قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي } إلى قوله تعالى : { فإن ربك غفور رحيم } :
هذه الآية نزلت يوم عرفة في حجة الوداع وقيل إنه {[8204]} لم ينزل بعدها ناسخ لها . ووجه القول فيها إن قوله تعالى : { قل لا أجد } الآية اقتضت أن المحرمات هي المذكورات فيها . واقتضت عند قوم تحليل ما عداها وهم الجمهور لأن دليل خطابها أقوى أدلة الخطاب .
وزعم بعض المنكرين لدليل الخطاب أنها لا تقتضي تحليل ما عداها {[8205]} والذين ذهبوا إلى القول الأول لما رأوا أنه قد جاءت في القرآن والحديث محرمات أخرى كالمنخنقة والموقوذة والخمر والحمر الأهلية ولحم بني آدم أشكل تأويل الآية عليهم فاختلفوا في ذلك . فذهب قوم إلى أنها منسوخة بالسنة {[8206]} وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم أشياء كأكل الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ونحو ذلك {[8207]} وهذا قول ضعيف لأوجه منها : نسخ القرآن بالسنة غير المتواترة منها كثير ، ومنها أنه يمكن الجمع بين ما حرم النبي صلى الله عليه وسلم وما حرم الله تعالى في سائر القرآن وبين هذه الآية . وأي حاجة إلى النسخ مع إمكان الجمع . ومنها أنه خبر ، والأخبار لا تنسخ{[8208]} . وذهب الجمهور إلى أنها محكمة واختلفوا فيما تقتضيه . فرأى قوم أنها تقتضي الحصر وأن كل ما حرم الله تعالى محصور فيها وأن ما عدا ذلك إنما تحريمه تحريم كراهة وتنزيه {[8209]} كلحم الحمر لأنها كانت تأكل العذرة {[8210]} فكره أكلها لذلك . وكلحم السباع لأنها تقسي القلب ونحو ذلك . وإلى هذا ذهب سعيد بن جبير والشعبي{[8211]} . ورأى قوم أنها خرجت على سبب لأنها جواب لقوم سألوا عن أشياء فأخبروا عنها فقد لا تقتضي ، وما جاء من سائر المحرمات مضموم إليها . وإلى نحو هذا ذهب الشافعي{[8212]} . ويحتمل أن يكون تعالى إنما أخبر بأنه لا يجد محرما في وقت ما غير ما ذكر . وأما الذين ذهبوا إلى أنها لا تقتضي التحليل فقالوا إن الآية مقتضاها نفي التحريم على ما عدا المستثنى منها بالتحريم وذلك يقضي في إثبات التحليل في غيره {[8213]} وعندنا أن الأشياء قبل ورود الشرع غير محرمة وليس ذلك بتصريح بأنها محللة بل لغرض نفي الحكم والبقاء على الأصل قبل ورود الشرع . وبين الأصوليين في هذا نزاع وإلى هذا يذهب من يتغلغل في إنكار دليل الخطاب لأن دليل الخطاب في الآية تحليل ما عدا المذكور فيها .
وقد قيل : المعنى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما مما كنتم تستبيحون وتناولون ولا {[8214]} تعدونه من الخبائث محرما إلا هذه الأمور{[8215]} .
