الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ { أَنَّ قُرَيْشًا كَلَّمَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ من هُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ ؛ فَأْتِنَا من الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَك .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ ؟ قَالُوا : تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا . قَالَ لَهُمْ : فَإِنْ فَعَلْت تُصَدِّقُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ ؛ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْت لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا شِئْت ، إنْ شِئْت أَصْبَحَ ذَهَبًا ، وَلَئِنْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ ، وَإِنْ شِئْت فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ ) ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { يَجْهَلُونَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } : يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمُهُمْ ، وَانْتَهَتْ إلَيْهِ قُدْرَتُهُمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ إنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا من هُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِاَللَّهِ } وَإِنْ كَانَ غَايَةُ أَيْمَانِ الْكُفَّارِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي قَدَّمْنَا ، فَإِنَّهُ غَايَةُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ) . وَهَذَا يُفِيدُ الْمَنْعَ من الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ .
وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لَهُ مَعَ اللَّهِ ، أَوْ مُعَظِّمًا لَهُ من دُونِهِ ؛ فَهَذَا كُفْرٌ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ ، بِأَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ مَعْنًى مِمَّا يَلْزَمُهُ جِنْسُهُ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً بِوَجْهِ مَا إذَا رَبَطَهُ بِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ، وَهُوَ مَعْنَى اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِيمَا إذَا قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ، أَوْ عَبْدِي حُرٌّ ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ، وَهِيَ أَصْلٌ لِغَيْرِهَا من الْأَيْمَانِ ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَتَرَكَّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ : وَهِيَ : مَا إذَا قَالَ : الْأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ إنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا . وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفَةً بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ كَانُوا يَقُولُونَ : عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَهُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ ، ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّوَرُ حَتَّى آلَتْ بَيْنَ النَّاسِ إلَى صُورَةٍ هَذِهِ أُمُّهَا .
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَقُولُ : يَلْزَمُهُ إطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إذَا حَنِثَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " الْأَيْمَانُ " جَمْعُ يَمِينٍ ، وَهُوَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينٌ ، وَحَنِثَ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ . وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إذَا حَنِثَ . وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ فَيَلْزَمُهُ فِيهَا ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ . وَكَانَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا مَرْجِعُهُ إلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا ثَلَاثٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ .
وَقَدْ جَمَعْت فِي الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً إبَّانَ كُنْت بِإِفْرِيقِيَّةَ ، وَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ فِيهَا عَلَيَّ ، فَاسْتَخَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُتَوَسِّطٍ من الْأَقْوَالِ لَمْ أَخْرُجْ فِيهِ عَنْ جَادَّةِ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا عَنْ أَصْلِ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
أَمَّا أَصْلُ مَالِكٍ فَقَوْلُهُ فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ ، وَقَبْلَ ذَلِكَ ، يَحْلِفُونَ فِي الْبَيْعَةِ وَيَتَوَثَّقُونَ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ من الْعُهُودِ فِي الْمُحَالَفَةِ ، وَيُدْخِلُونَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ الْيَمِينَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ ؛ فَلَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ وَأَصْحَابُهُ رَأَوْا أَنَّ الْحَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يَتْرُكُوا مَعَهُ أَزْوَاجَهُ مُحْتَبَسِينَ فِي النِّكَاحِ ، وَمِمَّا يَأْخُذُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الطَّلَاقُ فَتَحَرَّجُوا فِي ذَلِكَ ، وَقَالُوا : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ .
وَأَمَّا طَرِيقُ الْأَدِلَّةِ فَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا يَخْلُو أَنْ يُرَادَ بِهَا هَاهُنَا الْجِنْسُ أَوْ الْعَهْدُ ، فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُودُ قَوْلُك بِاَللَّهِ ، فَيَكُونُ مَا قَالَهُ الْفِهْرِيُّ . وَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاقُ جِنْسٌ ، فَيَدْخُلُ فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَدُهُ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُلَ من كُلِّ جِنْسٍ مَعْنًى وَاحِدٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْسِ الْمَعْنَى كُلُّهُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ إذْ قَدْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ يَمِينًا ، وَنَافِذَةً فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ مُعَيَّنًا فِي دَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ كَبْشٍ وَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ إجْمَاعًا ؛ فَتَبَصَّرْنَا ذَلِكَ ، وَأَخَذْنَا بِالْوَسَطِ من هُ ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ ، وَهُنَاكَ يَسْتَوْفِي النَّاظِرُ غَرَضَهُ من هَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ .