/م53
الآية التّالية ذهبت أكثر مِن الآية السابقة في التعبير عن إحاطة الله تبارك وَتعالى وَعلمه بأعمال ونيّات عباده ،فقالت: ( وَربّك أعلمُ بمن في السماوات والأرض ) .ثمّ أضافت: ( وَلقد فضلنا بعض النّبيين على بعض وآتينا داوُد زبوراً ) .
هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وَشكوكهم ،حيثُ كانوا يقولونبأُسلوب استهزائي: لماذا انتخب الله للنّبوة محمّد اليتيم ،ثمّ ما الذي حصل حتى أصبح هَذا اليتيم ليس نبيّاً وَحسب ،وإنّما خاتم الأنبياء ؟
القرآن يقول لهؤلاء: لا تعجبوا مِن ذلك ،لأنَّ الله عليم بقيمة كل إنسان ،وَهو سبحانُه وَتعالى ينتخب أنبياءه مِن بين عامّة الناس ،وَيفضل بعضهم على بعض ،إِذ جعل أحَدهم ( خليل الله ) والآخر ( كليم الله ) والثّالث ( روح الله ) ،أمّا نبيّنا فقد أنتخبُه بعنوان ( حبيب الله ) .وباختصار: لقد فضل الله بعض النّبيين على بعض لموازين يعلمها هو وَتختص بها حكمتُه جلَّ وَعلا .
أمّا لماذا اختار تبارك وَتعالى ( داود ) مِن بين جميع الأنبياء ،وَذكر ( الزبور ) مِن دون الكتب السماوية الأُخرى ؟...قد يكون السبب ما يلي:
أوّلا: يختص زبور داوُد( عليه السلام ) مِن بين جميع كُتب الأنبياء بأنَّ جميعهُ على شكل مُناجاة وَدعاء ،وَذكرهُ هُنا يتلائم أكثر مَعَ موقع هَذِهِ الآيات وَحديثها عن القول الحسن والكلام الجميل .
ثانياً: في زبور داوُد إخبار عن حكومة الصالحين الذين هُم ظاهراً أناس فقراء وَيتامى .وَهَذا الإِخبار يتناسب مَع دعوة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين الذين يكونوا عادة في زمرةِ الفقراء ،وَهو رَد على إشكال المشركين وأسئلتهم وشكوكهم{[2219]} .
ثالثاً: بالرّغم مِن أنَّ داوُد( عليه السلام ) كان له حكم عظيم وَدولة كبيرة وَملك واسع ،إِلاَّ أنَّ الله سبحانه لم يجعل هَذِهِ الأُمور سبباً لافتخاره ،بل اعتبر كتاب الزّبور فخره ،حتى يدرك المشركون أنَّ عظمة الإنسان ،ليسَ لها علاقة بالمال وَالثروة وَوجود الحكومة والسلطة ،كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاةً للذل أو دليلا على الحقارة .
رابعاً: بعض اليهود قالوا: لا يمكن نزول كتاب سماوي آخر بعدَ موسى( عليه السلام ) ،والقرآن يقول لهم: إنّنا أعطينا داوُد زبوراً ،فلماذا تتعجبون مِن نزول القرآن ؟( بالطبع كتاب داوُد كان كتاباً للأخلاق وَليسَ للأحكام ،وَلكِنَّهُ نَزَلَ من الله سبحانه وَتعالى بعد التّوراة ) .
في كل الأحوال ،ليسَ هُناك مِن مانع أن تكون النقاط الأربع أعلاه سبباً لانتخاب داوُد وَزبوره مِن بين جميع الأنبياء ،وَجميع الكتب السماوية .