فعلى هذه التأويلات لا تقتضي الآية التحليل فيما عدا المذكور ، وما ورد من سائر المحرمات مضاف إليها . وعلى ما ذكرناه من الاختلاف في تأويل الآية ينبني اختلاف العلماء في تحريم أشياء وتحليلها . فمن ذلك السباع اختلف فيها . فعندنا فيها روايتان : إحداهما الكراهة والثانية التحريم . وأبو حنفية يقول بالتحريم وذهب الشافعي إلى أن الضبع والثعلب حلال دون غيرهما . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت لا ترى بلحوم السباع والدم يكون في أعلى العروق بأسا . وقرأت هذه الآية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية {[8216]} . فالقول بالتحليل على القول بدليل خطاب الآية . ولكن مالكا ذهب إلى الكراهة إذ لم يقو عنده دليل الخطاب ورأى ما يعارضه . والقول بالتحريم {[8217]} على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع . وفي حديث الموطأ : " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " {[8218]} . وفي هذا الحديث ضعف ومن قال بهذا رأى الآية إما منسوخة وإما مخصوصة بزمان وإما خارجة عن سبب وإما لم يقل بدليل خطابها . ومن ذلك كل ذي مخلب من الطير ، اختلف فيه . فعندنا أن أكله حلال {[8219]} وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه حرام {[8220]} . وحجة القول الأول قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية . فأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير فلعله نهي تنزيه إذ قد يصيد {[8221]} من ذوات السموم ما يخشى منه على أكلها . وحجة القول بالتحريم قول الصحابة رضي الله تعالى عنهم : نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ورأى من قال ذلك النهي على التحريم ، وفيه خلاف بين الأصوليين هل هو على التحريم أو هو على الكراهة ما لم {[8222]} يدل دليل . وتأولوا الآية على أحد الوجوه التي قدمناها وفي الاحتجاج أيضا بحديث النهي خلاف بين الأصوليين لأنه لم ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول الراوي .
ومن ذلك الحمر الأهلية اختلف في أكلها . وفيها في المذهب روايتان : التحريم والكراهة المغلظة . والتحريم قول أبي حنيفة والشافعي وأجاز ابن عباس أكلها واحتج بقوله : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية . قال عمرو بن دينار {[8223]} : قلت لجابر بن زيد {[8224]} : أنتم تزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تحريم الحمر الأهلية قال : قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمر {[8225]} والغفاري{[8226]} عندنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر – يعني ابن عباس – وقرأ : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } {[8227]} الآية . فوجه التحريم ما جاء في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية . وفي بعض الطرق حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية {[8228]} وهذا النهي {[8229]} مؤكد بظاهر القرآن في قوله عز وجل : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] فذكر المنافع التي فيها . ولو كان أكلها مباحا لنبه عليه وذكر وجه المنة به . والآية على هذا القول تتأول على أحد الوجوه التي ذكرنا . والقول بالكراهة وجه مراعاة ظاهر الآية { قل لا أجد } وما وقع بين الصحابة من الاضطراب في النهي عن لحوم الحمر الأهلية لأن منهم من رأى النهي عن ذلك نهي تحريم آت لا لسبب ، ومنهم من رآه لأنها لم تكن خمست ، ومنهم من رآه لأنها كانت حمولة الناس فخيف عليها الفناء وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له ذلك فنهى . ومنهم من رآه من أجل جوال القرية {[8230]} . وخرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علل بذلك {[8231]} .
والبغال حكمها حكم الحمير على ما ذكرناه . ومن ذلك الخيل اختلف في أكلها . ففي المذهب الكراهة وعند أبي حنيفة والشافعي الإباحة {[8232]} وقال الحكم : حرم القرآن الخيل وتلا قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] . وما خرج النسائي وأبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير " {[8233]} وقال النسائي فيه يشبه إن كان صحيحا أن يكون منسوخا لأن قوله أذن في لحوم الخيل دليل على ذلك . وتعلق من أباح بما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن أكل {[8234]} لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل . وبقوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية ولما رأى أصحابنا اختلافا لهذه الأحاديث وما تحتمله الآي من التأويل . وكان حديث الإباحة أصح ، مالوا إلى الكراهة . وقد اختلف في أشياء منها الأرنب . الجمهور على الجواز وابن أبي ليلى {[8235]} على الكراهة . والضب : الجمهور على الجواز وأبو حنيفة على الكراهة . والقنفذ واليربوع والفأرة اختلف أيضا فيهن {[8236]} ومن حجة من {[8237]} أجاز شيئا من ذلك قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية وقد مر الكلام على سائر أحكام هذه الآية بما أغنى عن إعادته .