التّفسير
الإِيمان والمحبوبية:
هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم ،والكلام فيها أيضاً عن المؤمنين ،والظالمين الكافرين ،وعن القرآن وبشاراته وإنذاراته ،وهيفي الحقيقةعصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة .
تقول أوّلا: ( إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً ) .
لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الآية خاصّة بأمير المؤمنين( عليه السلام ) ،والبعض اعتبرها شاملة لكل المؤمنين .
وقال آخرون: إِنّ المراد أنّ الله سبحانه يلقي محبّة هؤلاء في قلوب أعدائهم ،وتصبح هذه المحبّة رباطاً ولجاماً في رقابهم تجرهم إلى الإِيمان .
وذهب البعض بأنّها تعني محبة المؤمنين بعضهم لبعض ،والتي تكون سبباً في قوتهم وزيادة قدرتهم ،ووحدة كلمتهم .
واعتبرها بعضهم إِشارة إلى محبّة المؤمنين وإِخوتهم لبعضهم في الآخرة ،وقالوا: بأنّ هؤلاء سيعيشون نوعاً من ا لعلاقة فيما بينهم بحيث يكونون في أعلى درجات السعادة والسرور .
غير أننا إِذا فكرنا وتدبرنا بسعة نظر في المفاهيم الواسعة للآية ،فسنرى أن جميع هذه التفاسير قد جمعت في معنى الآية بدون أن تتضاد مع بعضها .
والنقطة الرئيسية للآية ،هي أنّ للإِيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة ،فإنّ الاعتقاد بوحدانية الله ،والإِيمان بدعوة الأنبياء ،والذي يتجلى نوره في روح الإِنسان وفكره ،وقوله وعمله ،بصورة أخلاق إِنسانية عالية ،وكذلك يتجلى في التقوى والطهارة ،والصدق والأمانة ،والشجاعة والإِيثار ،فيها قوة مغناطيسية عظيمة جاذبة وخاطفة .
وحتى الأفراد الملوثون ،فإِنّهم يرتاحون للطاهرين الصالحين ،ويتنفرون من القذرين أمثالهم ،ولذلك فإنا نراهممثلاإِذا أقدموا على الزواج فإنّهم يؤكّدون على توفر جانب العفة والطهارة والأمانة والصدق في الزوجة .
وهذا أمر طبيعي ،وهو في الحقيقة أوّل مكافأة يعطيها الله للمؤمنين والصالحين في هذه الدنيا وتصحبهم إلى عالم الآخرة أيضاً .
لقد رأينا بأُم أعيننا كثيراً من هؤلاء الأتقياء عندما يحين أجلهم ويرتحلون عن هذه الدنيا ،فإنّ الناس يبكونهم ،بالرغم من أنّهم لم يكن لهم منصب ولا مركز اجتماعي ،ولكن الناس يشعرون بفقدهم ،ويعتبرون أنفسهم شركاء في مصاب هؤلاء وعزائهم .
أمّا ما اعتقده البعض من أنّ ذلك في شأن أمير المؤمنين( عليه السلام ) ،وقد أشير إلى ذلك في روايات عديدة ،فإنّ الدرجة العالية والمرحلة السامية منه مختصة بإمام المتقينوسنبحث بعض هذه الرّوايات مفصلا في الملاحظات الآتيةإلاّ أنّ هذا لا يكون مانعاً من أن يذوق ويتمتع كل المؤمنون والصالحون في المراتب الأُخرى بطعم المحبّة هذا ،ويحظون به لدى عامّة الناس ،وأن يفوزوا بسهم من هذه المودّة الإِلهية .وسوف لا يكون مانعاً من أن يضمر الأعداءأيضاًفي داخلهم المحبّة والاحترام تجاه هؤلاء .
وهناك نكتة لطيفة نقرؤها في حديث عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إِنّ الله إِذا أحبّ عبداً دعا جبرئيل ،فقال: يا جبرئيل ،إِنّي أحب فلاناً فأحبّه ،قال: فيحبّه جبرئيل ،ثمّ ينادي في أهل السماء: إِن الله يحب فلاناً فأحبّوه ،قال: فيحبّه أهل السماء ،ثمّ يوضع له القبول في الأرض .
وإِن الله إِذا أبغض عبداً دعا جبرئيل ،فقال: يا جبريئل ،إِنّي أبغض فلاناً فابغضه ،قال: فيبغضه جبرئيل ،ثمّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله يبغض فلاناً فابغضوه ،قال: فيبغضه أهل السماء ،ثمّ يوضع له البغضاء في الأرض »{[2401]} .
إِنّ هذا الحديث العميق المحتوى يبيّن أن للإِيمان والعمل الصالح نوراً وضياء بسعة عالم الوجود ،ويعم نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم الخلقة ،وإِن الذات الإِلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد ،فهم محبوبون عن كل أهل السماء ،وتقذف هذه المحبّة في قلوب أهل الأرض .
حقاً ،أي لذة أكبر من أن يحس الإِنسان بأنّه محبوب من قبل كل الطاهرين والصالحين في عالم الوجود ؟وأي عذاب أشد من أن يشعر الإِنسان بأن الأرض والسماء والملائكة والمؤمنين جميعاً متنفرون ومشمئزون منه ؟!