الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ضَرْبُ الْأَجَلِ لِلْمَوَاعِيدِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَمَعْنًى قَدِيمٌ أَسَّسَهُ اللَّهُ فِي الْقَضَايَا وَحَكَمَ بِهِ لِلْأُمَمِ ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي الْأَعْمَالِ ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَجَلٍ ضَرَبَهُ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي مَدَّهَا لِجَمِيعِ الْخَلِيقَةِ فِيهَا ، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ إذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونَ ؛ بَيْدَ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ الْخَلْقِ التَّأَنِّي وَتَقْسِيمَ الْأَوْقَاتِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لِيَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتٌ . وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ الْمُؤَجَّلِ لِأَجَلِهِ ، فَجَاءَ الْأَجَلُ ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ، فَخَرَجَ لِوَعْدِ رَبِّهِ ، فَزَادَ اللَّهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، وَأَبْطَأَ مُوسَى فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ التَّأَخُّرِ لِعُذْرٍ حَتَّى قَالُوا : إنَّ مُوسَى ضَلَّ أَوْ نَسِيَ ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ ، وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ ، وَعَبَدُوا إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَلَى الْأَجَلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ ؛ من وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ ، فَيَكُونُ الْأَجَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا قَدَّرَ الزِّيَادَةَ بِاجْتِهَادِهِ ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ تَكُونَ [ الزِّيَادَةُ ] مِثْلَ ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثَ مَا ضَرَبَهُ لَهُ من الْمُدَّةِ . وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ من التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا يَطْرَأُ من الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : التَّارِيخُ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيَالِيِ دُونَ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ الشُّهُورِ ، وَبِهَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَيَّامِ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ ( صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ) . وَالْعَجَمُ تُخَالِفُنَا ذَلِكَ فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ ، وَحِسَابُ الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اتَّفَقَ كَثِيرٌ من الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَعَشْرٌ من ذِي الْحِجَّةِ ، وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ لِمُوسَى غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ فَدَى إسْمَاعِيلَ من الذَّبْحِ ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ الْحَجَّ ، وَجَعَلَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ .
وَهَذَا إنْ ثَبَتَ من طَرِيقِ الْخَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَالْأَيَّامُ الْعَشْرُ ذَاتُ فَضْلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْوَقْتُ مَعْنًى غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَالْمِيقَاتُ : هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِعَمَلٍ .