ عَلَيْك فَكُلْ } . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَعَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْلَ فِي صَيْدِ الْبَازِي عَلَى مَا عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَكْلَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ ، وَهُوَ الْأَكْلُ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَأْتِ لِبَيَانِ التَّحْلِيلِ فِي الْمُعَلَّمِ من الْجَوَارِحِ الْأَكْلَ ، وَإِنَّمَا مَسَاقُهَا تَحْلِيلُ صَيْدِهِ ، وَقَالُوا فِي تَأْوِيلِهِ : أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ . فَحَذَفَ " صَيْدَ " وَهُوَ الْمُضَافُ ، وَأَقَامَ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ ، وَاَلَّذِي عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُبْتَدَأٌ ، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } . وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَقَائِلَةٍ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ *** وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } :
عَامٌّ بِمُطْلَقِهِ فِي كُلِّ مَا أَمْسَكَ الْكَلْبُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ من جِنْسٍ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ ، أَوْ من جُزْءٍ كَاللَّحْمِ وَالْجِلْدِ دُونَ الدَّمِ . وَهَذَا عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ سَابِقٍ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } :
هَلْ يَتَضَمَّنُ مَا إذَا غَابَ عَنْك الصَّيْدُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : ( إذَا غَابَ عَنْك فَلَيْسَ بِمُمْسِكٍ عَلَيْك ) ، وَإِذَا بَاتَ فَلَا تَأْكُلْهُ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُؤْكَلُ وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { كُلْ مَا أَصْمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت } . فَالْإِصْمَاءُ فِي اللُّغَةِ : الْإِسْرَاعُ ، أَيْ كُلْ مَا قَتَلَ مُسْرِعًا ، وَأَنْتَ تَرَاهُ ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْت : أَيْ مَا مَضَى من الصَّيْدِ وَسَهْمُك فِيهِ ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
فَهُوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ *** مَا لَهُ لَا عُدَّ من نَفَرِهِ
وَالصَّحِيحُ أَكْلُهُ وَإِنْ غَابَ مَا لَا تَجِدُهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ أَوْ عَلَيْهِ أَثَرٌ غَيْرُ أَثَرِ سَهْمِك .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { قَالَ لَهُ : كُلْهُ مَا لَمْ تَجِدْهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَسَهْمُك قَتَلَهُ أَمْ لَا } ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ : ( إذَا رَمَيْت بِسَهْمِك فَغَابَ عَنْك فَأَدْرَكْته فَكُلْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مَا لَمْ يُنْتِنْ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا : زَادَ النَّسَائِيّ { وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبْعٌ فَكُلْهُ } .