التّفسير
لقاءِ موسى والخضر ( عليهما السلام ):
ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات أنَّ مجموعة مِن قريش جاؤوا إلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسألوه عن عالم كان موسى( عليه السلام ) مأموراً باتباعه ،وفي الجواب على ذلك نزلت هذه الآيات .
لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي: قصّة أصحاب الكهف التي انتهينا مِنها ؛وقصّة موسى والخضر( عليهما السلام ) ؛وقصّة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد .
هذه القصص الثلاث تخرجنا مِن الأفق المحدود في حياتنا وما تعودنا عليه وألفناه ،وتبيّن لنا أن حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نُشاهد ،وأنَّ الشكل العام للحوادث والأحداث ليسَ هو ما نفهمهُ مِن خلال النظرة الأُولى .
وإِذا كانت قصّة أصحاب الكهف تتحدث عن فتية تركوا كلّ شيء مِن أجل أن يحافظوا على إِيمانهم ،وقد أدى بهم ذلك إلى حوادث عظيمة ذات أبعاد تربوية لجميع الناس ،فإِنَّ قصّة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة أُخرى .ففي القصّة يُواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّاً مِن أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته مِن بعض النواحي ،وهو لذلك يذهب إلى معلم ( هو عالم زمانه ) ليدرس ويتعلم على يديه ،ونرى أنَّ المعلم يقوم بتعليمه دروساً يكون الواحد مِنها أعجب مِن الآخر .ثمّ إنَّ هذه القصّة تنطويكماسنرىعلى ملاحظات مهمّة جدّاً .
في أوّل آية نقرأ قوله تعالى: ( وإِذ قالَ موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً ) .
إِنَّ المعنى بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النّبي المعروف مِن أولي العزم ،بالرغم ممّا احتمله بعض المفسّرين مِن أنَّ موسى المذكور في الآية هو غير موسى بن عمران( عليه السلام ) ،وسوفَ نرىفيما بعدأنَّ اعتماد هذا الرأي كان بسبب عدم استطاعتهم حل بعض الإِشكالات الواردة في القصّة ،في حين أنّه كلما ورد اسم ( موسى ) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران .
أمّا المعني مِن ( فتاه ) فهو كما يقول أكثر المفسّرين ؛كما تُشير إلى ذلك العديد مِن الرّوايات: يوشع بن نون ،الرجل الشجاع الرشيد المؤمن مِن بني اِسرائيل .واستخدام كلمة ( فتى ) في وصفه قد يكون بسبب هذه الصفات البارزة ،أو بسبب خدمته لموسى( عليه السلام ) ومرافقتهُ له .
( مجمع البحرين ) بمعنى محل التقاء البحرين ،وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن اسم هذين البحرين ،ولكنبشكل عاميمكن إِجمال الحديث بثلاثة احتمالات هي:
أوّلا: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة » مع «خليج السويس » ( إِذا المعروف أنَّ البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين: فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكّل خليج العقبة ،والثّاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس ،وهذان الخليجان يرتبطان جنوباً ويتصلان بالبحر الأحمر ) .
ثانياً: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة «باب المندب » .
ثالثاً: محل اتصال البحر المتوسط ( الذي يسمّىأيضاًببحر الروم والبحر الأبيض ) مع المحيط الأطلسي ،يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم ( مضيق جبل طارق ) قرب مدينة «طنجة » .
الاحتمال الثّالث مُستبعد بحكم بعد مكان موسى( عليه السلام ) عن جبل طارق الذي يبعد عنهُ مسافة كبيرة جدّاً ،قد تصل فترة وصوله( عليه السلام ) إِليه عدَّة أشهر إِذا انتقل بالوسائل العادية .
أمّا الاحتمال الثّاني ،فمع أنَّ المسافة ما بينهُ وبين مكان موسى( عليه السلام ) أقرب ،إِلاَّ أنَّهُ مستبعدأيضاًبحكم الفاصل الكبير بين الشام وجنوب اليمن .
يبقى الاحتمال الأوّل هو الأقرب مِن حيث قربه إلى مكان موسى( عليه السلام ) .وما يرحج هذا الرأي هو ما نستفيده مِن الآياتبشكل عاممِن أنَّ موسى( عليه السلام ) لم يسلك طريقاً طويلا بالرغم مِن أنَّهُ كان مستعداً للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده ( فدقق في ذلك ) .
وفي بعض الرّوايات إِشارة إلى هذا المعنى أيضاً .
كلمة «حقب » تعني المدّة الطويلة والتي فسَّرها البعض بثمانين عاماً ،وغرض موسى( عليه السلام ) مِن هذه الكلمة ،هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعتهُ ولو أدّى ذلك أن أسير عِدَّة سنين .
ومِن مجموع ما ذكرنا أعلاه يتبيّن لنا أن موسى( عليه السلام ) كان يبحث عن شيء مهم وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده وعدم التهاون في ذلك إِطلاقاً .
إنّ الشيء الذي كان موسى( عليه السلام ) مأموراً بالبحث عنه لهُ أثرٌ كبير في مستقبله ،وبالعثور عليه سوف يفتتح فصلٌ جديدٌ في حياته .
نعم ،إِنَّهُ( عليه السلام ) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب مِن أمام عينيه ويُريه حقائق جديدة ،ويفتح أبواب العلوم أمامه ،وسنعرف سريعاً أنَّ موسىْ( عليه السلام ) كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير ،وكانَ( عليه السلام ) يتحرك باتجاه تلك العلامة .