فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً ،ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً ،وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات ،إلاّ أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات ،و ( أِنّي توكلت على الله ربّي وربّكم ) .
وهذا دليل على أنّني لا أقول إلاّ الحق والصدق ،وأن قلبي مرتبط بعالم آخر ،فلو فكرتم جيداً لكان هذا وحده معجزاً حيث ينهض إِنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب ،لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم ،ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه !ثمّ يضيف: لستم وحدكم في قبضة الله ،فإِنّه ( ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها ) ،فما لم يأذن به الله ،لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً .
ولكن اعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالأشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق ،بل هو الله الذي لا يفعل إلاّ الحكمة والعدل ( إِنّ ربّي على صراط مستقيم ) .
ملاحظتان
الأُولى: إِنّ «الناصية » في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة ،وهي مشتقة من «نصا » ومعناها الاتصال والارتباط ،وأخذ بناصية فلان «كناية عن القهر والتسلط عليه » فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه: ( ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها ) إشارة إلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء بحيث لا شيء في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة ،لأنّ من أحكم الإِمساك على شعر مقدم الرأس من الإِنسان أو أي حيوان آخر ،فإِنّه يُسلب منه القدرة على المقاومة عادة .
والغرض من هذه العبارة أنّ المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين الباحثين عن السلطة لا يتصوروا أنّه إذا أخلي لهم الميدان لعدّة أيّام فذلك دليل على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله ،فعليهم أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وأن ينزلوا من مركب غرورهم .
الثّانية: إِنّ جملة ( ربّي على صراط مستقيم ) من أروع التعابير في الحكاية عن قدرة الله المقترنة بعدله ،لأنّ المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون للحدود ،ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لها فهو دائماً على صراط مستقيم ،وجادة صافية ونظم وحساب ودقة !.
كما ينبغي الانتباه إلى هذه المسألة الدقيقة ،وهي أنّ كلام هود( عليه السلام ) للمشركين كان يبيّن هذه الحقيقة ،وهي أنّ الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من لجاجتهم فإِنّ القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته !فكما أن قوم هود خوّفوه بشدّة من آلهتهم و «أوثانهم » ،فإِنّ هوداً في المقابل أنذرهم بنحو أشدّ من قدرة الله القاهرة !