التّفسير
لا تدع للشك طريقاً إِلى نفسك !
لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأُمم السابقة ،وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صحة ذلك ،فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال ،وليسألوهم عن ذلك ،لأنّ كثيراً من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء .
إِلاّ أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء ،خاطب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: ( فإِن كنت في شك ممّا أنزلنا إِليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ) ليثبت عن هذا الطريق بأنّه ( لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) .
ويحتمل أيضاً أنّ الآية أعلاه تطرح بحثاً جديداً ومستقلا في صدق دعوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وتعلم المخالفين أنّهم إِن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإِنجيل .
ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير{[1750]} يؤيد هذا المعنى ،وهو أن جمعاً من كفار قريش كانوا يقولون: إِنّ هذا القرآن لم ينزل من الله ،بل إِنّ الشيطان يلقيه على محمّد !!وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد ،فأجابهم بهذه الآية .
هل كان النّبي شاكّاً ؟!
يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أنّ هذه الآيات تحكي عن أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )كان شاكّاً في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه ،وأنّ الله سبحانه قد أزال شكّه عن الطريق أعلاه .
ولكن واقع الأمر أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدةكما تحكي آيات القرآن هذا المعنىومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا المورد .إِضافةً إِلى أنّ هذا الأسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج في العرف ،وهذا هو المراد من المثل المعروف: إِيّاك أعني واسمعي يا جارة ،وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد .
إِضافةً إِلى أن ذكر الجملة الشرطية لا يدل دائماً على احتمال وجود الشرط ،بل هو للتأكيد على مسألة ما أحياناً ،أو لبيان قانون كلي عام ،فنقرأ مثلا في الآية ( 23 ) من سورة الإِسراء: ( وقضى ربّك أن لا تعبدوا إلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ) وينبغي الانتباه إِلى أنّ المخاطب في الآية هو النّبي ظاهراً ،إلاّ أنّه لما كان النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد أباه قبل ولادته وأُمّه في طفولته ،فإِنّ من الواضح أنّ احترام الوالدين طُرح هنا كقانون عام بالرغم من أن المخاطب ظاهراً هو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وكذلك نقرأ في سورة الطلاق: ( يا أيّها النّبي إِذا طلقتم النساء ) وهذا التعبير لا يدل على أن النّبي قد طلق امرأة في حياته ،بل هو بيان قانون عام ،والبديع في هذا التعبير أنّ المخاطب في بداية الجملة هو النّبي ،وفي نهايتها كل الناس .
ومن جملة القرائن التي تؤيد أنّ المقصود الأساس في الآية هم المشركون والكافرون ،الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء .
ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح ،عندما يسأله الله يوم القيامة: ( ءأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إِلهين من دون الله ) ؟فإِنّه ينكر هذه المسألة بصراحة ،ويضيف: ( إِن كنت قلته فقد علمته ) سورة المائدة من الآية ( 116 ) .