وحيث أنّ وعد الله حقّ ،وأنّه يُعين المجاهد ( لنفسه أو لعدوّه ) فإنّه لم يترك يوسف سُدىً وتلقفته رحمته ولطفه كما يقول القرآن الكريم: ( فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهن إنّه هو السميع العليم ) .
فهو يسمع نجوى عبيده ،وهو مطلع على أسرارهم ،ويعرف طريق الحلّ لهم .
ملاحظات
1كما رأينا من قبلُ فإنّ امرأة العزيز ونسوة مصر ،استفدن من اُمور مختلفة في سبيل الوصول إلى مرادهن ،فمرّة بإظهار العشق والعلاقة الشديدة والتسليم المحض ،ومرّة بالترغيب والطمع ،ثمّ بالتهديد ،أو بتعبير آخر: توسلن بالشهوة والمال والقوّة !!
وهذه اُصول متّحدة المآل يتوسّل بها الطغاة والمتجبرون في كلّ عصر وزمان ،حتّى لقد رأينا كراراً ومراراً أنّهم ومن أجل أن يجبروا رجال الحقّ على الاستسلام ،يظهرون لهم في مجلس واحد ليناً للغاية ويلوّحون بالمساعدات وأنواع الإمداد ترغيباً ،ثمّ يتوسلون في نهاية المجلس بالتهديد والوعيد ،ولا يلتفتون إلى ما في هذا من التناقض في مجلس واحد وما فيه من دناءة وخسّة ولؤم فاضح .
والسبب واضح ..فهم يريدون الهدف ولا تهمّهم الوسيلة ،وبتعبير آخر: يستسيغون للوصول إلى أهدافهم أي أسلوب وأيّة وسيلة كانت .
وفي هذا المحيط يستسلم الأفراد الضعاف ،سواء في أوّل المرحلة أو وسطها أو نهايتها ،إلاّ أنّ أولياء الحقّ لا يكترثون بهذه الأساليب بما لديهم من شهامة وشجاعة ونور الإيمان ويرفضون التسليم بضرس قاطع حتّى ولو أدّى ذلك إلى الموت ..وعاقبتهم الانتصار طبعاً ،انتصار أنفسهم وانتصار مبادئهم ،أو على الأقل انتصار مبادئهم .
2كثيرون هم مثل نسوة مصر ،فطالما هم جالسون حول الحمى يظهرون أنفسهم منزّهين وأتقياء ويلبسون ثياب العفّة ويعدّون الانحرافكما هو في امرأة العزيزفي ضلال مبين .
ولكن حين يتعرّضون لأدنى صدمة ينكشف أنّ أقوالهم لا تصدّق أفعالهم ..فإذا كانت امرأة العزيز بعد سنين من معاشرة يوسف قد وقعت في شرك حبّه وعشقه ،فإنّهم في أوّل مجلس يبتلون بمثل هذا المصير ويقطّعون «الأيدي » مكان «الأترنج » .
3هنا قد يرد سؤال وهو: لِمَ وافق يوسف على طلب امرأة العزيز وخرج على النسوة في المجلس ؟المجلس الذي ترتّب من أجل الإثم ،أو لتبرئة امرأة آثمة ؟!
ولكن مع ملاحظة أنّ يوسف كان بحسب الظاهر غلاماً مشترى وعليه أن يخدم في القصر ،فلعلّ امرأة العزيز استغلت هذه الفرصة والحيلة ليأتي بالطعام مثلا دون أن يعرف بهذه الخطّة ومكر النسوة .
وخاصّة أنّنا قلنا أنّ تعبير القرآن ( أخرج عليهن ) كما يظهر منه أنّه لم يكن خارجاً ،بل كان في إحدى الغرف المجاورة للمجلس كالمطبخ مثلا .
4جملة ( يدعونني إليه ) وجملة ( تصرف عنّي كيدهن ) تدلاّن جيّداً على أنّ نسوة مصرذوات الهوىبعد ما جرى لهنّ من تقطيع الأيدي والإنبهار بجمال يوسف ،وردن هذا الميدان أيضاً وطلبن من يوسف أن يستسلم لهنّ أو لامرأة العزيز ،ولكن يوسف أبى عليهنّ جميعاً ،وهذا يعني أنّ امرأة العزيز لم تكن وحدها في الجريمة بل كان لها شريكات في ذلك .
5حين يقع الإنسان أسيراً بقبضة الشدائد والحوادث وتجرّه إلى شفى الهاوية ،فعليه أن يتوكّل على الله ويلتجئ إليه ويستمدّ منه فقط ،فإذا لم يحظ بلطفه وعونه فإنّه لا يستطيع أن يقوم بأي عمل ،وهذا درس علّمنا إيّاه يوسف العظيم الطاهر الذيل ،فهو القائل: ( وإلاّ تصرف عنّي كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين ) فأنت يا ربّ الحافظ لي ،ولا أعتمد على قواي وقدرتي وتقواي .
هذه الحالة «التعلّق المطلق بلطف الله » بالإضافة إلى أنّها تمنح عبادة الله قدرة واستقامة غير محدودة ،فهي تشملهم بألطافه الخفيّة ..تلك الألطاف التي لا يمكن وصفها والتصديق بها إلاّ عند رؤيتها ومشاهدتها .
فهؤلاء هم الذين يسكنون في ظلّ الله ورحمته في الدنيا والآخرة ...فقد ورد حديث عن النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا الشأن يقول: «سبعة يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: إمام عادل ،وشابّ نشأ في عبادة الله عز وجل ،ورجل قلبه متعلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه ،ورجلان كانا على طاعة الله عز وجل فاجتمعا على ذلك وتفرّقا ،ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه ،ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إنّي أخاف الله تعالى ،ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تصدّق بيمينه »{[1879]} .